============================================================
ناس كثير ... فتفقدت في الأصناف نفس، وضقت بذلك ذرعا، فقصدت إلى هدي المهتدين بطلب السداد واهدى، واسترشدت العلم، وأعملت الفكر فتبين لي من كتاب الله، وسنة نبيه، وإجماع الأمة، أن اتباع الهوى يعمي عن الرشد ...
فعظمت مصيبتي لفقد الأولياء الأتقياء، وخشيت بغتة الموت أن يفجأني على اضطراب من عمري لاختلاف الأمة، فانكمشت في طلب عالملم آجد ي من معرفته بدا.
ولا نعلم في هذا الكلام ما يوحي بأزمة نفسية بالمعنى الحديث ، وإنما هو صراع بين النفس والروح كان قوامه : هل يخضع الإمام المحاسبي لعرف العصر ، ويلتمس الشهرة في حلقات العلم المعروفة في عصره، وبين صيحات الجدل وحب الظهور على الخصوم؟ أو يؤمن بنظرية الخمول، وإنكار الذات، والعمل من أجل الحق ، دون انتظار جزاء؟
لقد اختار الإمام المحاسبي المنهاج الثاني ، ونبذ المنهاج الأول، وفضل أن يكون فقيها بالقدر الذي يمكنه من معرفة الأركان والشروط والواجبات، أو أن يكون فقيها واسع الاطلاع لا ليخوض المعركة مع الخائضين، ولكن ليتلمس أصول الداء ي المجتمع الذي يعيش فيه ، والذي تهدده الأهواء والفتن.
لقد عرض علينا الإمام المحاسبي نموذجا من فقهه الواسع وخبرته الشاملة بآراء المعاصرين والسابقين له في كتابه "المكاسب" عند حديثه عن مذاهب السلف في المطاعم والملابس، ولكنه أعطانا صورة مشرفة هدف الفقيه الذي يقارن بين الآراء الا ويمتصها تماما، ويصل غاية المجتمع الإسلامي بغاية الفكر ، لا سيما وهو ينقد الزهاد القائلين باعتزال الحاكم الظالم ، وعدم مشاركته في الحرب حتى ولو أغار على البلاد مغير، أو ينقد الذين اختاروا الحياة على اللقاط، أو على ما تنبته الأرض من أعشاب، أو غير ذلك من وجوه الحياة السلبية التي تتنافى مع هدف الإسلام من العمل والجهاد والبذل في سبيل إعلاء كلمة الله وتحطيم كلمة الالحاد .
صفحة ١٩