ولكن لو انتخب تولستوي ليجلس مع المتشرعين ونهض ليقترح على المجلس سن شريعة فيها صيانة حقوق الجمهور لا حقوق الأفراد فقط، لو نهض ليقرأ على زملائه فصلا من إحدى رواياته أو مقالة من مقالاته العديدة في المواضيع السياسية والعمرانية، وسألهم العمل بما جاء فيها؛ فماذا تراهم يفعلون، ألا تظنهم يضحكون في وجهه ويعاملونه كما عومل غونبلاين بطل رواية فكتور هوغو المعروفة بالرجل الضاحك لما وقف في مجلس الأعيان في بلاد الإنكليز ليدافع عن الفقراء والبؤساء ويطلب من زملائه النظر في حالتهم المحزنة؟ نعم هذا يكون جزاء من يطلب من مجالس الأمم مراعاة حقوق الملايين من أحلاف الفقر والظلمة والشقاء.
يقرأ المتشرع روايات تولستوي بجانب موقده فيلتذ بها ويعجب بكاتبها، ولكنه يسخر بمبادئها في مجلس الأمة، ويندد بتعاليمها في البلاط الملكي، ولماذا؟ لأنه لا ينتخب ثانية لمنصبه إذا تظاهر بمثل هذه المبادئ، لا ينتخب ثانية إذا قال: يجب علينا أن نسن شرائع للغني وللفقير بدون تمييز وتفضيل. وكم من المصلحين يتشدقون وهم عن مجلس الأمة بعيدون، وكم من الكتاب يتغنون بندبهم حظ الفقراء والبؤساء. ولكن لينتخبوا أولئك إلى مجلس التشريع فينبذون مبادئهم ظهريا قبل أن يدخلوا الباب، ويجلسون هنالك مع بقية الأعضاء ويقترعون مع الأكثرية وهم ساكتون.
إن خيرات الأرض تكفي سكانها إذا وزعت توزيعا عادلا على الجميع، القمح الذي يزرع في الولايات المتحدة سنويا يقوم بقوت سكان الأرض كافة، وهذه حقيقة راهنة، فقد قرأت مقالة في كيفية تربية الماشية في إحدى المجلات الأميركية، جاء فيها: أن الولايات المتحدة تذبح سنويا ثلاثين مليون رأس من البقر، فإذا قسمنا هذا المقدار على سكان الولايات المتحدة فقط تكون حصة كل شخصين رأسا واحدا من البقر فيه أكثر من أربعمائة رطل إنكليزي من اللحم. فهل يحتاج الواحد منا أكثر من رطل لحم كل يوم؟! وقال كاتب المقالة: إن هذه البلاد المترامية الأطراف فيها بقاع من الأرض غامرة غير آهلة تصلح للمرعى فلو عنيت بها الحكومة لتمكنت من تربية أضعاف ما يربى فيها الآن من الماشية.
ولكن مع وجود هذا القدر الوافر من القمح ومن اللحم لا يزال المتسولون والبائسون يطوفون أسواق المدن الكبرى، وكثيرا ما يموتون جوعا، ولا يزال الملايين من الفقراء عاجزين عن ابتياع اللحم كل يوم. فأين الزائد من اللحم ومن القمح إذا؟ هي مسألة بسيطة، أن شركات الاحتكار تشحن الزائد إلى الخارج لتضاعف أرباحها، هناك القمح مجموع بالقناطير، هناك جبال من الدقيق تطلب من يأخذها ويوزعها خبزا على العالم، وهنا ألوف وملايين من المساكين يشترون رغيف الخبز بدمهم ودم بنيهم الصغار. قمحا ينتظر الطاحن، وطحينا يلتمس الخباز، والألوف من البشر يطلبون خبزا والمحتكرون يقولون لا، ولماذا؟ لأن الأسعار هابطة ولا ربح في البيع للأفراد المحتكرين.
وأما النتيجة، نتيجة هذا الاحتكار على الفقراء، فلا حاجة إلى وصفها، ولا نريد أن نهول بقبحها أمام القارئ ونخيفه، ولكن الحالة هذه لا تدوم. إن البورص هو السد المنيع بين مخازن الاحتكار وبين الشعب، بين البائع والشاري، ولكن متى جاء الفيضان فلا يجدي ذاك السد نفعا، نقيم السدود متى كان الماء وشلا أو غزيرا، نبنيها لنزيد كمية الماء أو لنمنع فيضانها على الأرض المجاورة، ولكن متى جاء الطوفان وفاضت الأنهار ماذا تجدي السدود الصناعية؟
أتقف اختراعات الإنسان في وجه الطبيعة وقواتها؟ أيقدر السمسار في البورص أو محتكر القمح مثلا أن يسكن الهياج متى هبت الأعاصير؟ إذا كانت خيرات العالم غزيرة، ألا يجب أن تسود القناعة والسعادة في جميع البشر؟ ألا يجب أن يكون الكل على مبلغ الكفاية؟ أي: متى يستريح الأفراد من التخمة ويأمن الجمهور من الجوع؟ كم يموت من الممتولين بالانتفاخ وكم يموت من المساكين بالانقباض؟ ومتى - يا رب - تتساوى الأعضاء وتتوازن فتظهر على الهيئة الاجتماعية علائم الجمال ودلائل الكمال؟ لا أظن ذاك اليوم يراني ويراك أيها القارئ، ولكنني أؤكد أنه آت وكل آت قريب.
الضجيج والضوضى
قالت أشجار الغابة لأشجار البستان: لماذا لا نسمع لأغصانك حفيفا؟ فأجابت: لأنني أستغني عن ذلك بنمو ثماري التي تشهد لي. ثم سألت أشجار الغابة قائلة: ولماذا نسمع لأغصانك هذا الصوت القوي؟ فأجابت أشجار الغابة: لكي يشعر الناس بوجودي.
التلمود
كتبت إحدى الجرائد الأميركية فصلا في مزمار الكنيسة وقيثارها، وقالت: إن العبادة قائمة بالجلال والجمال والاحتيال، والحق بجانب كاتبها؛ إذ إن حياته وحياة جريدته وحياة أكثر الناس إنما تقوم بالتشدق والتبجح، بالضجيج والضوضى، بالزخرف والاحتيال، بالتصنع والتمويه، قال أبو العلاء المعري:
صفحة غير معروفة