بوجود جيلمان وفاينمان معا في كالتك، صار ذلك هو المكان الذي يتجه إليه الفيزيائيون لتلقي العلم، وللتعاون، أو ببساطة لطرح أفكارهم على العبقرية التي اجتمعت في أعظم عقلين فيزيائيين ظهرا في جيلهما. وكان يتعاقب شباب علماء الفيزياء النظرية الواعدون للدراسة هناك ومن ثم ينتقلون للبحث عن عوالم جديدة تماما. فاينمان ذاته لم يتخرج على يديه أي طالب تقريبا، غير أن جاذبية فاينمان وجيلمان مجتمعين كانت كافية لاجتذاب كل من الطلاب والباحثين الحاصلين على الدكتوراه إلى المعهد، الذين كلل العديد منهم بعد ذلك بجوائز نوبل.
بعضهم انتابه الذهول من الاهتمام الذي لقيه هناك. قدم باري باريش، وكان حينها شابا من العلماء التجريبيين لا يزال في بداية طريقه قادما من بيركلي ثم صار بعدها زميلا لفاينمان في كالتك، حلقة دراسية هناك وانبهر لرؤية فاينمان بين الحضور ثم بملاحقته له بالأسئلة. وحكى لي باريش مؤخرا عن شعوره بالرضا عن ذاته وبأهميته في تلك اللحظة. بمعنى أنه كان يظن نفسه مميزا إلى أن أخبره الآخرون بأن فاينمان حضر جميع ندواتهم وكان يطرح الكثير من الأسئلة دائما؛ فلم يكن هناك شيء مميز في زيارته تلك لباريش.
في الوقت نفسه كان المكان يبدو مخيفا أحيانا. فقد كان جيلمان قاسيا في نقده، وعادة ما كان يوجه هذا النقد في جلسات خاصة. وفي الأحيان النادرة التي لم ير فيها فاينمان قيمة كبيرة لعمل شخص ما، كان يزدريه صراحة وربما يفعل ما هو أسوأ. ولم يكن ما يغضبه يبدو واضحا دائما. من المؤكد أنه لم يكن يطيق صبرا على الهراء، لكن من الواضح أيضا أن رد فعله كان سلبيا تجاه مناهج صحيحة بل ربما كانت تنم عن عبقرية، غير أنها كانت تعكس نمطا لا يروق له. ومن الأمثلة على ذلك استقباله لأحد شباب علماء الفيزياء النظرية، وهو ستيفن واينبرج، عندما ذهب إلى كالتك لتقديم ندوة علمية حول أفكاره. كان واينبرج، الذي صار فيما بعد واحدا من أكثر علماء الفيزياء في العالم تمتعا بالاحترام والتقدير (وتقاسم فيما بعد جائزة نوبل مع آخرين لتوصله لنظرية مكتملة حول التفاعل الضعيف، موحدا إياه مع الكهرومغناطيسية)، يسعى للتوصل إلى حلول تفصيلية رسمية، متجها ببحثه من العام إلى الخاص؛ عكس اتجاه عمل فاينمان في الغالب. وجه فاينمان وجيلمان لهذا الفيزيائي الذي كان من الواضح أنه يحمل قيمة علمية فذة سيلا من الأسئلة القاسية حتى إنه لم يستطع إنهاء حديثه تقريبا.
كان غضب فاينمان في الغالب مقصورا على أولئك الذين كان يشعر أنهم يسيئون استغلال الفيزياء بطرحهم مزاعم لا تقوم على أساس، وعادة ما تكون مبنية على أدلة غير كافية. فمن وجهة نظر فاينمان، كانت الفيزياء تأتي في المقام الأول، ولم يكن يهتم بالأشخاص. ولعل أشهر مثال أعرفه أنا شخصيا على هذا واقعة جمعته وفريد راينز، الذي فاز بعد ذلك بجائزة نوبل عام 1995 عن تجربة أجراها عام 1956 وأثبتت لأول مرة وجود النيوترينوات. استمر راينز في أبحاثه حول النيوترينوات الآتية من المفاعلات النووية، وبعدها بزمن طويل في عام 1975 زعم أنه يمتلك الدليل على أن النيوترينوات، التي لها أنواع عديدة، تتذبذب من نوع إلى آخر أثناء خروجها من المفاعل. ولو كان هذا صحيحا، فإن النتيجة سوف تكون بالغة التأثير (وتبين بالفعل أن النيوترينوات تتذبذب، ولكن ليس بالطريقة التي افترضها راينز). فحص فاينمان البيانات وشرح أن التأثير المزعوم ليس قائما على أساس مؤكد وواجه راينز علنا بنتائجه، وفي نهاية المطاف أجهض الزعم الخاطئ. ولعل هذا الموقف المحرج هو ما أدى إلى تأخير حصول راينز على جائزة نوبل لفترة تقترب من أربعين عاما منذ اكتشافه الأول.
على أي حال، في عام 1957، أزاح عمل فاينمان مع جيلمان في موضوع التفاعل الضعيف عن كاهل الأول عبئا ثقيلا حمله معه على مر السنين مع مواصلة تألقه وشهرته في مجتمع الفيزياء حتى بعد أن ظل على المستوى الشخصي متشككا في أهمية عمله في مجال الديناميكا الكهربائية الكمية. ومع أنه لم يفقد أبدا اهتمامه بفيزياء الجسيمات، فإنه بدا أكثر حرية في التجوال في ميادين أخرى وتجربة مواهبه فيها.
في الوقت نفسه، كان عقله في حالة تجوال أيضا في ميادين أخرى. كانت علاقاته الشخصية تعود للفوضى من جديد. في عام 1958، حين كان في جنيف لتقديم استعراض عام لفيزياء التفاعل الضعيف في واحد من أوائل مؤتمرات روتشيستر التي تعقد بالخارج، كان قد خطط للسفر بصحبة زوجة واحد من معاونيه في البحوث بكالتك، التي كان فيما يبدو على علاقة غرامية بها. وكان هذا يحدث على الرغم من اقتراب علاقة أخرى من نهاية قاسية، وكانت مع امرأة متزوجة أيضا، وكان زوج تلك المرأة يستعد لمقاضاتها طالبا الحصول على تعويض. وفي نهاية المطاف خبا كل هذا الصخب، وأخيرا أعادت العشيقة المهجورة لفاينمان ميدالية ذهبية نالها كجزء من جائزة أينشتاين عام 1954 وبعض اللوحات التي رسمتها آرلين.
في جنيف، وجد فاينمان نفسه وحيدا، إذ إن عشيقته قررت تجنب سويسرا والالتقاء به لاحقا في إنجلترا. وعلى الشاطئ التقى بشابة إنجليزية تبلغ من العمر أربعة وعشرين عاما، اسمها جوينيث هاوارث، كانت تجوب العالم وفق نظام التبادل الطلابي، وفي ذلك الوقت كانت على علاقة مع ما لا يقل عن صديقين آخرين غيره، وبهذا كانا متعادلين في هذا المضمار. ليس من المستغرب أنه اصطحبها إلى أحد النوادي الليلية في تلك الليلة، لكن الغريب حقا، أنه قبل أن يغادر جنيف دعاها للالتحاق بالعمل لديه مدبرة منزل في الولايات المتحدة، وعرض عليها معاونتها في كافة إجراءات الهجرة المطلوبة. (ولم يعرف إن كان استمر في الالتقاء بعشيقته الأخرى في لندن أم لا.) حدثت بالطبع تأجيلات لا مفر منها، وبينما استمر فاينمان في التعامل مع عواقب علاقته بعشيقته المهجورة الأخرى، التي فكر في الزواج منها فعلا، دخلت جوينيث في عدة علاقات عاطفية وظلت متأرجحة في قرارها بين المجيء وعدمه. وهكذا، وعلى الرغم من أنه كان من الواضح أن شرارة الحب اشتعلت بينهما، فمن الصعب أن نعلم على وجه الدقة ما كان يدور في ذهن فاينمان، أو جوينيث من كل هذا.
علم فاينمان أنه في ظل الظروف السائدة قد يبدو من غير الملائم على أفضل تقدير، أو من غير القانوني على أسوأ تقدير، لرجل في الأربعين من عمره أن يساعد على أن تنتقل هذه المرأة التي لا يتجاوز عمرها أربعة وعشرين عاما كي تعيش معه تحت سقف واحد، وهكذا تطوع زميل له، وهو فيزيائي مرح يعشق حياة الانطلاق من العلماء التجريبيين واسمه ماثيو ساندز، بترتيب الإجراءات وجعل المستندات باسمه هو. وأخيرا، وبعد أن مرت فترة جاوزت العام من التأجيلات، وصلت جوينيث إلى باسادينا في صيف عام 1959، وساعدت على تحويل المنزل الذي كان مظهره ينبئ بوضوح عن أن ساكنه عزب وحيد إلى ما يمكن أن يطلق عليه اسم منزل. ومع أنها كانت تواعد رجالا آخرين - وإن كان يصعب الجزم إن كان هذا مجرد ادعاء أم لا - فإن هذا السلوك تراجع أيضا، وصارت تصاحب فاينمان في نهاية الأمر في المناسبات الاجتماعية، وكثيرا ما كانا يغادران الحفل كل بمفرده للمحافظة على المظاهر. وبعد ما يربو على عام بقليل من وصولها، عرض فاينمان عليها الزواج.
كانت تلك القصة تصلح لأحد أفلام الدرجة الثانية، لا الحياة الواقعية، وكانت جميع الأسباب متوافرة لتنبئ بأن سلوك فاينمان المتهور سوف يفضي - مثلما حدث في العديد والعديد من مغامراته العاطفية السابقة - إلى كارثة. غير أن هذا لم يحدث. فبعدها بعامين صار لديهما ابن، يدعى كارل، وكلب. وانتقلت أم ريتشارد للسكن بالقرب منهما، واشترى هو منزلا قريبا من منزل زميله ومعاونه جيلمان وعروسه البريطانية الجديدة. وصار فاينمان رب أسرة. وتبنى مع جوينيث فيما بعد طفلة أخرى، وهي ابنتهما ميشيل، وظلا يعيشان حياة زوجية سعيدة حتى وفاته.
أخيرا عرفت حياة فاينمان الشخصية طريق الاستقرار - وعلى أي حال كان من المستحيل أن تصل إلى درجة من عدم الاستقرار تفوق ما وصلت إليه بالفعل - غير أن ذهنه ظل يعمل دون كلل أو ملل. فكر في الانتقال إلى ميدان علمي آخر فتلهى قليلا بعلم الوراثة، وكان مشجعه في ذلك صديقه، عالم الفيزياء الذي تحول إلى عالم أحياء والذي فاز بعد ذلك بجائزة نوبل، ماكس ديلبروك. غير أن هذا الأمر لم يستمر طويلا.
صفحة غير معروفة