أحاديث وآثار في الكذب
روى الحاكم وأبو داود (أن الرسول ﷺ رأى امرأة تدعو ولدها تقول له: هاك أعطك، وفي يدها شيء، فلما جاء أعطته، قال: ما أعطيته؟ قالت: أعطيته تمرة، قال: أما إنك لو لم تعطه لحسبت عليك كذبة) فهذه تبيّن لك أن القضية ليست بسهلة، لماذا؟ أولًا: لأنها كذبت على الولد، ثانيًا: لأنها ربته على الكذب، فهناك من الناس من يكون جالسًا ويريد أن يأتيه الولد، وليس هناك من يقوم فيمسكه، فيقول: هاك خذ حلاوة! خذ حلاوة يا ولد! فإذا أتى الولد أمسكه، فيتلفت الولد فلا يجد الحلاوة، فمباشرة يكره هذا الشخص ويعرف أنه كذّاب، ولم يعد يصدقه بعد ذلك ويصبح كذّابًا مثله، لأنه طبعه على الكذب.
فإذا قلت لطفل تعال أعطك فأعطه، وإن لم تفعل كُتبت عليك كذبة.
وروى الإمام مسلم في صحيحه في باب أخلاق النبوة أن النبي ﷺ قال: (لو أفاء الله علينا نعمًا عدد هذا الحصى -يقول للصحابة وهم في موقف من الضعف والذل والفقر وليس عنده شيء، لكنه يَعِد ويصدق صلوات الله وسلامه عليه- لو أفاء الله علينا نعمًا -يعني الإبل، فقد كانت أعظم ما يمتلكه العرب- عدد هذا الحصى -الذي أمامكم- لقسمتها بينكم ثم لا تجدوني بخيلًا ولا كذّابًا ولا جبانًا) يقول صلوات الله وسلامه عليه: (لا تجدوني بخيلًا ولا كذّابًا ولا جبانًا) اللهم صلِّ وسلم على رسول الله.
وقال ﵊: وكان متكئًا -والحديث في الصحيحين من حديث أبي بكرة ﵁: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ثم كان متكئًا فجلس وقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور ألا وشهادة الزور، حتى قلنا: ليته سكت) ويدخل في شهادة الزور الكذب، فإن شهادة الزور أصلها الكذب، فهذا الحديث يخص شهادة الزور، لكنه يُدخل ويعم أيضًا الكذب، فالكذب من أكبر الكبائر وأعظم العظائم، والعياذ بالله.
وروى ابن عمر عن النبي ﷺ: (إن العبد ليكذب الكذبة فيتباعد الملك من فيه مسيرة ميل من نتن رائحة فمه) يعني: تحدث هذه الكذبة أثرًا ماديًا تشمه الملائكة، وهو رائحة نتنة قذرة لا يشمها إلا هم، فيتباعد الملك الموكل بكتابة عمله على مسافة ميل، حتى لا يشم رائحة نتنة والعياذ بالله، وهذا الحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
ثم يخبر ﵊ ويقول: (من حلف على يمين بإثم ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله ﷿ وهو عليه غضبان) والحديث في الصحيحين، وبقية الحديث: (قالوا وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبًا من أراك) أي: وإن كان مسواكًا ثمنه ريال واحد، فإذا حلفت عليه واقتطعته بغير حق فإنما تقتطع قطعة من النار، ويلقى العبد ربه وهو عليه غضبان، والسبب أنه حلف كاذبًا والعياذ بالله.
وعن علي ﵁ قال: [أعظم الخطايا عند الله: اللسان الكذوب، وشر الندامة وأعظمها ندامة: ندامة يوم القيامة] وعن عمر بن عبد العزيز الخليفة الخامس الراشد يقول: [والله ما كذبت كذبة منذ شددت علي إزاري] أي: منذ أصبحت رجلًا أحزم نفسي والله ما كذبت كذبة.
قال له الوليد بن عبد الملك يومًا من الأيام وهو يناقشه: كذبت، فقال عمر: [والله ما كذبت كذبة منذ علمت أن الكذب يشين بصاحبه] .
وقال أحد خلفاء بني أمية لـ ابن شهاب الزهري وكان يحدث بحديث عن رسول الله ﷺ في فضل أهل البيت، فقال له هذا الرجل الوالي: كذبت، فقال: [بل كذبت أنت وأبوك وجدك، والله لو كان الكذب مباحًا من السماء ما كذبت] يقول: والله لو أن الله أباح الكذب -وهذا محال، لكن يعلق يمينه على المحال- ما كذبت، وتقول لي أنا: كذبت، فردها عليه وعلى أبيه وعلى جده، ليس عنده لعب! عندها سجنه، لأنه أمير حاكم، لكنه قد أهانه إلى يوم القيامة، فالكذب سيء ولا يمكن لمسلم أن يرضاه.
يقول ابن السماك وهو من علماء السلف: [ما أراني أؤجر على ترك الكذب، قيل: ولم؟ قال لأنني أدعه أنفة] يقول: أتركه ترفعًا، ولذلك لا أظن أن لي أجرًا عليه، لأني أدعه تأنفًا، ولا يمكن أن أسير فيه مهما كان، وهذا من بالغ درجات نفوسهم الأبية.
ويقول مالك بن دينار: [قرأت في بعض الكتب أنه ما من خطيب إلا وتعرض خطبته] أي: كلامه الذي يقوله على الناس يعرض على عمله، يعني: يقارن ويوازن ويواجه بين الكلام الذي يقول وبين العمل الذي يعمل في الغيبة، وهذه عهدة ومسئولية كبيرة جدًا؛ لأن الله ينظر إلى قلب المتكلم والناس ينظرون إلى لسانه، فالناس يرصدون لسانه وحركته وكلامه وأدلته ونصوصه، ولكن الله ينظر إلى قلبه، فإذا رأى اختلافًا بين كلامه وبين قلبه مقته الله ﷿، وهذا الكلام الذي يقوله الإنسان الداعي أو الواعظ أو الخطيب أو العالم، يؤخذ ويواجه ويقارن بأعماله، فإن كان صادقًا فيما يقول قيل له: صدقت، وإن كان كاذبًا قرضت شفتاه بمقاريض من نار، كلما قرضت نبتت، وكان يقول مالك بن دينار: [الكذب والصدق يعتركان في القلب] يعني: أن هناك معركة بينهما، بين الصدق والكذب، فواحد يريد أن يصدق والثاني يريد أن يكذب، يقول: [حتى يُخرج أحدهما الآخر] فلا يمكن أن يجتمع في قلبك الصدق والكذب معًا، لابد أن يخرج أحدهما، فإذا صار قلبك إناءً للصدق خرج الكذب، وإذا صار قلبك إناءً للكذب خرج الصدق.
3 / 10