تأملات في مماثلة المؤمن للنخلة

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر ت. غير معلوم

تأملات في مماثلة المؤمن للنخلة

الناشر

الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

رقم الإصدار

السنة التاسعة والعشرون. العدد السابع بعد المائة. (١٤١٨/١٤١٩هـ)

تصانيف

تأمُّلات في مماثلة المؤمن للنَّخلة بقلم عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر الحمد لله الذي غرس شجرةَ الإيمان في قلوب من اختارهم لعبوديته، واختصَّهم بوافرِ فضلِه وجزيل نعمته، وفضّلهم بمنِّه ورحمتِه على سائر خليقتِه، فهي ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾، والصلاة والسلام على نبيّنا محمد بن عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، أرسله رحمةً للعالمين، وقدوةً للعالمين، ومحجةً للسالكين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فلا يخفى على مسلمٍ ما للإيمانِ من أهميّةٍ عظيمةٍ، ومكانةٍ عاليةٍ رفيعةٍ، ودرجةٍ ساميةٍ مُنِيفةٍ، فهو أعظمُ المطالبِ، وأَجَلُّ المقاصدِ، وأنبلُ الأهداف؛ إذ به ينال العبدُ سعادةَ الدنيا والآخرة، ويُدرِك أهمَ المطالب وأجَلَّ المقاصد، ويظفرُ بالجنَّةِ ونعيمِها، وينجو من النارِ وسخَطِ الجبَّارِ، وينالُ رضى الربِّ فلا يسخط عليه أبدًا، ويتلذّذُ بالنظرِ إلى وجهه الكريم في غير ضرّاءَ مضرّة ولا فتنةٍ مضلّةٍ، وثمراتُ الإيمان وفوائدُه كثيرةٌ لا تُحصى، فكم للإيمان من فوائدَ عظيمة، وثمارٍ يانِعةٍ، وخيرٍ مستمرٍّ في الدنيا والآخرة. ولما كان الإيمان بهذه المثابة وعلى هذا القدرِ من الأهمية، كانت النصوص المبيّنة لفضله والدالّة على شريف قدره كثيرةً جدًا ومتنوّعةً؛ إذ إنَّ مِن حكمة الله البالغة ونعمته السابغة على عباده أنْ جعل الأمر كلَّما كانت الحاجة إليه أعظم والضرورة إليه ألزم كانت براهينُه وطرقُ تحصيله وسُبُلُ نيلِه أوفر وأكثر، وحاجة العباد إلى الإيمان هي أعظم الحاجات، وهي أعظم من حاجتهم إلى طعامهم وشرابهم وسائر شؤونهم؛ ولذا كانت دلائلُ الإيمانِ أقوى الدلائل، وبراهينُه أصحَّ البراهين، وسبلُ نيله وتحصيله أيسرَ السبل مسلكًا وأقربَها مأخذًا

1 / 197

وأسهلَها مُتناولا؛ ولذا أيضا تنوّعت وتعدّدت براهينُ الإيمان ودلائله الموضحة له إجمالًا وتفصيلًا. وإنَّ من أعظم دلائل الإيمان التي اشتمل عليها القرآن ضربَ الأمثال التي بها تتّضح حقيقتُه، وتستبينُ تفاصيلُه وشعبُه، وتظهرُ ثمرتُه وفوائدُه. والمَثَلُ هو عبارة عن قولٍ في شيء يُشبِه قولًا في شيء آخر بينهما مشابهة لتبيين أحدهما من الآخر وتصويره، ولا ريب "أنَّ ضربَ الأمثالِ مما يأنسُ به العقلُ، لتقريبها المعقول من المشهود، وقد قال تعالى- وكلامه المشتمل على أعظم الحِجَج وقواطع البراهين-: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ﴾ ١، وقد اشتمل منها [أي القرآن] على بضعة وأربعين مثلًا، وكان بعضُ السلف إذا قرأ مثلًا لم يفهمه يشتدُّ بكاؤُه ويقول: لست من العالِمين"٢. وكان قتادة يقول: "اعقِلوا عن الله الأمثال"٣. ومن هنا رأيتُ أن أقدِّم هذه الدراسة لأحدِ أمثال القرآن والسنة المشتملة على بيان الإيمان وتقريبه، وإيضاح أصلِه وفرعه وشُعبِه وثمراته، ومن الله وحده العونُ والتوفيقُ. يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ ٤، فهذا مَثَلٌ بديعٌ عظيمُ الفائدةِ، مُطابقٌ لما ضُرِب له تمام المطابقة،

١ سورة: العنكبوت، الآية: (٤٣) . ٢ الكافية الشافية لابن القيم (ص:٩) . ٣ رواه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور للسيوطي (٥/٢٦) . ٤ سورة: إبراهيم، الآيات (٢٤،٢٥) .

1 / 198

وقد بدأه الله بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا﴾ . أي: ألم ترَ بعين قلبِك فتعلمَ كيف مثّل الله مثلًا وشبّهه شبهًا للكلمة الطيّبة كلمة الإيمان، وختَمَه بقوله: ﴿وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ . أي: أن القصد من ضرب هذا المثل وغيرِه من الأمثال هو تذكيرُ الناس ودعوتُهم إلى الاعتبار وعقلِ الخطاب عن الله. ولا شك أنَّ هذا البدء والختم في الآية فيه أعظم حَضٍّ على تعلُّمِ هذا المثل وتَعَقُّلِه، وفيه دلالة على عِظم شأن هذا المثل المضروب، كيف لا وهو يتناول بيان الإيمان الذي هو أعظم المطالب وأشرف المقاصدِ على الإطلاق. وعندما نتأمّل هذا المثل العظيم نجِدُ أنَّ الله ﵎ ذَكَر فيه مُمثَّلًا له، ومُمثَّلًا به، ووجهَ المثلية بينهما، فالممثَّلُ له هو الكلمة الطيّبة، والممثَّلُ به الشجرة الطيّبة، ووجه المثلية هو كما قال الله: ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾، فشبَّهَ ﵎ كلمةَ الإيمان الثابتة في قلب المؤمن وما يترتّب عليها من فروع وشُعب وثمار بالشجرة الطيّبة الثابتة الأصل الباسقةِ الفرع في السماء علوًّا، التي لا تزالُ تؤتي ثمراتها كلَّ حين، ومن يتأمّل في المُمثّلِ به وهو الشجرة الطيّبة، والممثّل له وهو كلمة الإيمان في قلب المؤمن وما يترتّب عليها من ثمارٍ يجدُ أوصافًا عديدةً متطابقة بينهما، وقد أُشيرَ إلى بعضها في الآية كما تقدّم. ولذا يقول ابن القيّم ﵀: "وإذا تأمَّلتَ هذا التشبيه رأيتَه مطابقًا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب، التي فروعُها من الأعمال الصالحة صاعدةً إلى السماء، ولا تزال هذه الشجرة تُثمر الأعمال الصالحة كلَّ وقتٍ، بحسب ثباتها في القلب، ومحبَّة القلب لها، وإخلاصِه فيها، ومعرفتِه بحقيقتها، وقيامه بحقوقها، ومراعاتِها حقَّ رعايتها، فمَن رسخت هذه الكلمة في قلبه

1 / 199

بحقيقتها التي هي حقيقتها، واتَّصف قلبُه بها، وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسنَ صبغة منها، فعرَفَ حقيقةَ الإلهية التي يُثْبِتها قلبُه لله ويشهدُ بها لسانُه وتصدِّقُها جوارحه، ونفى تلك الحقيقة ولوازمَها عن كلِّ ما سوى الله، وواطأَ قلبُه لسانَه في هذا النفي والإثبات، وانقادت جوارحُه لمن شهد له بالوحدانية طائعةً سالكةً سُبلَ ربِّه ذُلُلًا غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلًا، كما لا يبتغي القلبُ سوى معبودِه الحق بدلًا؛ فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرَتَها من العمل الصالح الصاعدِ إلى الله كلَّ وقت، فهذه الكلمة الطيّبةُ هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الربِّ تعالى، وهذه الكلمةُ الطيّبةُ تُثمرُ كلمًا كثيرًا طيّبًا يقارنُه عملٌ صالحٌ فيرفع العملُ الصالح الكلمَ الطيّب، كما قال تعالى: ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾، فأخبر سبحانه أنَّ العملَ الصالحَ يرفعُ الكلِمَ الطيِّب، وأخبر أنَّ الكلمةَ الطيّبة تُثمر لقائلها عملًا صالحًا كلَّ وقت. والمقصود أنَّ كلمةَ التوحيد إذا شهد بها المؤمنُ عارفًا بمعناها وحقيقتها نفيًا وإثباتًا، متَّصفًا بموجبها قائمًا قلبُه ولسانُه وجوارحُه بشهادته؛ فهذه الكلمةُ الطيّبةُ هي التي رفعتْ هذا العملَ من هذا الشاهد، أصلها ثابت راسخ في قلبه، وفروعها متَّصلة بالسماء، وهي مخرجة لثمرتها كلَّ وقت"١. وقد صحّ في الحديث عن النبي ﷺ أنَّ الشجرةَ الطيّبة هي النخلة، وذلك فيما رواه ابن عمر ﵄، وهو مخرّج في الصحيحين من طرق كثيرة عنه ﵁. فقد روى البخاري ومسلم عن إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: "إنَّ من الشجر شجرةً

١ إعلام الموقعين (١/١٧٢،١٧٣) .

1 / 200

لا يسقطُ ورقُها، وإنَّها مثلُ المسلم، فحدِّثوني ما هي؟ " فوقع الناس في شجر البوادي١. قال عبد الله: ووقع في نفسي أنَّها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ فقال: "هي النخلة". قال: فذكرتُ ذلك لعمر. قال: لأَنْ تكون قلتَ: هي النخلة، أحبّ إليّ من كذا وكذا٢. وهذا لفظ مسلم. ورواه البخاري من طريق سليمان، عن عبد الله بن دينار به٣. ومن طريق مالك، عن عبد الله بن دينار به٤. وروى البخاري ومسلم عن ابن أبي نُجيح، عن مجاهد قال: صحِبتُ ابنَ عمر إلى المدينة فلم أَسمعهُ يحدِّث عن رسول الله ﷺ إلا حديثًا واحدًا قال: كنا عند النبي ﷺ، فأُتي بجُمّار، فقال: "إنَّ من الشجر شجرةً مثلها كمثل المسلم". فأردتُ أن أقول هي النخلة، فإذا أنا أصغر القوم فسكتُّ. قال النبي ﷺ: "هي النخلة" ٥. ورواه البخاري من طريق أبي بشر، عن مجاهد، عن ابن عمر ﵄ قال: "كنت عند النبي ﷺ وهو يأكل جُمَّارًا، فقال: "من الشجر شجرةٌ كالرجل المؤمن". فأردتُ أن أقول هي النخلة، فإذا أنا أحدثهم. قال: "هي النخلة" ٦.

١ أي: "ذهبت أفكارهم في أشجار البادية، فجعل كلٌّ منهم يفسِّرها بنوع من الأنواع، وذهلوا عن النخلة". فتح الباري لابن حجر (١/١٤٦) . ٢ البخاري (١/٣٨)، ومسلم (٤/٢١٦٤) . ٣ البخاري (١/٣٨) . ٤ البخاري (١/٦٣) . ٥ البخاري (١/٤٣)، ومسلم (٤/٢١٦٥) . ٦ البخاري (٢/١١٥) .

1 / 201

ورواه البخاري من طريق الأعمش قال: حدّثني مجاهد، عن عبد الله بن عمر ﵄ قال: "بينا نحن عند النبي ﷺ جلوسٌ، إذ أُتي بجُمّار نخلة، فقال النبي ﷺ: "إنَّ من الشجر لما بركته كبركة المسلم". فظننت أنَّه يعني النخلة، فأردت أن أقول هي النخلة يا رسول الله، ثم التفتُّ فإذا أنا عاشر عشرة، أنا أحدثهم، فسكتُّ، فقال النبي ﷺ: "هي النخلة" ١. ورواه البخاري من طريق زُبيد، عن مجاهد به مختصرًا٢. ورواه مسلم من طريق أبي خليل الضُّبَعيِّ، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ يومًا لأصحابه: "أخبروني عن شجرة، مثلُها مثلُ المؤمن"، فجعل القوم يذكرون شجرًا من البوادي. قال ابن عمر: وأُلقي في نفسي أو روعي أنها النخلة. فجعلتُ أريد أن أقولها، فإذا أسنانُ القوم، فأهابُ أن أتكلّم، فلما سكتوا، قال رسول الله ﷺ: "هي النخلة" ٣. ورواه مسلم أيضًا من طريق سيف، عن مجاهد به٤. وروى البخاري ومسلم عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر ﵄ قال: "كنا عند رسول الله ﷺ فقال: "أخبروني بشجرة تُشبه أو كالرجل المسلم لا يتحاتُّ ورقُها ولا ولا ولا" ٥، تؤتي أكلها كلَّ حين. قال ابن

١ البخاري (٣/٤٤٤) . ٢ البخاري (٣/٤٤٥) . ٣ مسلم (٤/٢١٦٥) . ٤ مسلم (٤/٢١٦٦) . ٥ تكرّر النفي ثلاث مرات هكذا على طريق الاكتفاء في لفظ البخاري، ووقع ذكر النفي مرة واحدة في رواية مسلم، فاستشكل ذلك بعض الرواة، وظنَّ "لا" زائدة. قال إبراهيم بن سفيان - أحد رواة صحيح مسلم -: "لعلّ مسلمًا قال: "وتؤتي أكلها". وكذا وجدت عند غيري أيضًا، ولا تؤتي أكلها كلّ حين". صحيح مسلم (٤/٢١٦٦) . ظنّ أنَّ لفظة "لا" في الحديث متعلّقةٌ بقوله: " تؤتي أكلها "، فاستشكل هذا، فقال: "لعل مسلمًا رواه "وتؤتي أكلها" أي بإسقاط "لا". قال القاضي وغيرُه من الأئمة: "وليس هو بغلط كما توهّمه إبراهيم، بل الذي في مسلم صحيحٌ، بإثبات "لا"، وكذا رواه البخاري بإثبات "لا"، ووجهه أنَّ لفظة "لا" ليست متعلّقة بـ "تؤتي"، بل متعلقّة بمحذوف تقديره: لا يتحات ورقها، ولا مكرّر، أي لا يصيبها كذا ولا كذا". شرح صحيح مسلم للنووي (١٧/١٥٦) . قال الحافظ ابن حجر: "وقد وقع عند الإسماعيلي بتقديم: "تؤتي أكلها كل حين" على قوله: "لا يتحاتُّ ورقها" فسلِم من الإشكال". فتح الباري (١/١٤٦) .

1 / 202

عمر: فوقع في نفسي أنَّها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلّمان، فكرهتُ أن أتكلّم، فلما لم يقولوا شيئًا قال رسول الله ﷺ: "هي النخلة". فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه، والله لقد وقع في نفسي أنَّها النخلة. فقال: ما منعك أن تكلَّم؟ قال: لم أرَكُم تكلَّمون فكرهتُ أن أتكلم أو أقول شيئًا. قال عمر: لأَنْ تكون قلتَها أحبُّ إليّ من كذا وكذا"١. وروى البخاري من طريق محارب بن دِثار: سمعت ابنَ عمر يقول: قال النبي ﷺ: "مثل المؤمن كمثل شجرة خضراء، لا يسقط ورقها ولا يتحاتُّ". فقال القوم: هي شجرة كذا، هي شجرة كذا، فأردتُ أن أقول هي النخلة - وأنا غلام شاب - فاستحييت، فقال: "هي النخلة" ٢. ورواه البخاري تعليقًا من طريق حفص بن عاصم، عن ابن عمر مثله٣. فهذا مجموع ما في الصحيحين من طرق لهذا الحديث العظيم، وللحديث طرقٌ أخرى خارج الصحيحين في السنن والمسانيد والمعاجم، سيأتي الإشارة إلى شيء منها.

١ البخاري (٣/٢٤٦)، ومسلم (٤/٢١٦٦) . ٢ صحيح البخاري (٤/١١٣) . ٣ صحيح البخاري (٤/١١٣) .

1 / 203

ثم إنَّ البخاري ﵀ وقد روى الحديث في مواطن عديدة من صحيحه فقد روى الحديث في كتاب التفسير من صحيحه، في باب: ﴿كشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾، وهو بذلك يشير إلى أنَّ المراد بالشجرة المذكورة في الآية هي النخلة، فيكون الحديث بذلك مفسِّرًا للآية. وقد ورد هذا صريحًا فيما رواه البزار من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: "قرأ رسول الله ﷺ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ...﴾ فقال: أتدرون ما هي؟ قال ابن عمر: لم يَخْفَ عليَّ أنَّها النخلة، فمنعني أن أتكلّم مكان سِنِّي، فقال رسول الله ﷺ: "هي النخلة:" ١. قال ابن حجر: "ويُجمع بين هذا وبين ما تقدّم أنَّه ﷺ أُتي بالجُمّار فشرع في أكله تاليًا للآية قائلًا: "إنَّ مِنَ الشجر شجرةً ... " إلى آخره، ووقع عند ابن حبان من رواية عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: أنَّ النبيَّ ﷺ قال: "مَنْ يخبرني عن شجرة مثلها مثل المؤمن، أصلها ثابت وفرعها في السماء؟ ... " فذكر الحديث، وهو يؤيّد رواية البزار"٢. ويؤيّد هذا أيضًا الروايات الكثيرة الواردة عن السلف الصحابة وغيرهم في تفسير الشجرة الطيّبة في الآية بأنَّها النخلة. فقد روى الترمذي وغيره عن شعيب بن الحبحاب قال: كنّا عند أنس فأتينا بطبق عليه رطب، فقال أنس ﵁ لأبي العالية: "كُلْ يا أبا العالية، فإنَّ هذا من الشجرة التي ذَكَر الله في كتابه: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ثَابِتٌ أَصْلُهَا﴾ قال: هكذا قرأها يومئذ أنس"

١ أورده الحافظ في الفتح (١/١٤٦) . ٢ فتح الباري (١/١٤٦،١٤٧) .

1 / 204

ورواه الترمذي من وجه آخر مرفوعًا، وقال: "هذا الموقوف أصح"١. وقد جاء هذا المعنى عن غير واحد من السلف، منهم: ابن عباس، ومجاهد، ومسروق، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وابن زيد٢. وقد أفصح رسول الله ﷺ عن المعنى المتقدّم، وهو تشبيه المؤمن بالنخلة في أوجز عبارة، وذلك فيما رواه الطبراني في المعجم الكبير والبزار من حديث ابن عمر ﵄ مرفوعًا: "مثل المؤمن مثل النخلة ما أخذت منها مِنْ شيء نفعك" ٣. والنخلة إنما حازت هذه الفضيلة العظيمة بأَنْ جُعلت مثلًا لعبد الله المؤمن؛ لأنَّها أفضلُ الشجر وأحسنُه، وأكثرُه عائدة.

١ سنن الترمذي (رقم:٣١١٩)، ورواه عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والرامهرمزي في الأمثال كما في الدرّ المنثور للسيوطي (٥/٢٢) . ٢ انظر هذه الآثار في تفسير الطبري (٨/٢٠٤ - ٢٠٦)، والدر المنثور للسيوطي (٥/٢٢،٢٣) . ومن السلف من ذهب إلى أنَّ المراد بالشجرة الطيبة هي المؤمن نفسه، وممن روي عنه ذلك ابن عباس، وعطية العوفي، والربيع بن أنس، روى ذلك عنهم ابن جرير في تفسيره (٨/٢٠٤) . قال ابن القيّم ﵀: "لا اختلاف بين القولين، والمقصود بالمثل المؤمن، والنخلة مشبّهةٌ به وهو مشبّه بها، وإذا كانت النخلة شجرةً طيّبةً، فالمؤمن المشبّه بها أولى أن يكون كذلك" إعلام الموقعين (١/١٧٣) . ومنهم من ذهب إلى أن المراد بالشجرة الطيّبة شجرة في الجَنّة، روى ذلك ابن جرير (٨/٢٠٦) عن ابن عباس ﵄ ثم قال: "أولى القولين بالصواب في ذلك قول من قال هي النخلة لصحَّة الخبر عن رسول الله ﷺ ... ". قال ابن القيّم ﵀: "ومن قال من السلف إنها شجرة في الجنة فالنخلة من أشرف أشجار الجنّة". إعلام الموقعين (١/١٧٣) . ٣ المعجم الكبير للطبراني (١٢/رقم:١٣٥١٤) . قال الحافظ في الفتح (١/١٤٧): "وإسناده صحيح".

1 / 205

وقد أفرد أبو حاتم السجستاني ﵀ كتابًا خاصًا بالنخل، بيّن فيه فضله وخصائصه وأسماءه، وذكر أبحاثًا عديدةً مفيدةً متعلّقةً به، قال في أوله: "النخلة سيّدة الشجر، مخلوقة من طين آدم صلوات الله عليه، وقد ضربها الله جلّ وعزّ مثلًا لقول "لا إله إلا الله" فقال ﵎: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾ وهي قول: "لا إله إلا الله"، ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ﴾ وهي النخلة. فكما أنَّ قول “لا إله إلا الله" سيّد الكلام، كذلك النخلة سيّدة الشجر"١. ثم أخذ يفصّل القول في الكلام على هذه الشجرة الكريمة الفاضلة، واستشهد لقوله إنَّها مخلوقة من طين آدم ﵇ بما ساقه بسنده من طريق مسرور بن مسعود التميمي قال: حدّثني الأوزاعي، عن عروة بن رُويم، عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله ﷺ: "أكرِموا عمَّتكم النخلة، فإنها خُلقت مِنَ الطين الذي خُلق منه آدم، وليس شيء يُلقح غيرها، وأطعِموا نساءكم الوُلَّد الرُّطَب فالتمر، وليس شيء من الشجر أكرم على الله جلّ وعزّ من شجرة نزلت تحتها مريم ابنة عمران". إلا أنَّ إسناد هذا الحديث واهٍ، فلا يصلح للاحتجاج، تفرّد به مسرور بن مسعود وهو متّهم. قال ابن الجوزي: "لا يصح عن رسول الله ﷺ، قال ابن عدي: مسرور غير معروف وهو منكر الحديث، وقال ابن حبان: يروي عن الأوزاعي المناكير التي لا يجوز الاحتجاج بما يرويها"٢.

١ كتاب النخل (ص:٣٣) . ٢ الموضوعات (١/١٢٩) .

1 / 206

وقال الذهبي: "غمزه ابن حبان، فقال: يروي عن الأوزاعي المناكير الكثيرة"١. وعلى كلٍّ، فلا ريب في فضل النخلةِ وشرفِها وتميّزها، ويكفيها فضيلةً أنَّها خُصّت من بين سائر الشجر بأن جُعلت مثلًا للمؤمن، وفي النصوص المتقدّمة ما يدلّ على أنواع من الفضائل والميزات للنخلة؛ كثبات الأصل وارتفاع الفرع، وإيتائها أكلها كلّ حين، ووصفها بالبركة، وأنَّها لا يؤخذ منها شيء إلا نفع، ونحو ذلك مما يدل على فضل النخلة وتميّزها. ثمّ ها هنا أمرٌ مهمّ، وهو أنَّ النبي ﷺ عندما شَبَّه المؤمن بالنخلة، لا شك أنَّ ثَمّ هناك أوجهًا عديدةً في الشبه بين المؤمن المطيع لله الذي قامت في قلبه كلمةُ الإيمان وانغرست في صدره وأخذت تُثمر الثمارَ اليانعة والخيرَ المتنوّع وبين النخلة. ولا ريب أنَّ الوقوفَ على أوجه الشبَّه بينهما والحرص على معرفة ذلك والفقه فيه أمرٌ جديرٌ بالاهتمام والعناية؛ لعظم فائدته وكثرة منافعه، والله تعالى قد أرشد في كتابه إلى فهم هذا عندما مثّل المؤمن بها وذكر بعض أوجهِ الشبَّه بينهما حيث قال: ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾ . هذه أربعة وجوه في الشبه بينهما، ومن يتأمّل في الممثَّل والممثَّل به يجد بينهما من أوجه الشبّه الشيء الكثير، ومن يطالع كلامَ أهل العلم في هذا الباب يقف من ذلك على لطائفَ جمّة وفوائد مهمّة. ولعَلِّي فيما يلي أستعرض جملةً من أوجه الشبه بينهما من خلال ما وقفت عليه من كلام أهل العلم في ذلك في كتب التفسير وشروحات الحديث وغيرها.

١ الميزان (٥/٢٢٢)، وانظر: السلسلة الضعيفة للعلاّمة الألباني حفظه الله (١/٢٨٣،٢٨٤) .

1 / 207

فمن هذه الأوجه١: أولًا: أنَّ النخلة لا بدّ لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر، وكذلك شجرة الإيمان لا بدّ لها من أصل وفرع وثمر، فأصلها الإيمان بالأصول الستة المعروفة، وفرعُها الأعمال الصالحة، والطاعات المتنوّعة، والقربات العديدة، وثمراتُها كلُّ خير يحصِّلُه المؤمن، وكلُّ سعادة يجنيها في الدنيا والآخرة. روى عبد الله في السنة عن ابن طاووس، عن أبيه قال: "مثل الإيمان كشجرة؛ فأصلها الشهادة، وساقها وورقها كذا، وثمرُها الورع، ولا خير في شجرة لا ثمر لها، ولا خير في إنسان لا ورع فيه"٢. قال البغوي ﵀: "والحكمة في تمثيل الإيمان بالشجرة هي أنَّ الشجرةَ لا تكون شجرةً إلاَّ بثلاثة أشياء؛ عِرق راسخ، وأصلٌ قائم، وفرع عالٍ، وكذلك الإيمان لا يتمّ إلا بثلاثة أشياء؛ تصديقٌ بالقلب، وقولٌ باللسان، وعمل بالأبدان"٣. وقال ابن القيم ﵀: "الإخلاص والتوحيد شجرةٌ في القلب فروعُها الأعمال، وثمرها طِيبُ الحياة في الدنيا، والنعيمُ المقيمُ في الآخرة، وكما أنَّ ثمار الجَنّة لا مقطوعة ولا ممنوعة، فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك، والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب ثمرها في الدنيا الخوفُ والهمُّ والغمُّ وضيق الصدر وظلمة القلب، وثمرها في الآخرة الزَّقومُ والعذاب المقيم، وقد

١ وانظر في ذلك: مفتاح دار السعادة (١/١١٦ - ١٢٢)، وإعلام الموقعين (١/١٧١ - ١٧٥)، تفسير البغوي (٣/٣٣)، فتح الباري لابن حجر (١/١٤٥،١٤٦)، زاد المسير لابن الجوزي (٤/٣٥٩،٣٦٠)، تفسير القاسمي (١٠/٣٧٢٧) . ٢ السنة لعبد الله (١/٣١٦) . ٣ تفسير البغوي (٣/٣٣) .

1 / 208

ذكر الله هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم"١. ثانيًا: أنَّ النخلة لا تبقى حيّةً إلاّ بمادة تسقيها وتنميها، فهي لا تحيا ولا تنمو إلاّ إذا سُقيت بالماء، فإذا حبس عنها الماء ذبلت، وإذا قطع عنها تمامًا ماتت، فلا حياة لها بدونه، وهكذا الشأنُ في المؤمن لا يحيا الحياة الحقيقية ولا تستقيم له حياته إلاّ بسقي من نوع خاص، وهو سقيُ قلبه بالوحي، كلام الله وكلام رسوله ﷺ؛ ولهذا سمَّى الله الوحيَ روحًا في نحو قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعِلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ ٢، وقوله: ﴿يُنَزِّلُ المَلاَئِكَةَ بالرُوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَّشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ ٣؛ لأنَّ حياة القلوب الحقيقية إنَّما تكون به، وبدونه فإنَّ الإنسان يكون ميتا ولو كان بين الناس من الأحياء ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُلُمُاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ ٤، ولذا يقول الله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وِلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ ٥، والآيات في هذا المعنى كثيرة. فهذا وجه شبهٍ ظاهرٍ بين المؤمن والنخلة، فالنخلة لا تحيا إلاَّ إذا سُقيت بالماء، والمؤمن لا يحيى قلبُه إلاَّ إذا سُقي بالوحي، وكما أنَّ الأرض الميتة إذا أنزل الله عليها الماء اهتَزَّت ورَبَتْ وأنبتت من كلِّ زوجٍ بهيجٍ، فكذلك القلب الميّت إذا سمع الوحي وقَبِلَه صَلُحَ وحسُنَ ونما فيه من الخير الشيءُ الكثير. ولذا لمّا حذّر الله في سورة الحديد من عدم الخشوع لذكر الله كحال الذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، قال عقِب ذلك

١ الفوائد (ص:٢١٤،٢١٥) . ٢ سورة الشورى، الآية: (٥٢) . ٣ سورة النحل، الآية: (٢) . ٤ سورة الأنعام، الآية: (١٢٢) . ٥ سورة الأنفال، الآية: (٢٤) .

1 / 209

سبحانه: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ١ وفي هذا إشارة إلى أنَّ الذي يُحيي الأرض بعد موتها بالماء فهو كذلك يُحيى القلوبَ بعد موتها بالوحي، ولكن ذلك إنّما يكون لمن عقل آيات الله. وبهذا يتبيّن أنَّ "شجرة الإسلام في القلب إن لم يتعاهدها صاحبُها بسقيها كلَّ وقت بالعلم النافع والعمل الصالح، والعود بالتذكّر على التفكّر والتفكّر على التذكّر، وإلاّ أوشك أن تيبس، وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الإيمان يخْلَقُ في القلب كما يخلَقُ الثوبُ فجدّدوا إيمانكم" ٢. وبالجملة فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك، ومن هنا تعلم شدّة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات، وعظيم رحمته وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده بأن وظّفها عليها وجعلها مادة لسقي غِراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم"٣. ثالثًا: أنّ النخلةَ شديدةُ الثبوت، كما قال الله تعالى في الآية المتقدمة: ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾، وهكذا الشأنُ في الإيمان إذا رسخ في القلب فإنه يصير في أشدّ ما يكون من الثبات لا يزعزعه شيء، بل يكون ثابتًا كثبوت الجبال الرواسي. سئل الأوزاعي ﵀ عن الإيمان أيزيد؟ قال: "نعم حتى يكون كالجبال،

١ سورة: الحديد، الآية: (١٧) . ٢ روى الحاكم (١/٤) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: "إنَّ الإيمان ليخلَق في جوف أحدكم كما يخلَق الثوب فاسألوا الله أن يجدّد إيمانكم". وقال الحاكم: "رواته مصريون ثقات"، ووافقه الذهبي. ورواه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (١/٥٢)، وقال الهيثمي: "إسناده حسن"، وصححه الألباني. انظر: صحيح الجامع (رقم:١٥٩٠)، والسلسلة الصحيحة (٤/١١٣) . ٣ إعلام الموقعين لابن القيم (١/١٧٤) .

1 / 210

قيل: أينقص؟ قال: نعم حتى لا يبقى منه شيء"١. وسئل الإمام أحمد ﵀ عن زيادة الإيمان ونقصانه فقال: "يزيد حتى يبلغ أعلى السموات السبع، وينقص حى يصير إلى أسفل السافلين السبع"٢. رابعًا: أنَّ النخلة لا تنبت في كلِّ أرض، بل لا تنبت إلاّ في أراضٍ معيّنةٍ طيّبة التربة، فهي في بعض الأماكن لا تنبت مطلقًا، وفي بعضها تنبت ولكن لا تثمر، وفي بعضها تُثمر ولكن يكون الثمر ضعيفًا، فليس كلُّ أرض تناسب النخلة. قال أبو حاتم السجستاني: "قالوا: وإنَّما يرديه ويسيء نبته طعمة الأرض، فيجيء ضخمًا كثير القشر، سريع اليبس ثَنِتًا، أي: عَفِنًا، جَخِرًا نَخِرًا، والجخرُ: الضخم الذي ليست له قوة ولا تعجبه الأرض فيميل وينتفخ وتخوي نخلته وتردؤ، وإذا كان في أرض جيّدة السر جاء أبيضَ رقيقًا، وتراه كأنَّ طرفه يدري لا يُعوِّجه شيء حتى يدرك الماء بعُدَ أو قَرُب، وإذا كان العِرْق في أرضٍ طيّبةِ الطين وقف ساعةً يشرع في الماء؛ لأنَّه يرجع إلى طينة طيبة وطعمة تعجبه، ولم ينحدِر إلاّ طلبَ الماء، فلما شام الماءَ وقف، وإذا انحدر من أرضٍ خبيثة الطين ليس لها سرٌّ انخرط حتى يتثنى في الماء عفنًا؛ لأنّه إنما ساقه طلب الماء، فلما وجد طعمة الماء جعل انخراطًا فيه مِن بُغض ما فوقه"٣. فليست كلُّ أرضٍ تناسب النخلة. وهكذا الشأنُ في الإيمان فهو لا يثبت في كلِّ قلبٍ، وإنَّما يثبتُ في قلب من كتب الله له الهدايةَ وشرح صدرَه للإيمان، والقلوب أوعيةٌ متفاوتةٌ، ولهذا صحّ في الحديث عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: "مثلُ ما بعثني الله

١ رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (٥/٩٥٩) . ٢ رواه ابن أبي يعلى في الطبقات (١/٢٥٩) . ٣ كتاب النخل (ص:٦٦،٦٧) .

1 / 211

به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب الأرضَ، فكانت منها طائفةٌ قبِلت الماءَ فأنبتت الكلأَ والعشبَ الكثيرَ، وكانت منها أجادِب قد أمسكت الماءَ فنفع الله به النَّاسَ فشربوا منها ورعوا وسقوا، وأصابت طائفة أخرى إنَّما هي قِيعان فلا تمسك ماءً ولا تنبتُ كلأً، كذلك مثلي ومثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلِمَ وعلَّم، ومثَل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلتُ به"١. خامسًا: أنَّ النخلةَ قد يخالطها دغلٌ ونبت غريبٌ ليس من جنسها قد يؤذي النخلةَ، ويضعف نموها، ويزاحمها في سقيها؛ ولهذا تحتاج النخلة في هذه الحالة إلى رعايةٍ خاصّة وتعاهدٍ من صاحبها بحيث يُزال عنها هذا الدغل والنوابت المؤذية، فإن فعل ذلك كمُل غرسه، وإن أهمله أوشك أن يغلب على الغرس فيكون له الحكم ويضعف الأصل. وهكذا الأمر بالنسبة للمؤمن، لا شك أنَّه يصادفُه في الحياة أمورٌ كثيرةٌ قد توهي إيمانَه وتُضعف يقينَه، وتزاحم أصلَ الإيمان الذي في قلبه؛ ولهذا يحتاج المؤمن أنْ يحاسب نفسَه في كلِّ وقت وحين، ويجاهدها في ذلك، ويجتهد في إزالة كلِّ وارد سيئٍ على القلب، ويُبعد عن نفسه كلَّ أمر يؤثِّر على الإيمان كوساوس الشيطان، أو النفس الأمّارة بالسوء، أو الدنيا بفتنها ومغرياتها أو غير ذلك، والله يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ﴾ ٢. سادسًا: أنَّ النخلةَ كما أخبر الله ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾ والأكل الثمر، فهي تؤتي ثمرها كلَّ حين ليلًا ونهارًا صيفًا وشتاءً إمّا تمرًا أو بُسرًا أو رُطَبًا. وكذلك المؤمن يصعد عملُه أوّل النهار وآخره، قال الربيع بن أنس: ﴿كُلَّ حِينٍ﴾: "أي كلّ غدوة وعشية؛ لأنَّ ثمر النخل يؤكل أبدًا ليلًا ونهارًا وصيفًا

١ صحيح البخاري (١/٤٥)، وصحيح مسلم (٤/١٧٨٧) . ٢ سورة: العنكبوت، الآية: (٦٩) .

1 / 212

وشتاءً، إمّا تمرًا أو رطبًا أو بُسرًا، كذلك عمل المؤمن يصعد أول النهار وآخره"١. وقال الضحاك: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾: "تخرج ثمرها كلَّ حين، وهذا مثل المؤمن يعمل كلَّ حين كلَّ ساعة من النهار، وكلَّ ساعة من الليل وبالشتاء والصيف بطاعة الله"٢. وقد أورد ابن جرير ﵀ عن السلف عدّةَ أقوال في المراد بقوله تعالى: ﴿كُلَّ حِينٍ﴾ ثم قال: "وأولى الأقوال في ذلك عندي قول من قال: عنى بالحين في هذا الموضع: غدوة وعشية وكلَّ ساعة؛ لأنَّ الله تعالى ذِكرُه ضرب ما تؤتي هذه الشجرة كلّ حين من الأكل لعمل المؤمن وكلامه مثلًا، ولا شك أنَّ المؤمنَ يُرفع له إلى الله في كلِّ يوم صالح من العمل والقول، لا في كل سنة أو في كل ستة أشهر أو في كلِّ شهرين، فإذا كان ذلك كذلك فلا شك أنَّ المثل لا يكون خلافًا للممثَّل به في المعنى، وإذا كان ذلك كذلك كان بيِّنًا صحة ما قلنا. فإن قال قائل: فأيُّ نخلة تؤتي في كلِّ وقت أكلًا صيفًا وشتاء؟ قيل: أما في الشتاء فإنَّ الطلع من أكلها، وأما في الصيف فالبَلَح والبُسر والرطب والتمر، وذلك كلّه من أكلها"٣. ثم روى عن قتادة أنه قال: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾: "يؤكل ثمرها في الشتاء والصيف". سابعًا: أنَّ النخلةَ فيها بركةٌ في كلِّ جزء من أجزائها، فليس فيها جزء لا يُستفاد منه، وهكذا الشأنُ بالنسبة للمؤمن، وقد جاء في صحيح البخاري في

١ ذكره البغوي في تفسيره (٣/٣٣) . ٢ رواه ابن جرير في تفسيره (٨/٢٠٨) . ٣ تفسير الطبري (٨/٢١٠) .

1 / 213

بعض ألفاظ حديث ابن عمر المتقدّم من رواية الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر أن النبي ﷺ قال: "إنَّ من الشجر لما بركته كبركة المسلم ... " الحديث. "وبركة النخلة موجودة في جميع أجزائها، مستمرّة في جميع أحوالها، فمن حين تطلع إلى أن تيبس تؤكل أنواعًا، ثم بعد ذلك يُنتفع بجميع أجزائها حتى النَّوى في علف الدوابّ والليف في الحبال وغير ذلك مما لا يخفى، وكذلك بركة المسلم عامّة في جميع الأحوال، ونفعُه مستمر له ولغيره حتى بعد موته"١. ثامنًا: أنَّ النخلةَ كما وصفها النبيّ ﷺ: "لا يسقط ورقُها" وبين المسلم والنخلة في هذا وجه شبه يتضح بما رواه الحارث بن أبي أسامة في هذا الحديث من وجه آخر عن ابن عمر، ولفظه: قال: "كنا عند رسول الله ﷺ ذات يوم فقال: "إنَّ مثل المؤمن كمثل شجرة لا تسقط لها أنملة، أتدرون ما هي؟ " قالوا: لا. قال: "هي النخلة، لا تسقط لها أنملة، ولا تسقط لمؤمن دعوة" ٢. قال القرطبي في تفسيره مبيِّنًا أهميةَ هذه الزيادة وعِظم فائدتها: "وزاد فيه الحارث بن أسامة زيادةً تساوي رحلة عن النبي ﷺ قال: "وهي النخلة لا تسقط لها أنملة، وكذلك المؤمن لا تسقط له دعوة" فبيّن معنى الحديث والمماثلة"٣. والدعاء مأمور به كما هو معلوم، وموعود عليه بالإجابة كما قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ ٤ لكن الدعاء سببٌ مقتضٍ للإجابة مع

١ فتح الباري لابن حجر (١/١٤٥،١٤٦) . ٢ فتح الباري (١/١٤٥) . ٣ الجامع لأحكام القرآن (٩/٢٣٦) . ٤ سورة غافر، الآية: (٦٠) .

1 / 214

استكمال شرائطه وانتفاء موانعه، وقد تتخلّف الإجابة لانتفاء بعض شروطه أو وجود بعض موانعه وآدابه والتي من أعظمها حضور القلب ورجاء الإجابة، والعزم في المسألة١. وذكر ابن القيّم ﵀ في معنى الحديث وجهًا آخر وهو أنَّ ذلك يدلّ على: "دوام لباسها وزينتها فلا يسقط عنها صيفًا ولا شتاءً، كذلك المؤمن لا يزول عنه لباس التقوى وزينتها حتى يوافيَ ربَّه تعالى"٢. تاسعًا: أنَّ النخلة وُصفت في الآية بأنَّها طيّبة، وهذا أعمّ من طيب المنظر والصورة والشكل، ومن طيب الريح وطيب الثمر وطيب المنفعة، والمؤمن أجلّ صفاته الطيب في شؤونه كلِّها وأحواله جميعها، في ظاهره وباطنه وسرِّه وعلنه؛ ولهذا عندما يدخل المؤمنون الجَنَّةَ تتلقّاهم خزنتها وتقول لهم: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ ٣، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سلاَمٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ٤، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَيِّبِ مِنَ القَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الحَمِيدِ﴾ ٥. فالطيب أجَلُّ صفاتهم وأجمل نعوتهم وأحسن حليتهم في أحوالهم كلها، في أقوالهم وأعمالهم وفي حركاتهم وسكناتهم وشؤونهم جميعها. عاشرًا: أنَّ النخلةَ وُصفت بأنّها: "ما أخذتَ منها من شيء نفعك" كما في حديث ابن عمر المتقدّم، و"النخلة كلها منفعة، لا يسقط منها شيء بغير

١ انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص:٣٦٨) . ٢ مفتاح دار السعادة (١/١١٦) . ٣ سورة: الزمر، الآية: (٧٣) . ٤ سورة: النحل، الآية: (٣٢) . ٥ سورة الحج، الآية: (٢٣،٢٤) .

1 / 215

منفعة، فثمرها منفعة، وجذعها فيه من المنافع ما لا يُجهل للأبنية والسقوف وغير ذلك، وسعفُها تُسقف به البيوت مكان القصب، ويُستر به الفُرَج والخَلَلُ، وخوصُها يُتخذ منه المكاتل والزنابيلُ وأنواعُ الآنية، والحُصُر وغيرها، ولِيفُها وكربها فيه من المنافع ما هو معلوم عند الناس"١. وهكذا الشأن بالنسبة للمؤمن مع إخوانه وجلسائِه ورفقائه، لا يُرى فيه إلاّ الأخلاق الكريمة، والآداب الرفيعة، والمعاملة الحسنة، والنصح لجلسائه، وبذل الخير لهم، ولا يصل إليهم منه ما يضر، بل لا يصل إليهم منه إلاَّ ما ينفع كالكلمة الطيّبة والموعظة الحسنة والخلق الجميل والعون والمساعدة ونحو ذلك، فهو كالنخلة ما أخذتَ منه من شيء نفعك. حادي عشر: أنّ النخل بينه تفاوت عظيمٌ في شكله ونوعه وثمره، فليست النخيل في مستوى واحد في الحسن والجودة، بل بينه من التفاوت والتمايز الشيء الكثير، كما قال الله تعالى: ﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ٢، فهو متفاوت في طعمه ومنظره ونوعه، وبعضه أفضل من بعض. وهكذا الشأن بين المؤمنين، فالمؤمنون متفاوتون في الإيمان، وليسوا في الإيمان على درجة واحدة، بل بينهم من التفاوت والتفاضل الشيء الكثير، قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلكَ هُوَ الفَضلُ الكَبِيرُ﴾ ٣.

١ مفتاح دار السعادة لابن القيّم (١/١٢٠) . ٢ سورة الرعد، الآية: (٤) . ٣ سورة فاطر، الآية: (٣٢) .

1 / 216