وأما من لا يستطيعون إلا التكلم فكم يخففون عن أنفسهم لو اعتاضوا عن المواعظ المملة والنصائح البليدة بكلمتين فيهما ما معناه: إننا نشعر معكم في مصابكم ونرجو أن يطيل الله بقاءكم، وبعد أن يقولوا ذلك ويروا الميت - إن شاءوا - يذهبون دون أن ينتظروا القهوة المرة التي يقدمها أهل الفقيد. وهل يفعلون ذلك انتقاما يا ترى؟ ولم القهوة المرة؟ فإذا كان صديقي يستحق فنجانا من القهوة ألا يجب أن أقدمه له كما يحبه، لأهل الفقيد الحق أن يميتوا بعض لذاتهم إكراما له ولكن إكراههم المعزين على ذلك أيضا هو ضرب من التقاليد التي لا تليق في هذه الأيام. إلا إذا فهمنا أن المعزي الثقيل الذي يملأ القاعة مواعظ ونصائح فارغة يستحق العقاب على ذلك، وفنجان من القهوة المرة هو عقاب خفيف. فما أجمل الرفق والرحمة!
وبعد أن ينتهي المعزي من التفلسف وشرب القهوة يقوم فيودع أهل الفقيد قائلا: إن شاء الله تكون خاتمة أحزانكم. فهل تأمل أحد بمعنى هذه العبارة ونتيجتها الواضحة؟ لكل منا أقارب وأصدقاء ومحبون يشق عليه فراقهم ويحزنه موتهم، ولكل منا شخص أو شخصان نود لو سبقناهم إلى الآخرة؛ كي لا نحزن على فراقهما، ولكن حين يدعو لي المعزي قائلا: «إن شاء الله تكون خاتمة أحزانكم» أيريد أن أموت قبل أقاربي وأنسبائي وخلاني كي لا أحزن عليهم عند موتهم، أو هل يطلب لنا كلنا الحياة الدائمة على الأرض، ويريد أن نبقى أبدا على هذا الشاطئ البارد دون أن نعبر بحر الموت إلى الشاطئ الآخر، شاطئ الأبدية والسعادة الأزلية المنتظرة، إن العاطفة شريفة والدعاء جميل ولكن الغلو خاص بالشعراء.
وهذه كلها آفات صغيرة بالنسبة إلى آفة أخرى، وكلنا نعرف شدة ولوع الخطباء والشعراء عندنا بالتأبين والرثاء، فكل من مات يستحق عندهم دمعة وقصيدة، ولا فرق فيما إذا كانت حياة المتوفى هبة ريح في صحراء الخمول أو كنز جواهر في سفح جبل العلم والإحسان.
كلما مات سوري تجتمع الناس في بيت أهله لتندبه وتبكيه - كما ذكرت - وليس هذا بشيء عند اجتماع الأدباء الذين يدعون في الجرائد خطباء وشعراء حول ضريحه؛ ليؤبنوه ويرثوه ويشقوا عليه الجيوب والقلوب.
ما أحسن هؤلاء الأدباء وما أشرفهم ساعة الموت، ما أعظم محبة خطيبهم وغيرته، وما أشفق قلبه وأفصح لسانه، وما أسخى دموعه وأشد زفراته، ولكن ما وراء كل ذلك يا ترى، أوراءه نفس حقيقية تشعر بما تبذله العين وينطق به اللسان، أوراءه نفس صادقة تتفتت بالفعل كما يتفتت صاحبها أمام الناس، أو هل وراء ذلك آلة صماء تديرها قوة التقاليد على عجلات العادات المزيتة بزيت التجمل والإطراء.
لا أنكر أن بين الكثيرين من أولئك الذين يحبون الظهور ويطلبون الشهرة بعض الشعراء الحقيقيين والخطباء الصادقين، ولكن العاقل الناقد لا ينكر أيضا أن أكثر المؤبنين هم من طبقة أولئك النوادب اللواتي يستأجرن عند الشعوب الهمجية ليندبن الميت ويولولن حوله، إلا أن الفرق بينهم وبينهن هو أن النوادب يندبن بالأجرة والخطباء يلغطون ويصيحون بالمجان.
ومن المضحكات أنهم لا يتغيرون ولا ينقصون ولا يزيدون في كل مدينة، فهم دائما فخر كل مأتم وزينة كل مأدبة، وكأنهم - والحالة هذه - جوق خطباء وشعراء واقف تحت الطلب مثل جوق المغنين أو الممثلين، فهم يبكون اليوم في مأتم الأديب الحبيب وينشدون غدا في مأدبة الحسيب النسيب، يرثون اليوم صديقا فارق العالم ويهنئون غدا شخصا متمسكا به وبحطامه. يقولون في الصباح مثلا: قد أذابنا الحزن عليك يا خير الرجال، ويقولون في المساء، قد أسكرنا السرور في دارك يا أمير الناس ويا محيي الآمال. فإذا كانوا مخلصين منذ ساعات فهم كاذبون الآن، وإذا كانوا صادقين ساعة السرور فقد كانوا ساعة الحزن مرائين.
أنا لا ألوم الكاهن الذي تضطره وظيفته أن يحزن في الصباح مع آل الفقيد ويفرح في المساء مع آل العروس؛ لأنه لا يشعر حقيقة بكلا الأمرين فهو عبد وظيفته التي تأمره بالتظاهر فيتظاهر، وبالتصنع فيتصنع. وأما أدباؤنا الذين يدعون في الجرائد خطباء وشعراء فما بالهم يزاحمون الكهنة ويسابقونهم، ماذا فعلت الأمة السورية لتستحق هذه الضربة؟ وهل يجوز أن نشين قداسة الحزن بالثرثرة وندنسها بالرياء.
فوا أسفاه! لو كان عندنا رجال بقدر ما عندنا من مثل هؤلاء الأدباء لكنا والحق يقال من خير الشعوب وأرقاها.
الرداء الأسود
صفحة غير معروفة