376

الريحانيات

تصانيف

قلت يا بني إن ذلك السلم الذي عقدت عهوده الدول الغالبة إنما كان سلما تقليديا، أي: أنه كان مبنيا على مصالح الدول الأوروبية الكبرى في بلادها، وخارج بلادها، وعلى مطامعها المالية والاستعمارية والتجارية. فقد قيدوا ألمانيا بغرامة تكاد توازي ثروتها كلها، وتقاسموا مستعمراتها، وقطعوا الطريق على تجارتها، زد على ذلك أن إنكلترا احتلت فلسطين والعراق، واحتلت فرنسا سوريا، واحتلت إيطاليا قسما من البلاد الإفريقية العربية، ثم استولت على مراس بحرية في الأدرياتيك ادعاها الجوغوسلاف والسربيون، كذلك سادت البورجوازي سيادة مطلقة، فتبنك الوجهاء والأكابر ثلاثين سنة وهم متقلدون زمام الأحكام، قابضون على ناصية الزمان.

أجل، يا بني، إن معاهدة فرساي قسمت العالم المتمدن قسمين كبيرين أساسيين ، قسم الحكام وأنصارهم من ذوي المصالح المالية والتجارية، وقسم العمال الذين كانوا يحتجون من حين إلى حين بالإضراب عن العمل وبنهضات ثوروية محلية لم تأت بكبير فائدة.

استمرت هذه الحال ثلاثين سنة عاد فيها العالم المتمدن إلى تقاليده السياسية القديمة، ساد فيها حزب المحافظين بل الرجعيين في كل الجمهوريات وأمعنت الأمم بالمنافسات التجارية والتكالب المالي، ومن أشد هذه المنافسات وأخبثها ما نشأ منها بين إنكلترا وأميركا؛ ففي سنة 1925 كانت بحرية الولايات المتحدة البحرية الثانية في العالم، وظلت تزداد عددا وقوة حتى كادت تفوق البحرية الإنكليزية، وقد جرى بين هاتين الأمتين ما جرى بين إنكلترا وألمانيا قبل حرب الأمم من المباراة في بناء الأساطيل والطيارات.

زد على ذلك أن الولايات المتحدة التي لم يكن لها بواخر شحن تذكر قبل الحرب؛ أصبحت بعدها في الصف الأول من قوات البحار والتجارة، ولكنها لم تستطع بادئ ذي بدء أن تجاري إنكلترا في أجور الشحن؛ لأن النوتيين الأميركيين يتناولون أضعاف أجور النوتيين الإنكليز، فاضطرت لذلك الشركات الأميركية أن تستأجر نوتيين من الأجانب وفيهم من أتباع المملكة البريطانية، فامتعض لذلك أرباب الشركات الإنكليزية وسعوا لدى حكومتهم فاحتجت مرارا من أجلهم، ولكن حكومة واشنطون وهي تميل بسمعها إلى الشركات الأميركية لم تسمع احتجاج الحكومة الإنكليزية، التجارة يا بني التجارة! إنما هي أم الحروب، والزعماء والوزراء والسياسيون والصحافيون آلات كلهم بيدها.

قلت إن أميركا كادت تفوق إنكلترا ببحارتها وبتجارتها، بل فاقتها واجتازت حدودها كل البحار، فصرنا نرى البواخر الأميركية تحمل البضاعة الأميركية والإنكليزية والإفرنسية إلى الصين واليابان والهند وأستراليا والشرق الأقصى، فضلا عن جمهوريات أميركا الجنوبية التي حلت أميركا فيها محل ألمانيا التجاري قبل حرب الأمم، ولا بد في مثل هذه المناظرة التجارة الشديدة، وهذا التحاسد والتضاغن من شر يستثمره السياسيون ويساعد في تعميمه الصحافيون ، والزعماء الطامعون بالثروة والسيادة. لا بد في مناظرة تجارية وسياسية بين أمتين من يوم تتفجر فيه براكين الطمع والحسد والضغينة، وكذلك كان.

فقد أضرب عن العمل في أحد المراسي الشرقية النوتيون الإنكليز فشاركهم بالإضراب بعض النوتيين المشتغلين في بواخر أميركية كانت راسية هناك، فاستخدمت الشركة الإنكليزية نوتيين من الأهالي، فهددهم المضربون بالقتل إذا اشتغلوا، فحدث بين الفريقين مناوشات اضطرت الحكومة المحلية، وهي إنكليزية، أن تخمد نارها بالقوة العسكرية، فأطلق العساكر الرصاص على المضربين وبينهم من رفعوا العلم الأميركي، وكان ممن قتلوا بعض النوتيين الأميركيين.

نقل البرق خبر هذه الحادثة فنشرته صحف الأخبار بالقلم العريض: «قد أهين العلم الأميركي، قد قتل عدد من المواطنين الأميركيين.» فثار ثائر الناس، وفي مقدمتهم السياسيون والصحافيون، على إنكلترا، ولكن صحف لندن روت الحادثة على غير ما روتها صحف نيويورك، وقالت: إن الحق على المضربين، وإن جنود بريطانيا العظمى عملوا الواجب عليهم.

ولما شرعت الصحافة الأميركية تنادي وتصيح: «الحرب الحرب!» نهض العمال والنساء يحتجون عليها وعلى الحكومة، ولكن احتجاجهم لم ينجح. طلب الرئيس من الحكومة البريطانية عذرا أو تعويضا فأبت ورفضت بتاتا، تدخلت فرنسا وألمانيا واليابان في الأمر، ولكن النعرة السياسية والمصالح التجارية تغلبت على كل احتجاج وكل اعتراض، أشهرت أميركا الحرب على إنكلترا وشرعت توا تجهز الجيوش، وكذلك فعلت إنكلترا، ولكن الأيام حبالى بالمعجزات يا بني، ونهضات الأمم تنمو سرا نموا بطيئا، فتظهر فجأة لتطهر المجتمع من أمراضه وأدرانه.

أجل، يوم صدق الرئيس على شريعة التجنيد الإجباري ظهرت في الأمتين الأميركية والبريطانية قوات العمال دفعة واحدة وقد توحدت كلها كلمة، وقصدا، وعملا.

كلمتنا السلام، وقصدنا السلام، وعملنا السلام، وحجتنا السلام.

صفحة غير معروفة