البلاغة ١ - البيان والبديع - جامعة المدينة
الناشر
جامعة المدينة العالمية
تصانيف
أتناول الآن معنى كلمة المعاني الثانوية، أو الاعتبار المناسب، أو كلمة النظم، أو الخصائص التراكيب معناها عن طريق هذه الآية، فأي واحد يأتي ويقول: هذا سؤال من الله، وهذا جواب من موسى ﵇: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ (طه: ١٧، ١٨)، لكن البلاغي لا ينظر إلى مجرد هذه الكلمات وحسب، فما يقتضيه الكلام أن الجواب لا بد أن يكون على قدر السؤال، فعندما يسأل ربنا -جل وعلا- موسى ﵇ ويقول له: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ الأصل أن يقول: عصا، هكذا دون حتى ما ذكر للمسند إليه؛ لأنه مفاد من خلال السؤال، لكن موسى ﵇ يقول: هي، فيذكر المسند إليه هو المبتدأ، ﴿هِيَ عَصَايَ﴾، لا يكتفي بكلمة عصا، بل يضيفها إلى نفسه، ثم يقول بعد ذلك ﴿أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي﴾ رب العزة سبحانه لم يطلب منه هذا كله، ولم يقل له: ماذا تفعل بهذه العصا، لكنه يقول ذلك من باب التلذذ بحضرة الله ﷾؛ لأنه يكلم من؟ يكلم رب العزة ﷾، ولذلك كان من أشياء التي يعاقب الله بها هؤلاء الذين يستحقون العقاب يقول: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ﴾ (آل عمران: ٧٧) فجعل ذلك عقابًا لمن يستحق هذا العقاب.
إذن فالكلام مع الله فيه استشعار للذة، وهذا ما كان لموسى ﵇ ﴿أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ (طه: ١٨)، وكأنه كان ينتظر من الله ﷾ أن يقول له: وما تلك المآرب الأخرى، هذه المعاني ما كان لها أن تفهم بحال من الأحوال إلا بتعاطي علوم البلاغة، وهذه المعاني هي التي تُسمى المعاني الثانوية يعني: التي تضاف للمعاني اللغوية، أو الوضعية التي تواضع عليها العرب، كذلك عندما تقول مثلًا: ما أنا قلت هذا، هنا إثبات، أي واحد ممكن أن يقول: هو نفي للقول عن نفسه، لكن البلاغي لا ينظر إلى مجرد هذا، وإنما يجد أن هنا تقديم
1 / 16