وإذا كانت أمة في حرب فحاصرها العدو وحبس عنها الزاد فأبت التسليم صاغرة، قد تهلك جوعا، ولا ذنب في ذلك على العدو أو عليها. أما إذا وطأ الجيش المحاصر أرضها، وأبت البقية الباقية الرضوخ والاستكانة، ملجة في العصيان، فقد يتخذ الفاتح التجويع طريقه للاستيلاء التام، وقد يكون الذنب في ذلك عليها.
ولكن أمة طائعة أولياء أمرها، أمة مخلدة إلى السكينة، أمة بريئة طاهرة الذيل، تربأ على الضيم صبورة، سكوتة، جلودة، لا تزال تربتها في الأقل جيدة، وأنهارها جارية، وسماؤها مقيمة على عهودها، ترسل غيثها رحمة وخيرا؛ في مثل هذه الأمة لا تحدث مجاعة إلا لأحد أمرين، لجهل فيها أو لجور في أولياء أمرها.
والمجاعة التي لا يد فيها للطبيعة أو للقضاء أو لله إنما هي جناية الإنسان الكبرى على أخيه الإنسان.
إن خيرات الأرض لتكفي أبناء الأرض. وإن التكافل والتعاون لمن أوليات الوجود الإنساني، الوحشي منه والمدني. فإذا أغفلنا الآن البحث في أسباب المجاعة ونظرنا في نتائجها فقط تحتم علينا النظر أيضا في الطرائق الفعالة لإزالتها، ولإزالتها سريعا.
أمة صغيرة في بقعة قصية من الأرض تتضور اليوم جوعا، وأمة كبيرة، عزيزة الشأن، عظيمة الصولة، يفيض عنها من خيراتها، أليس من العدل إذا، بل من الواجب المقدس، أن نأخذ مما فاض عن هذه لنطعم تلك الجائعة؟ نعم، وما يصح في الأمم يصح في الأفراد. هذا التعديل في خيرات الأرض عدل لا فضل فيه لمن أعطى ولا شكر عليه ممن قبل العطاء.
الأمة المنكوبة أمتنا أيها الناس. الجياع فيها إخواننا. وإن الفائض عنا اليوم لا حق لنا فيه. لا والله، ليس ما فاض من خيرنا اليوم لنا بل هو للجياع في بلادنا. ولو كنت من أولي السيادة والسلطان لأخذت اليوم من الشبعان لأطعم الجائع. لفرضت على كل سوري مقدارا من المال يدفعه - راضيا أو مكرها.
وماذا يضر السوري لو دفع اليوم دولارا واحدا لإغاثة إخوانه في الوطن؟ دولارا واحدا على كل سوري الفقير والغني سواء.
إني من أصحاب الرأي لا أصحاب السيادة. لذلك لا أستطيع أن أضرب ضريبة هي حق - والله - على كل سوري. ولكني عملت بطريقتي وبحقي فدعوت إخواني في المهجر في مقال سبق إلى الصوم يوما واحدا يدفعون ما يوفرون فيه إعانة للمنكوبين. وقلت إننا إذا خبرنا الجوع نرثي لحال الجائع فنسرع لإغاثته.
وكي لا يقال إني أبشر بما لا أفعل؛ بدأت بنفسي عاملا برأيي. فإني محاسب لقلبي إذا مال وللساني إذا قال. لذلك صمت عن الأكل والشرب والتدخين يومين وصالا، ودفعت نفقة يومين إلى اللجنة، وجئت في هذا المقال أطلع القارئ على ما خبرته من نتائج الصوم ومفعول الجوع، وإذا كانت كلمتي في الصوم ذهبت أدراج الرياح فعسى أن يؤثر عملي فيحمل إخواني في المهجر على الاقتداء بي.
من الساعة السابعة مساء حين بدأت أصوم حتى الساعة الثالثة بعد الظهر في اليوم الثاني لم أشعر قط بالجوع. ولكني أحسست بطنين في أذني، وبتجفف في لساني، وبشيء من المرة في فمي. على أني في الساعة السابعة، أي: بعد مرور أربع وعشرين ساعة، بدأت أشعر بالجوع وبالعطش وبشيء من الدوار.
صفحة غير معروفة