التفكر والاعتبار بآيات الكسوف والزلازل والإعصار

عبد الكريم الحميد ت. غير معلوم

التفكر والاعتبار بآيات الكسوف والزلازل والإعصار

الناشر

بدون ناشر فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية

رقم الإصدار

الأولى

سنة النشر

١٤٢٦ هـ - ٢٠٠٥ م

مكان النشر

الرياض

تصانيف

عبد الكريم بن صالح الحميد، ١٤٢٦هـ فهرست مكتبة الملك فهد الوطنية الحميد، عبد الكريم بن صالح التفكر والاعتبار بآيات الكسوف والزلازل والإعصار. / عبد الكريم بن صالح الحميد - بريدة، ١٤٢٦هـ ١٣٤ ص؛ ١٧× ٢٤ سم ردمك: ٢ - ٦١٢ - ٤٩ - ٩٩٦٠ ١ - الوعظ والإرشاد أ. العنوان ديوي ٢١٣ ٥٧٦٥/ ١٤٢٦ رقم الإيداع: ٥٧٦٥/ ١٤٢٦ ردمك: ٢ - ٦١٢ - ٤٩ - ٩٩٦٠ حقوق الطبع محفوظة إلا لمن أراد طبعه وتوزيعه مجانًا الطبعة الأولى ١٤٢٦هـ - ٢٠٠٥م

1 / 1

ح فهرست مكتبة الملك فهد الوطنية الحميد، عبد الكريم بن صالح التفكر والاعتبار بآيات الكسوف والزلازل والإعصار. / عبد الكريم بن صالح الحميد – بريدة، ١٤٢٦هـ ١٣٤ ص؛ ١٧× ٢٤ سم ردمك: ٢ - ٦١٢ - ٤٩ - ٩٩٦٠ ١ – الوعظ والإرشاد ... أ. العنوان ديوي ٢١٣ ... ٥٧٦٥/ ١٤٢٦ عبد الكريم بن صالح الحميد، ١٤٢٦هـ حقوق الطبع محفوظة إلا لمن أراد طبعه وتوزيعه مجانًا الطبعة الأولى ١٤٢٦هـ - ٢٠٠٥م ــ للاطلاع على المزيد من كُتب الشيخ أنظر صفحته على موقع (صيد الفوائد) على شبكة الإنترنت: http://saaid.net/Doat/alhomaid/index.htm رقم الإيداع: ٥٧٦٥/ ١٤٢٦ ردمك: ٢ - ٦١٢ - ٤٩ - ٩٩٦٠

1 / 2

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .. ... أما بعد: فقد كتبت سابقًا في موضوع الكسوف والخسوف وأن كوْن ذلك يُدرك علم وقته قبل وقوعه بحساب سيْر الشمس والقمر حيث بيّن ذلك علماؤنا مثل ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله. وكان المراد من ذلك: أولًا: بيان خطأ من أنكر العلم بإدراك ذلك قبل أن يكون. والثاني: أنه لا يُعارض ما ورد في الشرع من أنه مما يُخَوِّف الله به عباده. ولَمَّا رأيت أن الأمر في وقتنا هذا تفاقم وعَظُم بصورة لم يسبق لها مثيل، وذلك من جهة ظن التعارض بين معرفة أسباب الآية وبين كوْنها مما يُخوّف الله بها العباد، مما ظهرت له آثار سوء، وذلك بعزل المالك

1 / 3

سبحانه عن ملكه وعن تصرفه فيه وتدبيره له!. وأكبر شاهد على ذلك أنه مع كثرة ما تتابع في زماننا من الآيات العظيمة الموجبة لخوف الإله العظيم سبحانه إلا أنه مع عدم الخوف فلا ذكر لله أيضًا!، وكأن الطبيعة تتصرف بنفسها فضلًا عن الإقلاع عن موجبات سخطه والتوبة والرجوع إليه كما كان يحصل في الماضي، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا﴾ (١)، وقال سبحانه: ﴿وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾ (٢). واعلم أن الخوف هو - كما قال ابن القيم -: (مسبوق بالشعور والعلم، فَمُحال خوف الإنسان مما لا شعور له به) (٣). وهذا هو الفارق بيننا وبين السلف، فالقلوبُ اليوم قَسَت وأظلمت، فضَعُف الشعور بالمالك المتصرف في ملكه سبحانه أو عُدِم فيصير من المحال خوف الإنسان مما لا شعور له به. ولا ريب أن الغَيْبة التي دَهَتْ القلوب عن مُحَرّك الكون ومُسَكِّنه هي بسبب التشبه بالكفار حيث يتكلمون عن أسباب مقطوعة عن المسبب،

(١) سورة الإسراء، الآية: ٥٩. (٢) سورة الإسراء، الآية: ٦٠. (٣) مدارج السالكين، ١/ ٥١٥.

1 / 4

وأدواؤهم قد طبّقت الأرض كلها، والفتنة بهم أصبحت لا تشبه الفتن وهم معطلة يرون الكون لا خالق له (١)!. وإذا كان الخوف - كما قال العلماء - يتولّد من تصديق الوعيد، وذكر الجناية، ومراقبة العاقبة؛ فإن أولئك الكفار ومَن قلَّدهم في مَعزِل عن الخوف المثمر للتوبة والإنابة، أما الخوف البهيمي فلا يُميّز الإنسان عن هذا النوع. ولذلك يقول الإمام الجنيد عن الخوف: (أنه توقع العقوبة على مجاري الأنفاس). وقال أبو حفص النيسابوري: (الخوف سَوْط الله يُقَوِّم به الشاردين عن بابه). وقال: (كل أحد إذا خِفْته هربت منه إلا الله ﷿، فإنك إذا خفته هربت إليه).

(١) وهذا شاهد، وإلا فالذي ركبته الأمة من سنن أهل الكتاب المنهي عنها - وهو من موجبات السخط والعقوبة - ظاهر غاية الظهور، وقد وصَفَه رسول الله ﷺ وصفًا دقيقًا بليغًا، ووقع كما وصف!. وواللهِ لو أنه أمَرنا باتباع سَننهم شِبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، وحذو القذة بالقذة .. ونحو ذلك من الوصف البليغ الذي ورد في أحاديث التشبه بهم لقلنا: " هذا لا يُقدر عليه ولا يُطاق! "، ولكن انظر ما الذي حصل اليوم، وهو من معجزاته ﷺ ودلائل نبوته.

1 / 5

وقال أبو سليمان الداراني: (ما فارق الخوف قلبًا إلا خَرِب). وقال ذو النون: (الناس على الطريق ما لم يَزِلْ عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق). وقال ابن تيمية: (الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله) انتهى.

1 / 6

الفرق بين السلف والخلف في الخوف من الله تعالى لقد ذكر ابن كثير ﵀ في تاريخه، وذكر غيره من السلف والمؤرخين ما حدث في أزمانهم وقبلها من الآيات، وفي غالبها يذكرون ما يُقارنها ويعقبها من نتائج مفقودة في عصرنا؛ فالناس ينكسرون ويذلون لربهم ويضجون إليه بالتضرع والدعاء، وأهل المعاصي الظاهرة يُكسّرون آلات لهوهم ويُهْريقون خمورهم، ويلجأ الناس إلى المساجد بكسرة وذلة وخوف؛ وهذا مطلوب ومحمود. وبالجملة .. فإن أحوالهم تتغير إلى خير، وانتقال مما يسخط الله إلى ما يُرضيه، وهذا من حكمة إحداث الله الآيات لعباده .. قال تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ؟ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ؟ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ (١). والسبب أن أحوالهم كانت قريبة من الفطرة وصفائها والشرعة

(١) سورة الأنعام، الآيات: ٤٢ – ٤٤.

1 / 7

وطهارتها، ولذلك يَقْرُب عَوْدُهم إلى ربهم مع بيان منكرات الشريعة حيث إنه ما غشاهم اللَّبْسُ الذي يُضعف الفرقان الديني أو يُزيله بالكلية ويقلبه. أما أحوالنا فقد أصبحت مُعَقّدة، واللَّبْس قد تمكَّن، والفهوم كدِرَة، والفِطَر مُجْتالة، والشبهات الكثيرة واردة من الفجرة على كل جانب من جوانب الشريعة، يوحيها إليهم الشيطان. وإنَّ تَرَحّل الخوف من القلوب لنذير شرّ، وإن هذا لظاهر فينا ظهورًا بَيِّنًا دلت عليه ِآياتٌ عديدة جاءتنا ولم تُلْجئنا إلى ربنا بخلاف ما كان عليه السلف من عظيم صلتهم بخالق الكون ومُدَبِّره - سبحانه - في رَغَباتهم ورهَبَاتهم. وحينما زلزلت الكوفة في وقت عبد الله بن مسعود قال ﵁: (إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه) (١). قال ابن القيم ﵀: (استعتاب الله عبدَه أن يطلب منه أن يُعْتبه، أي يزيل عُتْبه عليه بالتوبة والاستغفار والإنابة، فإذا أناب إليه رَفَع عنه عُتْبَه) انتهى (٢).

(١) أنظر تفسير الطبري، ١٥/ ١٠٩. (٢) مفتاح دار السعادة، ص (١٢١).

1 / 8

من أسباب قسوة القلوب اليوم، وفراغها من الخوف من الله ﷿ لقد كان من أسباب رحيل الخوف ظلمة القلوب لِمَا غطاها من ران الذنوب لَمَّا انتشر داء التعطيل والإلحاد حتى ملأ العالم بواسطة علوم دخيلة على المسلمين مجالها الطبيعة المقطوعة عمن خلقها ويُدَبِّرها، ومن هنا رحَل الخوف، ومن هنا عُزِل المالك سبحانه عن التصرف في ملكه، وذلك في عقول الطغام أشباه الأنعام حيث أصبحوا لا يذكرون الله ولا يخشونه حينما يقع بأس الله وغضبه كالكسوف والزلازل والأعاصير وغيرها، وإنما ينسبون ذلك للطبيعة وكأنها تتصرف بذاتها!. قال تعالى: ﴿فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (١)، فأين التضرع عند حدوث الحوادث؟!. قال ابن الجوزي: (الدنيا دار الإله، والمتصرِّف في الدار بغير أمر صاحبها لص) انتهى.

(١) سورة الأنعام، الآية: ٤٣.

1 / 9

لقد عُزِل المالك سبحانه عن ملكه وامتلأت الأرض باللصوص!. ولو فَتَّش المسلمون اليوم بصدق عن سبب قسوة قلوبهم وبُعدهم عن خالقهم لوجدوا أن أعظم أسباب ذلك هو هذه العلوم المادية الإلحادية التي نشأ عليها الصغير وهرم عليها الكبير، لأنها جاءت من ملاحدة عزلوا الله عن علومهم الكوْنية إطلاقًا، وصارت فتنتها من أعظم الفتن التي تشَرَّبتها القلوب، فالأسباب عندهم مستقلة عن مُسَبِّب. كيف يتأتَّى والحال هكذا خوفٌ من الله وتجنبٌ لمساخطه؟!. والله المستعان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

1 / 10

الآيات والكوارث سببها الكفر والمعاصي قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ على قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ (١)، قال: (فخوَّف العبادَ مُطْلقًا، وأمرهم بتقواه لئلا ينزل [بِهم] الْمَخُوف، وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، والإنذار هو الإعلام بما يُخاف منه، وقد وُجدت الْمَخُوفات في الدنيا، وعاقب الله على الذنوب أممًا كثيرة كما قَصَّه في كتابه، وكما شُوهِدَ مِن الآيات) انتهى (٢). ولقد أخبر الله ﵎ في كتابه الكريم بأن هذه الآيات والكوارث العظيمة ليس حصولها بمجرد سبب طبيعي مجرد فحسب، بل بسبب ما يرتكبه بنو آدم من الكفر والمعاصي والذنوب، حيث بيَّن سبحانه أنه قد أخذ بمثل هذه الآيات أُمَمًا كثيرة بسبب ما ارتكبوه من الكفر والمعاصي والذنوب، فقال سبحانه وهو يعدد أصناف ما أصاب به أولئك الأقوام بسبب ذنوبهم: ﴿فَكُلًاّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ

(١) سورة الزمر، من الآية: ١٦. (٢) منهاج السنة النبوية، ٥/ ٢٩٩.

1 / 11

أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (١). وقال ﷿: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ (٢). وقال تعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (٣)، وقال سبحانه: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ (٤). وقد دمر الله جنوب أمريكا الكافرة الجائرة بريح عاتية تُذَكِّرنا بما أصاب عادٍ قوم هود، وصاحَب تلك الريح غرق عظيم صبت السماء ماءه صبًا، وتفجرت الأرض بفيضانات عارمة، فالتقى الماء على أمر قد قدر

(١) سورة العنكبوت، الآية: ٤٠. (٢) سورة الأنعام، الآية: ٦. (٣) سورة آل عمران، الآية: ١١. (٤) سورة غافر، الآية: ٢١.

1 / 12

مع رياح شديدة، فغرقت مدينة كاملة بأسرها، حتى ﴿دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ (١)، ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ (٢). وقد أخبر الله سبحانه أنه بمثل هذه الأعاصير العاتية قد أخذ عادٍ قوم هود حين كفروا به وكذبوا رسوله هود – ﵇، حتى جعلتهم تلك الريح العاتية بأمر ربها كأعجاز نخل خاوية، فقال سبحانه: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ؟ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ﴾ (٣). كما أخبر سبحانه أنه أخذ قومَ نوح بالطوفان العظيم الذي تفجر من الأرض عيونًا، وانفتحت السماء بماء عظيم تصبه صبًا، فالتقى الماء على أمر قد قدر، حتى أغرقهم سبحانه عن آخرهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر بعد أن كفروا بربهم وكذبوا رسوله؛ فقال سبحانه: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ؟ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ؟ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ؟ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى

(١) سورة محمد، من الآية: ١٠. (٢) سورة هود، من الآية: ٨٣. (٣) سورة فصلت، الآيات: ١٤ - ١٥.

1 / 13

الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ؟ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ؟ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ؟ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (١). وأخبر سبحانه أنه أخذ بالمطر الشديد والسيل العرم قبيلة (سبأ) (٢) حينما كفرت بربها وبِنِعَمِهِ عليها، حتى مزقها كل ممزق، وجعلها أحاديث للناس وعبرة لهم، وآية لكل صبار شكور، فقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ؟ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ؟ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ؟ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ؟ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ؟ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ

(١) سورة القمر، الآيات: ٩ - ١٥. (٢) وهي قبيلة يمنية مشهورة، وبلدتهم معروفة يقال لها (مأرب)؛ أنظر (تفسير الشوكاني، ٤/ ٣١٩)، و(معجم البلدان، لياقوت الحموي، ٣/ ١٨١).

1 / 14

مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ (١). قال الإمام ابن القيم: (وهل في الدنيا والآخرة شرور وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي، فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دارِ اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب!. وما الذي أخرج إبليسَ من ملكوت السماء، وطرَدَه، ولَعَنَه، ومَسَخ ظاهره وباطنه، فَجُعِلَتْ صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبُدِّل بالقرب بُعدًا، وبالرحمة لعنةً، وبالجمال قبحًا، وبالجنةِ نارًا تلظى، وبالإيمان كفرًا، وبموالاتِ الولي الحميد أعظم عداوة ومُشاقة، وبزَجَل التسبيح والتقديس والتهليل زجَل الكفر والشرك والكذب والزور والفحش، وبلباس الإيمان لباس الكفر والفسوق والعصيان، فهان على الله غاية الهوان، وسَقَط من عينه غاية السقوط، وحلَّ عليه غضبُ الربِّ تعالى، فأهواه ومَقَته أكبر المقت فأرداه، فصار قوَّادًا لكل فاسق ومجرم رضي لنفسه بالقيادة بعد تلك العبادة والسيادة، فعياذا بك اللهم من مخالفة أمرك وارتكاب نهيك. وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماءُ فوق رؤوس الجبال!. وما الذي سلَّط الريحَ العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه

(١) سورة سبأ، الآيات: ١٥ - ٢١.

1 / 15

الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمرت مامرَّت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة!. وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قَطَّعَت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم!. وما الذي رفَع قرى اللوطية حتى سَمِعت الملائكةُ نبيحَ كلابهم، ثم قَلَبَها عليهم فجعل عالِيَهَا سافلها فأهلكهم جميعًا، ثم أتبعهم حجارة من سجيل السماء أمطرها عليهم، فجَمَع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمةٍ غيرهم، ولإخوانهم أمثالها .. ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ (١)!. وما الذي أرسل على قوم شعيبٍ سحابَ العذابِ كالظُّلل، فلمَّا صار فوقَ رؤسهم أمطر عليهم نارًا تلظى!. وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر، ثم نُقلت أرواحهم إلى جهنم فالأجساد للغَرَق والأرواح للحرق!. وما الذي خَسَف بقارون وداره وماله وأهله! .. وما الذي أهلك القرونَ من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمَّرها تدميرًا!. وما الذي أهلك قوم صاحبَ يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم!.

(١) وقد ورد أن مثل هذه العقوبة ما هي ببعيد من ظالمي هذه الأمة إذا فعلوا مثل فعل قوم لوط.

1 / 16

وما الذي بعث على بني إسرائيل قومًا أولي بأسٍ شديدٍ، فجاسوا خلال الديار، وقتلوا الرجالَ، وسبوا الذراري والنساء، وأحرقوا الديار، ونهبوا الأموال، ثم بعثهم عليهم مرة ثانية، فاهلكوا ما قدروا عليه وتَبَّروا ما عَلَوْ تتبيرًا!. وما الذي سلَّط عليهم أنواعَ العذاب والعقوبات، مرةً بالقتل والسبي وخراب البلاد، ومرةً بجوْرِ الملوك، ومرة بمسخهم قردة وخنازير، وآخر ذلك أقسم الرب ﵎ ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب! (١). قال الإمام أحمد، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا صفوان بن عمر وحدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه، قال: لما فتحت قبرص فُرِّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء .. ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟!، فقال: " ويحك يا جبير!، ما أهون الخلق على الله ﷿ إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله

(١) وقد أخبر النبي ﷺ أن أمته تتبع آثارهم وتقترف ما اقترفوه، وقد حصل الأمر كما أخبر وزيادة، فهل لهم الْمُرّة ولنا الحلوة؟!، .. وسُنن الله لا تتبدل، قال تعالى بعد ذكره عقوبات الأمم المتقدمة بذنوبها: ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُر ِ﴾ [سورة القمر، آية: ٤٣]، وسُنن الله عادته، وهي لا تتبدل ولا تتحول ولا تتغير؛ فالحذر الحذر من التشبه بالكفار وتتبع آثارهم واقتراف ما اقترفوه.

1 / 17

فصاروا إلى ما ترى! (١) انتهى (٢). ولهذا حذر الله عباده من شؤم الذنوب والمعاصي التي تجلب الكوارث والدمار والبوار، فقال سبحانه وهو يذكرهم بما حلَّ بمن كَفَر به وعصاه من العقوبات والكوارث المدمرة: ﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ﴾ (٣)، وقال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ (٤)، وقال سبحانه: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا﴾ (٥)، وقال سبحانه: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ (٦). فالحذر الحذر قبل أن تحل بنا عقوبات الإله العظيم ونحن على أحوال لا

(١) أخرجه أحمد في (الزهد، ١/ ١٤٢)، وأبو نعيم في الحلية (١/ ٢١٦)، وأخرج سعيد بن منصور نحوه في (سننه، ٢/ ٢٩٠). (٢) الجواب الكافي، ص (٢٦). (٣) سورة الحج، آية: ٢٥. (٤) سورة الحج، آية: ٤٨. (٥) سورة الطلاق، آية: ٨. (٦) سورة النحل، آية: ١١١.

1 / 18

ترضيه تعالى، فقد ذَكَّرَنا سبحانه بما عاقب به مَن كفر به وعصاه، وأكثر من تذكيرنا بذلك رحمة بنا وإعذارًا قبل أن يأخذنا بذنوبنا وبما فعل السفهاء منا، وواللهِ لن تنفعنا إحالة هذه الكوارث لـ (الطبيعة) إذا وقع بنا أمرُ الله، وحلت بساحتنا العقوبات كما حلت بمن قبلنا ومَن حولنا بعد أن بارزوا ربهم بالمعاصي والمنكرات، ونسأل الله يلطف بنا وبالمسلمين، وأن لا يؤاخذنا بذنوبنا ولا بما فعل السفهاء منا. وسيأتي الكلام في آخر الكتاب - إن شاء الله - على أسباب تأخر العقوبات الكونية العامة على كثيرٍ من الناس في هذا الزمان بعد أن بارزوا الله بشتى أنواع المنكرات إلا ما شاء الله، بينما تحل بأسلافهم في الماضي حينما يرتكبون بعض ما يُرتكب اليوم من المعاصي والمنكرات التي لم يسبق لها مثيلًا في كَمِّها وكيفيتها وصِفَتها - ولا حول ولا قوة إلا بالله -. هل معرفة الأسباب الطبيعية لحدوث الآيات والكوارث ينافي الخوف من الله، وأنها عقابًا منه؟!

1 / 19

لقد كان كثير من السلف يعلمون الأسباب الطبيعية لهذه الآيات والكوارث، وما كان ذلك حائلًا بينهم وبين معرفة الحكمة من إحداثها. غير أن كثيرًا من الناس في وقتنا لَمَّا علموا بعضَ الأسباب التي يُجريها الرب سبحانه لآياته، وهي بعض أسباب حصول الآية أو احتمال حصولها رأوْا أنهم شَبّوا عن الطَّوْق، فتركوا ربْط الأسباب بِمُسَبِّبها لمن يَرَوْنهم " دراويشًا " حتى صاروا بينهم موْضعَ سخريةٍ وتندّر!، فابتعدوا عن ربهم وتنكّروا لدينهم، ويحسبون أنهم على شيء، وإنما هم كطفل في خطواته الأولى قَدَّر في نفسه استغناءه عن والديه فهام في خطواته المتعثرة مبتعدًا عن والديه مُتَخيلًا قدرته على الاستقلال عنهما فكان ضحيةَ خَوَاطِره كما قيل في المثل: (إذا أراد الله حَتْفًا بنملة، أتاحَ لها جناحان فطارا بِها!)، أيْ طارا بها عن بيتها وعن أصحابها لأنها أجنحة تقود إلى الحتْف، وسُرْعان ما تساقطت، وإذا هي في المتاهة والضياع!. والأسباب التي عرفها هؤلاء هي أن الكسوف يُحَدّد وقته مُسْتَقْبَلًا ويقع كما حُدِّد؛ والزلازل عرفوا أن سببها أبخرة في داخل الأرض مُتحجّرة فتُريد الخروج فتحصل الزلازل، والأعاصير والفيضانات لها أوقات ومواسم

1 / 20