الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة
محقق
أبي مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني
الناشر
الفاروق الحديثة للطباعة والنشر
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
تصانيف
الرد عَلَى من اتبع غير المذاهب الأربعة
2 / 617
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمدُ لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، وصلَّى الله عَلَى محمد عبده ورسوله، النبي ﷺ الأمي خاتم النبيين وإمام المتقين، المبعوث بالدِّين القيم، والشريعة الباقية المؤيَّدة المحفوظة، الَّذِي لا يزال من أمَّته طائفةٌ ظاهرين عَلَى الحق لا يضرُّهم من خذلهم حتى تقوم الساعة.
أما بعدُ:
فقد بلغني إنكارُ بعض الناس عَلَى إنكاري عَلَى بعض من ينتسبُ إِلَى مذهب الإمام أحمد وغيره من مذاهب الأئمة المشهورين في هذا الزمان: الخروج عن مذاهبهم في مسائل، وزعم أنَّ ذلك لا يُنكر عَلَى مَنْ فعله، وأنَّ من فعله قد يكون مُجتهدًا مُتبعًا للحق الَّذِي ظهر له، أو مقلدًا لمجتهد آخر. فلا يُنكر ذلك عليه.
فأقولُ وبالله التوفيق، وهو المُستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله:
لا ريب أنَّ الله تعالى حفظ لهذه الأمة دينها؛ حفظًا لم يحفظ مثله دينا غير دين هذه الأمة؛ وذلك أنَّ هذه الأمة ليس بعدها نبيٌّ يُجدد ما دثر من دينها، كما كان دينُ من قبلنا من الأنبياء، كلَّما دثر دينُ نبي جدَّده نبيُّ آخر يأتي بعده.
فتكفّل الله سبحانه بحفظ هذا الدين، وأقام له فى كلِّ عصر حملةٌ ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين.
وقال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (١). فتكفَّل الله
2 / 619
وقال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (١). فتكفَّل الله سبحانه بحفظ كتابه، فلم يتمكّن أحدٌ من الزيادة في ألفاظه ولا من النقص منها.
وقد كان النبيُّ ﷺ يُقرئ أمَّته القرآن في زمانه عَلَى أحرفٍ مُتعددة؛ تيسيرًا عَلَى الأمة لحفظه وتعلمه، حيث كان فيهم العجوزُ والشَّيخ الكبير، والغلام والجارية والرجلُ الَّذِي لم يقرأ كتابًا قط.
فطلب لهم الرخصة في حفظهم له أن يُقرئهم عَلَى سبعة أحرف؛ كما ورد ذلك في حديث أبي بن كعب وغيره (٢).
ثم لما انتشرت كلمةُ الإسلام في الأقطار، وتفرَّق المسلمون في البُلدان المتباعدة صار كلُّ فريق منهم يقرأ القرآن عَلَى الحرف الَّذِي وصل إِلَيْهِ.
فاختلفوا حينئذٍ في حروف القرآن، فكانوا إذا اجتمعوا في الموسم أو غيره اختلفوا في القرآن اختلافًا كثيرًا.
فأجمع أصحابُ النبي ﷺ في عهد عُثمان عَلَى جمع الأمَّةِ عَلَى حرفٍ واحد، خشية أن تختلف هذه الأمة في كتابها كما اختلف الأممُ قبلهم في كُتبهم، ورأوا أنَّ المصلحة تقتضي ذلك.
وحرَّقوا ما عدا هذا الحرف الواحد من المصاحف (٣)، وكان هذا من محاسن أمير المؤمنين عثمان ﵁ التي حمده عليها عَليِّ وحُذيفة وأعيانُ الصحابة.
_________
(١) الحجر:٩.
(٢) أخرج ذلك من حديث أبي بن كعب: مسلم في "الصحيح" رقم (٢٨١)، وأحمد في "المسند" (٥/ ١٢٧، ١٢٩) وعن ابن عباس: البخاري في "الصحيح" رقم (٤٩٩١)، ومسلم في "الصحيح" رقم (٨١٩)، وأحمد في "المسند" (١/ ٢٦٤. ٢٩٩، ٣١٣).
(٣) أخرج ذلك البخاري في "الصحيح" رقم (٤٩٨٧) من حديث أنس.
2 / 620
وإذا كان عُمر قد أنكر عَلَى هشام بن حكيم بن حزام عَلَى عهد النبي ﷺ في آيةٍ أشدُّ الإنكار، وأبيُّ بن كعب حصل له بسبب اختلاف القرآن ما أخبر به عن نفسه من الشك، وبعض من كان يكتبُ الوحي للنبي ﷺ ممن لم يرسخ الإيمانُ في قلبه ارتد، بسبب ذلك حتى مات مرتدًّا.
هذا كلُّه في عهد النبي ﷺ، فكيف الظن بالأمّة بعده أنْ لو بقي الاختلافُ في ألفاظ القرآن بينهم.
فلهذا ترك جمهورُ علماء الأمة القراءة بما عدا هذا الحرف الَّذِي جمع عثمان عليه المسلمين، ونهوا عن ذلك. ورخَّص فيه نفرٌ منهم (١)، وحُكي رواية عن أحمد ومالك مع اختلاف عنهما عَلَى ذلك به في الصلاة وغيرها أم خارج الصلاة فقط.
وبكل حال: فلا تختلف الأمة أنه لو قرأ أحدٌ بقراءة ابن مسعود ونحوها مما يخالف هذا المُصحف المجتمع عليه، وادَّعى أنَّ ذلك الحرف الَّذِي قرأ به هو حرف زيد بن ثابت الَّذِي جمع عليه عثمانُ الأمَّة، أو أنَّه أولى بالقراءة من حرف زيد: لكان ظالمًا متعديًا مستحقًّا للعقوبة. وهذا لا يختلف فيه اثنان من المسلمين. إِنَّمَا محل الخلاف: إذا قرأ بحرف ابن مسعود ونحوه مع اعترافه أنَّه حرفُ ابن مسعود المخالف لمصحف عثمان ﵁.
وأما سنَّة النبي ﷺ: فإنَّها كانت في الأمة تُحفظ في الصدور كما يُحفظ القرآن، وكان من العُلَمَاء من يكتبها كالمصحف، ومنهم من ينهى عن كتابتها.
ولا ريب أنَّ الناس يتفاوتون في الحفظ والضبط تفاوتًا كبيرًا.
_________
(١) منهم ابن مسعود ﵁ (٣١٠٣) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن أبي داود في "المصاحف" كما في "الفتح" (٩/ ١٩) عن أنس.
2 / 621
ثم حدث بعد عصر الصحابة قومٌ من أهل البدع والضلال، أدخلوا في الدين ما ليس منه وتعمَّدوا الكذب عَلَى النبي ﷺ.
فأقام الله ﷺ تعالى لحفظ السنَّة أقوامًا ميَّزوا ما دخل فيها من الكذب والوهم والغلط، وضبطوا ذلك غاية الضبط وحفظوه أشد الحفظ.
ثم صنَّف العلماءُ التصانيف في ذلك، وانتشرت الكتبُ المؤلفة في الحديث وعلومه، وصار اعتماد الناس في الحديث الصحيح عَلَى كتابي الإمامين أبي عبد الله البُخاري، وأبي الحسين مُسلم بن الحجاج القُشيري ﵄.
واعتمادُهم بعد كتابيهما عَلَى بقيّة الكُتب الستة خصوصًا سُنن أبي داود وجامع أبي عيسى وكتاب النسائي ثم كتاب ابن ماجه.
وقد صُنّف في الصحيح مصنفات أخر بعد صحيحي الشيخين، لكن لا تبلغ مبلغ كتابي الشيخين.
ولهذا أنكر العُلَمَاءُ عَلَى من استدرك عليهما الكتاب الَّذِي سمَّاه المستدرك.
وبالغ بعضُ الحفَّاظ فزعم أنه ليس فيه حديث واحد عَلَى شرطهما.
وخالفه غيرهُ، وقال: يصفو منه حديثٌ كثير صحيح. والتحقيق: أنَّه يصفو منه صحيحٌ كثير عَلَى غير شرطهما؛ بل عَلَى شرط أبي عيسى ونحوه، وأما عَلَى شرطهما فلا.
فقلَّ حديثٌ تركاه إلا وله علةٌ خفية؛ لكن لعزة من يعرف العلل كمعرفتهما وينقده، وكونه لا يتهيأ الواحد منهم إلا في الأعصار المُتباعدة: صار الأمر في ذلك إِلَى الاعتماد عَلَى كتابيهما، والوثوق بهما والرجوع إليهما، ثم بعدهما إِلَى بقية الكتب المُشار إليها.
ولم يُقبل من أحد بعد ذلك الصحيحُ والضعيف إلا عمَّن اشتُهر حذقه ومعرفته بهذا الفن واطلاعُه عليه، وهم قليل جدًّا.
2 / 622
وأمَّا سائر الناس، فإنَّهم يعوَّلون عَلَى هذه الكتب المشار إليها، ويكتفون بالعزو إليها.
وأما الأحكام ومسائل الحلال والحرام؛ فلا ريب أنَّ الصحابة والتابعين ومن بعدهم اختلفوا في كثيرٍ من هذه المسائل اختلافًا كثيرًا، وكان في الأعصار (المتقدمة) (*) كلُّ من اشتُهر بالعلم والدين يفتي بما ظهر له أنَّه الحق في هذه المسائل، مع أنَّه لم يخل من كان يشذ منهم عن الجمهور عن إنكار العُلَمَاء عليه.
كما كان يُنكر عَلَى ابن عباس ﵁ مسائل متعددة تفرَّد بها (١).
وأُنكر ذلك عَلَى أتباعه أشدُّ من الإنكار عليه، حتى كان ابنُ جُريج لما قدم البصرة، إذا رآه الناسُ دخل المسجد الجامع رفعوا أيديهم ودعوا الله عليه؛ لشذوذه بتلك المسائل التي تلقَّى عن أصحاب ابن عباس، حتى أنَّه رجع عن بعضها قبل أن يخرج من عندهم. وهذا مع أنَّ الناس حينئذٍ كان الغالبُ عليهم الدين والورع.
فكان ذلك يُريحهم عن أن يتكلَّم أحدُهم بغير علم، أو ينصب نفسه للكلام، وليس هو لذلك بأهل.
ثم قلَّ الدينُ والورع، وكثرُ من يتكلم في الدين بغير علم، ومن ينصب نفسه لذلك وليس هو له بأهل.
فلو استمر الحالُ في هذه الأزمان المتأخِّرة عَلَى ما كان عليه في الصدر الأول بحيث أنَّ كلَّ أحدٍ يُفتي بما يدَّعي أنَّه يظهر له أنَّه الحق؛ لاختل به نظامُ الدين لا محالة، ولصار الحلالُ حرامًا والحرام حلالًا.
ولقال كلُّ من شاء ما يشاء، ولصار دينُنا بسبب ذلك مثل دين أهل الكتابين من قبلنا.
_________
(*) المتقادمة: "نسخة".
(١) كقوله في الربا والمتعة.
2 / 623
فاقتضت حكمةُ الله سبحانه أن ضبط الدين وحفظه: بأن نصب للناس أئمة مجتمعًا عَلَى علمهم ودرايتهم وبلوغهم الغاية المقصودة في مرتبة العِلْم بالأحكام والفتوى، من أهل الرأي والحديث.
فصار الناس كلُّهم يعولون في الفتاوى عليهم، ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم.
وأقام الله من يضبط مذاهبهم ويحرر قواعدهم، حتى ضُبط مذهبُ كل إمام منهم وأصوله، وقواعدُه وفصوله، حتى تُرد إِلَى ذلك الأحكام ويُضبط الكلامُ في مسائل الحلال والحرام.
وكان ذلك من لُطف الله بعباده المؤمنين، ومن جُملة عوائده الحسنة في حفظ هذا الدين.
ولولا ذلك: لرأي النَّاسُ العجبَ العُجاب، من كلِّ أحمق متكلِّف مُعجبٍ برأيه، جريء عَلَى الناس وثَّاب.
فيدَّعى هذا أنَّه إمامُ الأئمة، ويدَّعي هذا أنَّه هادي الأمة، وأنَّه هو الَّذِي ينبغي الرجوعُ دون الناس إِلَيْهِ، والتعويل دون الخلق عليه.
ولكن بحمد الله ومنته انسدَّ هذا الباب الَّذِي خطرُه عظيم وأمره جسيم، وانحسمت هذه المفاسدُ العظيمة وكان ذلك من لُطف الله تعالى لعباده وجميل عوائده وعواطفه (الحميمة) (*).
ومع هذا فلم يزل يظهر من يدَّعى بلوغَ درجة الاجتهاد، ويتكلّم في العِلْم من غير (تقليدٍ لأحد) (**) من هؤلاء الأئمة ولا انقياد.
فمنهم من يسوغ له ذلك؛ لظهور صدقه فيما ادّعاه، ومنهم من ردَّ عليه قوله وكُذِّب في دعواه.
وأمَّا سائرُ الناس ممن لم يصل إِلَى هذه الدرجة فلا يسعهُ إلا تقليدُ أولئك الأئمة، والدخول فيما دخل فيه سائرُ الأمة.
_________
(*) الرحيمة " " نسخة".
(**) تقيد بأحد: "نسخة".
2 / 624
فإن قال أحمق متكلف: كيف يُحصر الناسُ في أقوال علماء (متعينين) (*) ويُمنع من الاجتهاد، أو من تقليد غير أولئك من أئمة الدين.
قِيلَ لَهُ: كما جمع الصحابةُ ﵃ الناسَ عَلَى حرفٍ واحد من حُروف القرآن، ومنعوا الناس من القراءة بغيره في سائر البُلدان؛ لما رأوا أنَّ المصلحةَ لا تتم إلا بذلك، وأنَّ الناس إذا تُركوا يقرءون عَلَى حروفٍ شتَّى وقعوا في أعظم المهالك.
فكذلك مسائلُ الأحكام وفتاوى الحلالِ والحرام، لو لم تُضبط الناسُ فيها بأقوال أئمة معدودين؛ لأدَّى ذلك إِلَى فساد الدين، وأن يُعد كلُّ أحمق متكلف طلبت الرياسة نفسُه من (زمرة) (**) المجتهدين، وأن يبتدع مقالةٌ ينسبها إلي بعض من سلف من المتقدمين؛ فربما كان بتحريف يُحرِّفه عليهم، كما وقع ذلك كثيرًا من بعض الظاهريين، وربما كانت تلك المقالة زلةٌ من بعض من سلف قد اجتمع عَلَى تركها جماعةٌ من المسلمين.
فلا تقتضي المصلحةُ غير ما قدَّره الله وقضاه من جمع الناس عَلَى مذاهب هؤلاء الأئمة المشهورين ﵃ أجمعين.
فإن قيل: الفرقُ بين جمع الناس عَلَى حرفٍ واحد من الحروف السبعة من أحرف القرآن وبين جمعهم عَلَى أقوال فقهاء أربعة، أنَّ تلك الحروف السبعة (كانت) (١) يُقال: معناها واحد أو متقارب، والمعنى حاص بهذا الحرف.
وهذا بخلاف قول الفقهاء الأربعة؛ فإنه يجوز أن يتفقوا عَلَى شيء ويكون الحق خارجًا عنهم.
قيل: هذا قد منعه طائفةٌ من العُلَمَاء وقالوا: إِنَّ الله لم يكن ليجمع هذه الأمة عَلَى ضلالة.
وفي ذلك أحاديثٌ تعضُد ذلك.
_________
(*) معينين: "نسخة".
(**) جملة: "نسخة".
(١) كذا!!.
2 / 625
وعلى تقدير تسليمه؛ فهذا إِنَّمَا يقع نادرًا، ولا يطلع عليه إلا مجتهد وصل إِلَى أكثر مما وصلوا إِلَيْهِ، وهذا أيضًا مفقود أو نادر.
وذلك المجتهدُ عَلَى تقدير وجوده: فرضُه اتباع ما ظهر له من الحق، وأما غيره ففرضُه التقليد.
وتقليد هؤلاء الأئمة سائغٌ بلا ريب، ولا إثم عليهم، ولا من قلّدهم ولا بعضهم.
﴿إِن قيل:﴾ (١) فهذا يُفضي إِلَى اتباع الأئمة عَلَى الخطأ. ﴿قيل:﴾ (١) لا يقول القول الحق ﴿جميع الخلق﴾ (١) لابُد أن يكون مذمومًا به أحد من ﴿المخالفين﴾ (١).
فلم يتفق للأمة الخطأ، وأكثر ما يقع هذا إِن كان واقعًا فيما قل وقوعه.
فأمَّا المسائلُ التي يحتاج المسلمون إليها عمومًا، فلا يجوز أن يعتقد أنَّ الأئمة المُقتدى بهم في الإسلام في هذه الأعصار المستطالة اجتمعوا فيها عَلَى الخطأ؛ فإنَّ هذا قدحٌ في هذه الأمة قد أعاذها الله منه.
فإن قيل: نحن نُسلم منعَ عُموم الناس من سلوك طريق الاجتهاد؛ لما يُفضي ذلك إِلَى أعظم الفساد.
لكن لا نسلم منعَ تقليد إمامٍ مُتبع من أئمة المجتهدين غير هؤلاء الأئمة المشهورين.
قيل: قد نبَّهنا عَلَى علة المنع من ذلك، وهو أنَّ مذاهب غير هؤلاء لم تشتهر ولم تنضبط، فربما نُسب إليهم ما لم يقولوه، أو فُهم عنهم ما لم يريدوه، وليس لمذاهبهم من يذبّ عنها، ويُنبّهُ عَلَى ما يقع من الخلل فيها بخلاف هذه المذاهب المشهورة.
فإن قيل: فما تقولون في مذهب إمامٍ غيرهم قد دُون مذهبه وضُبط وحفظ كما حُفظ مذاهب هؤلاء؟
_________
(١) بياض بالأصل، والمثبت من المطبوع وانظر "مجموع الفتاوى" (١٩/ ٩٢).
2 / 626
قيل: أولًا: هذا لا يُعلم وجودُه الآن، وإن فُرض وقوعه الآن وسُلّم جوازُ اتباعه والانتساب إِلَيْهِ، فإنَّه لا يجوز ذلك إلا لمن أظهر لانتساب إِلَيْهِ والفتيا بقوله والذبَّ عن مذهبه.
فأمَّا من أظهر الانتساب إِلَى بعض الأئمة المشهورين، وهو في الباطن منتسبٌ إِلَى غيرهم معتقدٌ لمذهب سواه، فهذا لا يسوغ له ذلك البتة، وهو من نوع النفاق والتقية، ولاسيما من أخذ الأموال المختصة بأصحاب ذلك الإمام المشهور من الأوقاف أو غيرها.
أو لبَّس عَلَى النَّاس، فأوهمهم أنَّ ما يُفتي به من مذهب من ينتسب إِلَيْهِ في الباطن هو مذهب ذلك الإمام المشهور.
فهذا غير سائغ قطعًا، وهو تلبيس عَلَى الأمة وكذبٌ عَلَى علماء الأمة.
ومن نسب إِلَى أئمة الإسلام ما لم يقولوه، أو ما عُلم أنَّهم يَقُولُونَ خلافه فإنه كاذبٌ يستحق العقوبة عَلَى ذلك.
وكذلك إِن صنَّف كتابًا عَلَى مذهب إمام معيَّن؛ وذكر فيه ما يعتقده من قول من ينتسب إِلَيْهِ في الباطن من غير نسبته إِلَى قائله.
وكذلك لو كان الكتاب المصنَّف لا يختص بمذهب معينٌ، إلا أن مصنَّفه في الظاهر ينتسب إِلَى مذهب إمام معين وفي الباطن إِلَى غيره. فيذكر فيه أقوال من ينتب إِلَيْهِ باطنًا، من غير بيان لمخالفتها لمذهب من ينتسب إِلَيْهِ ظاهرًا.
فكلُّ هذا إيهامٌ وتدليس غير جائز، وهو يقتضي خلط مذاهب العُلَمَاء واضطرابها.
فإن ادعى مع ذلك الاجتهاد كان أدهى وأمر، وأعظم فسادًا وأكثر عنادًا؛ فإنَّه لا يسوغ ذلك مطلقًا إلا لمن كمُلت فيه أدواتُ الاجتهاد: من معرفة الكتاب والسنة، وفتاوى الصحابة والتابعين، ومعرفة الإجماع والاختلاف، وبقية شرائط الاجتهاد المعروفة.
2 / 627
وهذا يدعي إطلاعًا كثيرًا عَلَى السنة، ومعرفة صحيحهما من سقيمها، ومعرفة مذاهب الصحابة والتابعن، والآثار المنقولة عنهم في ذلك.
ولهذا كان الإمام أحمد يُشدد أمر الفُتيا، ويمنع منها من يحفظ مائة ألف حديث ومائتي ألف حديث وأكثر من ذلك.
وعلامةُ صحة دعواه: أن يستقلّ بالكلام في المسائل كما استقل غيرُه من الأئمة، ولا يكون كلامُه مأخوذًا من كلام غيره.
فأمَّا من اعتمد عَلَى مجرَّد نقل كلام غيره، إمَّا حكمًا، أو حكمًا ودليلًا: كان غاية جهده أن يفهمه، وربما لم يفهمه جيدًا أو حرّفه وغيره، فما أبعد هذا عن درجة الاجتهاد! كما قيل:
فدع عنك الكتابةَ لست منها ... ولو سوَّدت وجهك بالمداد
فإن قيل: فما تقولون في نهي الإمام أحمد وغيره من الأئمة عن تقليدهم وكتابة كلامهم، وقول الإمام أحمد: لا تكتب كلامي ولا كلام فلان وفلان، وتعلم كما تعلمنا. وهذا كثيرٌ موجود في كلامهم.
قيل: لا ريب أنَّ الإمام أحمد ﵁ كان ينهى عن آراء الفقهاء، والاشتغال بها حفظًا وكتابة، ويأمر بالاشتغال بالكتاب والسنة حفظًا وفهمًا، وكتابة ودراسة، وبكتابة آثار الصحابة والتابعين دون كلام من بعدهم، ومعرفة صحة ذلك من سقمه، والمأخوذ منه والقول الشاذ المطرح منه.
ولا ريب أن هذا مما يتعين الاهتمامُ به والاشتغال بتعلمه أولًا قبل غيره.
فمن عرف ذلك وبلغ النهاية من معرفته كما أشار إِلَيْهِ الإمام أحمد، فقد صار علمُه قريبًا من علم أحمد.
فهذا لا حجر عليه ولا يتوجه الكلام فيه، إنَّما الكلام في منع من لم يبلغ
2 / 628
هذه الغاية ولا ارتقى إِلَى هذه النهاية، ولا فهم من هذا إلا النزر اليسير، كما هو حال أهل هذا الزمان.
بل هو حالُ أكثر الناس منذ أزمان، مع دعوى كثير منهم الوصول إِلَى الغايات، والانتهاء إِلَى النهايات، وأكثرهم لم يرتقوا عن درجة البدايات.
وإذا أردت معرفة ذلك وتحقيقه، فانظر إِلَى علم الإمام أحمد ﵁ بالكتاب والسنة.
أمَّا علمه بالكتاب: فإنه ﵁ كان شديد العناية بالقرآن وفهمه وعلومه، وكان يقول لأصحابه: قد ترك الناسُ فهم القرآن، عَلَى وجه الذم لهم.
وقد جمع في القرْآن كثيرًا من الكتب، من ذلك: كتاب "الناسخ والمنسوخ"، و"المقدم والمؤخر" (٣/ أ) وجمع "التفسير الكبير"، وهو محتوٍ عَلَى كلام الصحابة والتابعين في التفسير.
وتفسيرهُ من جنس التفاسير المنقولة عن السَّلف: من تفاسير شيوخه كعبد الرزاق، ووكيع، وآدم بن أبي إياس وغيرهم. ومن تفاسير أقرانه كإسحاق وغيره، وممن بعده ممن هو عَلَى منواله كالنسائى، وابن ماجه، وعبد ابن حُميد، وابن أبي حاتم، وغيرهم من أهل الحديث. وكلُّ هؤلاء جمعوا الآثار المروية عن السَّلف في التفسير من غير زيادة كلام من عندهم.
وأمَّا علمُه ﵁ بالسنة: فهذا أمرٌ اشتهر وذاع، ووقع عليه الوفاق والإجماع، وأنَّه حامل لواء السنة والحديث، وأعلم الناس في زمانه بكلام النبي ﷺ علبم وأصحابه. والتابعين.
واختص عن أقرانه من ذلك بأمور متعددة، منها: سعةُ الحفظ وكثرته، وقد قيل: إنه كان يحفظ ثلاثمائة ألف حديث.
2 / 629
ومنها: معرفةُ صحيحه من سقيمه: وذلك تارة بمعرفة الثقات من المجروحين، وإليه كانت نهاية المنتهى في علم الجرح والتعديل.
وتارة معرفة طُرق الحديث واختلافه، وهر معرفة علل الحديث.
وكان أيضًا نهايةٌ في ذلك.
وهذا وإن شاركه كثيرٌ من الحفاظ في معرفة علل الحديث المرفوعة، فلم يصل أحدٌ منهم إِلَى معرفته بعلل الآثار الموقوفة.
ومن تأمل كلامه في ذلك: رأى العجب، وجزم بأنه قل من وصل إِلَى فهمه في هذا العِلْم ﵁.
ومنها: معرفته فقه الحديث وفهمه، وحلاله وحرامه ومعانيه، وكان أعلم أقرانه بذلك كما شهد به الأئمة من أقرانه، كإسحاق وأبي عُبيد وغيرهما.
ومن تأمل كلامه في الفقه وفهم مأخذه ومداركه فيه، علم قوة فهمه واستنباطه.
ولدقة كلامه في ذلك، ربما صعُب فهمُه عَلَى كثير من أئمة أهل التصانيف ممن هو عَلَى مذهبه، فيعدلون عن مآخذه الدقيقة إِلَى مآخذ أُخر ضعيفة يتلقّونها عن غير أهل مذهبه، ويقع بسبب ذلك خللٌ كثير في فهم كلامه، وحمله عَلَى غير محامله.
ولا يحتاج الطالبُ لمذهبه إلا إِلَى إمعانٍ وفهم كلامه.
وقد رئي من فهمه وعلمه ما يقضي منه العجب، وكيف لا، ولم يكن مسألة سبق للصحابة والتابعين ومن بعدهم فيها كلامٌ؛ إلا وقد علمه وأحاط علمه به، وفهم مأخذ تلك المسألة وفقهها، وكذلك كلام عامة فقهاء الأمصار وأئمة البلدان -كما يُحيط به معرفته- كمالك، والاوزاعي، والثوري، وغيرهم.
2 / 630
وقد عُرض عليه عامةُ علم هؤلاء الأئمة وفتاويهم، فأجاب عنها تارة بالموافقة وتارةٌ بالمخالفة.
فإنَّ مُهنا بن يحيى الشامي عرض عليه عامةَ مسائل الأوزاعي وأصحابه، فأجاب عنها.
وجماعةٌ عرضوا عليه مسائل مالك وفتاويه من الموطأ وغيره، فأجاب عنها. وقد نقل ذلك عنه حنبلُ وغيره.
وإسحاقُ بن منصور عرض عليه عامةَ مسائل الثوري، فأجاب عنها.
وكان أولًا قد كتب كُتب أصحاب أبي حنيفة وفهمها، وفهم مآخذهم في الفقه ومداركهم، وكان قد ناظر الشافعي وجالسه مُدّة وأخذ عنه.
وشهد له الشافعيُّ ﵁ تلك الشهادات العظيمة في الفقه والعلم، وأحمد مع هذا شاب لم يتكهل.
ومعلوم أنَّ من فهم علمَ هذه العلوم كلُّها وبرع فيها، فأسهلُ شيءٍ عنده معرفة الحوادث والجواب عنها، عَلَى قياس تلك الأصول المضبوطة والمآخذ المعروفة.
ومن هنا قال عنه أبو ثور: كأنَّ أحمد إذا سُئل عن مسألة كأنَّ علم الدُّنْيَا لوحٌ بين عينيه، أو كما قال.
ولا نعلم سُنَّة صحيحة عن النبي ﷺ إلا وقد أحاط بها علمًا، وكان أشدُّ الناس اتباعًا للسنة إذا صحت، ولم يعارضها معارضٌ قوي.
وإنَّما ترك الأخذَ بما لم يصح، وبما عارضه معارضٌ قوي جدًا.
وكان السَّلف-﵃؛ لقُرب عهدهم بزمن النوة، وكثرة ممارستهم كلام الصحابة والتايعين ومن بعدهم؛ يعرفون الأحاديث الشاذة التي لم يعمل بها، ويطرحونها. ويكتفون بالعمل بما مضى عليه السَّلفُ.
2 / 631
ويعرفون من ذلك ما لم يعرفه من بعدهم، ممن لم تبلغه السننُ إلا من كُتب الحديث لطول العهد وبُعده.
إذا فهمت هذا وعلمته، فهذه نصيحةٌ لك أيها الطالب لمذهب هذا الإمام أؤديها إليك خالصةً لوجه الله تعالى؛ فإنَّه "لا يؤمن أحدُكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه" (١).
إياك ثم إياك أن تحدّث نفسك أنّك قد اطلعت عَلَى ما لم يطلع عليه هذا الإمام، ووصلت من الفهم إِلَى ما لم يصل إِلَيْهِ، هذا الَّذِي ظهر فضلُ فهمه عَلَى من بعده من أولي الأفهام.
ولتكن همتك كلُّها مجموعة عَلَى فهم ما أشار إِلَيْهِ، وتعلُّم ما أرشد إِلَيْهِ من الكتاب والسنّة، عَلَى الوجه الَّذِي سبق شرحُه.
ثم بعد ذلك: ليكن همك في فهم كلام هذا الإمام في جميع مسائل العِلْم، لا مسائل الإسلام. أعني: مسائل الحلال والحرام.
وفي علم الآفاق، أعني: مسائل الإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وهو العِلْم المسمَّى في اصطلاح كثيرٍ من العُلَمَاء بعلم السُّنة.
فإن هذا الإمام كأنَّ غاية في هذا العِلْم، وقد امتحن بسبب مسائل منه، وصبر لله علي تلك المحنة، ورضي المسلمون كلهم بقوله الَّذِي قاله ومقامه الَّذِي قامه وشهدوا أنَّه إمام السنة، وأنه لولاه لكفر الناس.
فمن كانت هذه منزلته في علم السنة، كيف يحتاج إلي تلقي هذا العِلْم من كلام أحد من العُلَمَاء غيره، لاسيما لمن ينتسب إلي مذهبه.
فليتمسك بكلامه في عامة هذا الباب، ويعرض عما أحدث من فضول المسائل التي أحدثت. وليس للمسلمين فيما أحدث حاجة؛ بل تشغل عن
_________
(١) أخرجه البخاري (١٣)، ومسلم (٤٥) من حديث أنس.
2 / 632
العِلْم النافع، وتوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين، وتوجب كثرة الجدل والخصومات في الدُّنْيَا مما هو منهي عنه عند هذا الإمام وغيره من السَّلف الماضين.
وكذلك علم الإحسان: وهو علم المراقبة والخشية، كان هذا الإمام فيه غاية، كما كان في علم الإسلام والإيمان آية. ولكن كان الغالبُ عليه في هذا العِلْم تحقيق الأعمال دون تزويق الأحوال؛ فلذلك كان لا يطلق إلا المأثور عن السَّلف، دون ما (أخذته) (١) المتأخرون عن الخلف.
ولقد كان ﵁ في جميع علومه مستندًا بالسنة، لا يرى إطلاقَ ما لم يُطلقه السَّلفُ الصالح من الأقوال، ولا سيما في علم الإيمان والإحسان.
وأمَّا علم الإسلام: فكان يُجيب فيه عن الحوادث الواقعة مما لم يسبق فيها كلامٌ؛ للحاجة إِلَى ذلك، مع نهيه لأصحابه أن يتكلموا في مسائل ليس لهم فيها إمام.
وإنَّما كان يُجيب غالبًا عما سبق الكلامُ فيه، وفيما يحتاج ولابد لوقوعه ومعرفة حُكمه.
فأمَّا ما يولِّده الفقهاءُ من المسائل التي لا تقع أو لا تكاد تقع إلا نادرًا، فكان ينهى كثيرًا عن الكلام فيها؛ لأنّه قليلُ الفائدة ويُشغل عمَّا هو أهم منه مما يحتاج إِلَى معرفته.
وكان ﵁ لا يرى كثرة الخصام والجدال، ولا توسعة لقيل أو لقال في شيء من العلوم والمعارف والأحوال.
إِنَّمَا يرى الاكتفاء في ذلك بالسنة والآثار، ويحث عَلَى فهم معاني ذلك من غير إطالةٍ للقول والإكثار.
_________
(١) كذا!!
2 / 633
ولم يترك توسعة الكلام بحمد الله عجزًا ولا جهلًا، ولكن ورعًا وفضلًا واكتفاءً بالسنة، فإن فيها كفاية، واقتداءً بالسلف الصالح من الصحابة والتابعين، فبالاقتداء بهم تحصل الهداية.
فإن أنت قبلت هذه النصيحة، وسلكت الطريقة الصحيحة، فلتكن همتك؛ حفظ ألفاظ الكتاب والسنة، ثم الوقوف عَلَى معانيها بما قال سلف الأمة وأئمتها، ثم حفظ كلام الصحابة والتابعين وفتاويهم وكلام أئمة الأمصار، ومعرفة كلام الإمام أحمد وضبطه بحروفه ومعانيه، والاجتهاد عَلَى فهمه ومعرفته.
وأنت إذا بلغت من هذه الغاية: فلا تظن في نفسك أنك بلغت النهاية، وإنما أنت طالبٌ متعلم من جملة الطلبة المتعلمين.
ولو كُنتَ بعد معرفتك ما عرفتَ موجودًا في زمن الإمام أحمد، ما كنت حينئذٍ معدودًا من جملة الطالبين. فإن حدثتك نفسُك بعد ذلك أنك قد انتهيت أو وصلت إِلَى ما وصل إِلَيْهِ السَّلفُ، فبئس ما رأيت.
وإيّاك ثم إيّاك أن تترك حفظ هذه العلوم المشار إليها، وضبط النصوص والآثار المعول عليها، ثم تشتغل بكثرةِ الخصام والجدال، وكثرة القيل والقال، وترجيح بعض الأقوال عَلَى بعض الأقوال مما استحسنه عقلُك، لا تعرف في الحقيقة من القائل لتلك الأقوال، وهل هو من السَّلف المُعتبر بأقوالهم، أو من غير أهل الاعتدال.
إيّاك أن تتكلم في كتاب الله أو في حديث رسول الله بغير ما قاله السَّلفُ، كما أشار إِلَيْهِ إمامك، فيفوتك العِلْمُ النافع، وتضيع أيامُك.
فإن العِلْم النافع: إِنَّمَا هو ما ضبُط في الصدور، وهو عن الرسول أو عن السَّلف الصالح مأثور.
وليس العِلْم النافع أرأيت وأريت؛ فقد نهى عن ذلك الصحابةُ ومن بعدهم
2 / 634
ممن إذا اقتديت بهم فقد اهتديت وكيف يصح لك دعوى الانتساب إِلَى إمام، وأنت عَلَى مخالفته مُصرّ، ومن علومه وأعماله وطريقته تفرّ.
واعلم -وفقك الله- أنك كلما اشتغلت بتلك الطريقة، وسلكت السُّبل الموصلة إِلَى الله عَلَى الحقيقة، واستعملت الخشية ونفسها المراقبة، ونظرتَ في أحوال من سلف من الأئمة بإدمان النظر في أحوالهم بحُسن العاقبة، ازددت بالله وبأمره علمًا، وازددت لنفسك احتقارًا وهضمًا، وكان لك من نفسك شغلٌ شاغلٌ عن أن تتفرغ لمخالفة المسلمين.
ولا تكن حاكمًا عَلَى جميع فرق المؤمنين، كأنك قد أوتيت علمًا لم يؤتوه، أو وصلت إِلَى مقامٍ لم يصلوه.
فرحم الله من أساء الظلم بنفسه علمًا وعملًا وحالًا، وأحسن الظن بمن سلف، وعرف من نفسه نقصًا ومن السَّلف كمالًا، ولم يهجم عَلَى أئمة الدين ولا سيما مثل الإمام أحمد، وخصوصًا إِن كان إِلَيْهِ من المُنتسبين.
وإن أنت أبيت النصيحة وسلكت طريقة الجدال والخصام، وارتكبت ما نُهيت عنه من التشدّق والتفيهق وشقشقة الكلام، وصار شغلك الرد عَلَى أئمة المسلمين، والتفتيش عن عيوب أئمة الدين: فإنك لا تزداد لنشك إلا عُجبًا، ولا لطلب العلو في الأرض إلا حُبًّا، ومن الحق إلا بُعدًا، وعن الباطل إلا قربًا، وحينئذٍ تقول: ولم لا أقول وأنا أولى من غيري بالقول والاختيار، ومن أعلم مني ومن أفقه مني؛ كما ورد في الحديث هذا يقوله مِن هذه الأمة مَن هو وقود النار.
أعاذنا الله وإياكم من هذه الفضائح، ووفقنا وإياكم لنتول النصائح بمنه وكرمه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
فإن أبيت إلا الإصرار عَلَى أنَّ العِلْم والتفقه هو نقلُ الأقوال، وكثرة البحث عليها، والجدال، وأنَّ من اتسع في ذلك ونقب عن عيوب الأئمة بالنظر
2 / 635
والاستدلال أعلم ممن لم يكن كذلك، وأن من قلّ كلامُه في هذا فليس هنالك.
فنقول لك من هنا اعتقد طوائفُ من أهل الضلال أنَّ الخلف أعلم من السَّلف؛ لما امتازوا به من كثرة القيل والقال.
ونحن براء إِلَى الله من هذه الأقوال، ولو كان الأمرُ عَلَى هذا لكان شيوخُ المعتزلة والرافضة أعلم من سلف الأمة وأئمتها.
وتأمل كلامَ شيوخ المعتزلة كعبد الجبار بن أحمد الهمداني وغيره، وكثرة بحوثه وجداله، واتساعه في كثرة مقاله، وكذلك من كان من أهل الكلام من سائر الطوائف.
وكذلك المصنفون في سائر الكلام، وفي الفقه من فقهاء الطوائف: يُطيلون الكلام في كل مسألةٍ إطالة مُفرطةً جدًّا، ولم يتكلم أئمتُهم في تلك المسائل بتقريرها وكلامهم فيها.
هل يجوز أن يُعتقد بذلك فضلُهم عَلَى أئمة الإسلام، مثل سعيد بن المسيب والحسن، وعطاء، والنخعي، والثوري، والليث، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عُبيد ونحوهم.
بل التابعون المتسعون في المقال أكثر من الصحابة بكثير، فهل يعتقد مسلم أنَّ التابعين أعلمُ من علماء الصحابة.
وتأمَّل قول النبي ﷺ: «الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ» (١).
قاله في مدح أهل اليمن وفضلهم، فشهد لهم بالفقه والإيمان، ونسبها إليهم لبلوغهم الغاية في الفقة والإيمان والحكمة.
ولا نعلم طائفة من عُلماء المسلمين أقل كلامًا من أهل اليمن، ولا أقل جدلًا، منهم، سلفًا وخلفًا؛ فدلَّ عَلَى أنَّ العِلْم والفقه الممدوح في لسان
_________
(١) أخرجه البخاري (٤٣٨٨، ٤٣٨٩، ٤٣٩)، ومسلم (٥٢) من حديث أبي هريرة.
2 / 636
الشارع: هو العِلْم بالته المؤدي إِلَى حُبّه ومحبته، وإجلاله وتعظيمه، وهما مع العِلْم بما يحتاج إِلَيْهِ من أوامره ونواهيه، كما كان عليه علماء أهل اليمن قديمًا، مثل: أبي موسى الأشعري، وأبي مُسلم الخولاني وأويس وغيرهم. دون ما زاد عَلَى ذلك، من ضرب أقوال الناس بعضها ببعض، وكثرة التفتيش عن عوراتهم وزلاتهم.
وهو أنَّ أكثر الأئمة غلطوا في مسائل يسيرة، مما لا تقدح في إمامتهم وعلمهم، فكان ماذا؟! فلقد انغمر ذاك في محاسنهم وكثرة صوابهم، وحُسن مقاصدهم ونصرهم للدين.
والانتصابُ للتنقيب عن زلاَّتهم ليس محمودًا ولا مشكورًا، لاسيما في فضول المسائل التي لا يضر فيها الخطأ، ولا ينفع فيها كشفُ خطئهم وبيانُه.
وكذلك كثرة البحث عن فضول علوم لا تنفع في الدين وتشغل عن الله والاشتغال به، وتقسِّي القلب عن ذكره، وتوجب لأهلها حبَّ العلو والرئاسة عَلَى الخلق.
فكل هذا غيرُ محمود، وقد كان النبيُّ ﷺ يتعوَّذُ من علم لا ينفع (١)، وفي حديث عنه أنَّه قال: «سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا، وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ» (٢).
وفي حديث عنه: "إِنَّ من العِلْم جهلًا" (٣). وكان ﷺ يكره إطالة القول وكثرة تشقيق الكلام، ويُحب التجوز في القول؛ وفي ذلك عنه أحاديثُ كثيرة يطول ذكرها.
وكذلك التصدّي لرد كلام أهل البدع بجنس كلامهم، من الأقيسة الكلامية وأدلة العقول: يكرهه الإمامُ أحمد، وأئمة أهل الحديث كيحيى القطان، وابن مهدي، وغيرهم. وإنَّما يرون الردَّ عليهم بنصوص الكتاب والسنّة، وكلام سلف الأمة إِن كان موجودًا، وإلا رأوا السكوت أسلم.
_________
(١) أخرجه مسلم (٢٧٢٢) من حديث زيد.
(٢) أخرجه ابن ماجه (٣٨٤٣).
(٣) أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (٥٠١٢).
2 / 637