ومتى كان في مثل دعوى هذا القسيس فيضحك أيضا، وحقا إني دهشت لما دخلت المحكمة في أول يوم المرافعة ووجدتها غاصة بالنساء والقسس ثم تحيرت إذ رأيت القسس كلهم واجمين وأكثر النساء ضواحك فكأنهن يسخرن من أختهن المنهوك عرضها، ويا للعجب كيف كن يزلقنها بأبصارهن ساعة تدخل المحكمة متكئة على ذراع زوجها، وأما القسيس فما من قسيس إلا كان معه وحتى بعض النساء شهدت له بطهارة الذيل وعفة القلب، وكذلك انتشل الباغي من حمأة الخزي والعار والنساء يتساءلن ويتهاتفن قائلات: ولم أخبرت زوجها لم لم تسكت وتستر إهانتها.
فخرجت المسكينة من المحكمة مدحورة مذمومة وخرج القسيس والغيد يرمقنه بأعين عطوفة وإخوانه يقبلون عليه بأوجههم مهنئين، فقلت إذ ذاك في نفسي: لا عدو للمرأة إلا المرأة ولا صديق حميما للقسيس إن كان في أميركا أو في بلادنا إلا هذه المخلوقة اللطيفة المباركة، وفي المسألة سر بل أسرار أسدل عليها أولو أمر الستر محافظة على هؤلاء الأبرار. وأما الآن فإنك لترى مقاليد هذا السر في يد الفطن والغبي من الناس، وفي جيب الصغير والكبير من العوام. اصرف اللهم الخزي والعار عن هؤلاء العباد من العباد.
ما من مشاحة في أن الأديان هزت الشعوب فلطفت نوعا أنفسهم الهمجية الخشنة، وأن حب الخير هز الملايين من الناس فجاءوا بالصالحات والمبرات، وأن الشجاعة هزت الألوف وألبستهم المجد في الصفوف، وأن الفلسفة وحب الحق والعدل أثرا نوعا في بعض المئات من البشر. وأما عاطفة الغيرة الخبيثة فإنها لتهز كل امرئ وتستفزه وتحمله على ارتكاب ما يعد بغيا وعدوانا في غير هذا السبيل.
ومذ نشوء الحياة البشرية - أو بالحري من يوم ظهر الإنسان في صورة قرد كما قيل - رأى في شجرته قردا آخر فهزته عاطفة الغيرة واستفزته وكانت النتيجة موتا زؤاما على الدخيل الباغي. وإن أسفل العواطف البشرية وأفظعها لتهيج الواحد منا الآن كما هاجت ذاك القرد وحملته على قتل أخيه، فهي لم تزل مالكة عقولنا مستولية على أعمالنا عابثة بعلومنا ومعارفنا ساخرة من فهمنا ومداركنا. لا ننكر أننا تقدمنا ماديا تقدما سريعا فالعالم اليوم أعظم من ذي قبل من حيث الجربزة التي تدعى تجارة والتفنن في القتل الذي يدعى حربا والعبودية التي تدعى صناعة. وأما أدبيا وروحيا فلم نزل أطفالا نتهته في المهد، ونحسب لعابنا المتحلب زبد صرعة الوحي وصراخنا دوي نبوة.
التعزية في المصيبة والمصيبة في التعزية
إن مصيبتي ناتجة عن الطبيعة التي أنا منها وفيها ولها، إنها لنتيجة عوامل خفية تظهر في زرع الحقل كما تظهر في نفسي وتؤثر في العشب الملتصق في المحار كما تؤثر في أعصاب الحيوان والإنسان. إذا لا يحق أن تدعى مصيبتي مصيبة، بل هي بيت من القصيدة الإلهية الجامعة اللانهائية لها، هي بيت واحد من القصيدة التي ينظمها الخالق فتتلاطم في بحارها أمواج الرزايا، ويتبسم في سمائها برق السرور، وتتدفق من قوافيها سواقي الحب الفضية، وتتأجج تحت ألفاظها نيران الهيام والحسرة واليأس. هي قصيدة الحياة التي ينظمها شاعر السماوات والأرض ويجعل ألفاظها الأودية والسهول والجبال والبحار، ونقطها كواكب السماء وبدورها، وحركاتها الرياح والعواصف، ومقاطعها حوادث الأمم والأفراد، ومحورها الحياة والموت وما يتخللها من السكوت والابتسام والبكاء.
نعم مصيبتي هي بيت واحد من هذه القصيدة، نظم من أجلي خاصة فأقرؤه بعد ساعات السرور مرارا وأردده في ساعات الغم تكررا، ثم أعود إلى ما في القصيدة الشاملة من الأبيات التي نظمت لغيري. أبيات يغازل جمالها عرائس السرور، وتدرج في لهيب بيانها أرواح المحبين، وتستذرف من عيون القدر دموع القداسة، وكل حادث يجري في العالم هو بيت من هذه القصيدة والسعيد الذي يقرأ معظمها؛ إذ لا يستطيع أحد من البشر أن يقرأها كلها.
أنا على اتفاق تام مع الطبيعة والخالق، احترم ناظم السماوات وأعجب بقصيدته الإلهية فأقرأ البيت الذي نظم من أجل الغير كما أقرأ البيت الذي نظم من أجلي، واللذة التي أجدها في الواحد توازي الكآبة التي يلبسني إياها الآخر فما هي مصيبتي إذا؟ هي في أصدقائي الأعزاء، بليتي في التعزية التي يقدمها هؤلاء من غير ترو وتبصر، في التعزية التي تفسد حزني المقدس فتحوله إلى غيظ وحنق وشراسة، نعم أنا أحب الحزن كما أحب السرور وسعادة الإنسان مؤلفة من الاثنين.
وكل طريق جزتها كنت راشدا
وأي بلاء تبلني كنت أحمد
صفحة غير معروفة