وإذا سألتني بماذا تقوم عظمته؟ أجيبك سائلا: بماذا تقوم عظمة المسيح؟ فيسوع لم يؤلف المجلدات الضخمة ولا ألقى الخطب العديدة الفصيحة، والقليل الذي فاه به بعيد عن صناعة الإنشاء والترسل، وخال من الفصاحة وزخرف الكلام، ولكن الحقيقة لا تجيء دائما في المجلدات الضخمة، الحقيقة هي غالبا بنت الإيجاز والبساطة.
إن عظمة تولستوي هي مثال حقيقي لعظمة المسيح، وهي قائمة بالإخلاص والصدق والاستقامة، قائمة بالعمل الصالح والمثل الصالح والفكر السديد. فالاثنان قالا وفعلا وما المصلحون الصغار سوى أقزام بالنسبة إلى المصلح الحقيقي. هؤلاء يتفننون بأساليب القول، ويفوهون بعبارات رنانة ويشعوذون ويوهمون وهم على تخوم الحقيقة ضاربون.
فالفقير الذي يدعو نفسه مصلحا ويطيل لسانه على الأغنياء مبشرا بالاشتراكية ولكنه يفتح فاه مبهوتا إذا رأى غنيا سائرا في عربته هو أحرى بالجلد أكثر من الاعتبار؛ لأن مثل هذا الفقير المصلح ينبذ التعاليم الاشتراكية ظهريا متى صار غنيا. والصالح الفاضل المتظاهر بالتقوى الذي يبشر بالمحبة والإخاء والسلام قولا ويدس لأعدائه الدسائس فعلا هو أولى بالشنق منه بالتأليه. ولكن الزمان يعاقب هؤلاء فينحدرون إلى ظلمات النسيان بعد أن يعيشوا متمرغين في أوحال الكذب والبهتان.
ابن سهل الأندلسي
في القرب من بيتي رابية جميلة، يحيط بها غاب من الصنوبر كبير، وتشرف على الكثير من أودية لبنان وأحراجه وجباله وأدياره، وبالقرب من الرابية قرية صغيرة حقيرة ودير للرهبان قديم العهد، فقصدت المكان ذات يوم ومعي الشاعر الأندلسي ابن سهل، ذهبنا معا دون أن نتحدث على الطريق؛ لأنني ممن لا يعتقدون بجودة العملين اللذين يعملهما المرء في وقت واحد.
وابن سهل هذا من الشعراء الذين صغر حجمهم ونحل جسمهم، وقل ادعاؤهم ورقت عواطفهم، ولطفت شعورهم وكثرت دموعهم. هو شاعر صغير ذو شهرة صغيرة، ولكن كل صغير محبوب، وأنا أحبه؛ لأنه ليس من الشعراء الكثيري القوافي والأوزان القليلي التصور والخيال، ليس من أولئك الذين يهولك لأول مرة طول قصائدهم وتغيظك غرابة ألفاظهم وتزعجك غموضة أقوالهم وتضحكك الشروحات التي هي أضعاف المتن في دواوينهم، ولا هو من أولئك الشعراء العظام الذين ينثرون في بيوتهم الكواكب والأقمار ويثيرون في أبحرهم أمواج الأفكار ويضرمون في قوافيهم النار، بل هو شاعر بسيط صغير حزين لطيف، أحب حبا شديدا مثل قيس العامري وتعذب مثله أيضا، فهو في رأيي قريب جدا من الشاعر الحقيقي إذا لم يكن هو هو بعينه.
كان ابن سهل يعشق على ما أظن عشقا حقيقيا لا عشقا شعريا كأكثر الناظمين والمقفيين. قلت «على ما أظن» لأنني لا أعرف عن حياته الخصوصية شيئا، وهو لم يحدثني عن نفسه عملا بعاطفة الحشمة التي توازي فيه عاطفة الحب، ولا يخرج في كل ما أنشده عن موضوع واحدا شغل قلبه طول حياته وأذاقه أصناف العذاب. هذا إذا صدقنا ما يجهر به في قصائده.
ينبغي للشاعر أن يعيش حقا قبل أن يشعر، ينبغي له أن يختبر الحياة ومظاهرها قبل أن يصاهرها، وأن يشقى ويسعد قبل أن يزف إلى العالم بنات شعره، ينبغي له أن يذوق حلاوة الكأس ومرارتها قبل أن يطلق خياله من قفص النفس. وإن الفرق بين شعر ينظم في رابعة النهار مثلا والدم فاتر بليد وشعر يصبه الشاعر نصف الليل من جنان ذائب ملتهب لكالفرق بين بركة ماء عكراء وسلسبيل جار في مروج خضراء.
أجل إن الفرق بين الشاعر الذي يخلو في غرفته ويقول: لنحب كقيس أو كجميل لننظم القصائد الغزلية، لنتحمس كعنترة أو كالمتنبي لننظم القصائد الفخرية
الفرق بين هذا الناظم والشاعر الذي يخوض عباب الحياة فيحب حبا حقيقيا وينصر الحق فعلا فيناضل عنه بيراعه وبلسانه وبعمله هو كالفرق بين الأزهار التي نربيها في بيوت الزجاج وتلك التي تنبت وتنور في الحقول عملا بناموس الله. الأول يتغذى مما هو هو صناعي كاذب قبيح والثاني مما هو طبيعي حقيقي صحيح، شعر الأول تمثال من الشمع أو باقة ورد صناعية، وشعر الثاني هو الحياة الشعرية بعينها.
صفحة غير معروفة