إن دان يوما لشخص
ففي غد يتغلب
التمدن الحديث
إن مدينتنا الحاضرة ثابتة الدعائم راسخة الأقدام، وليس في العالم الآن من قبائل البرابرة ما هو كاف ليغزو بلادنا ويهدم - في شهر واحد - ما شيدناه في قرون، وإذا كان هنالك بعض القبائل فقواتهم المتحدة لا تضاهي نصف قوة أصغر مملكة أوربية. من أين تجيء إذا قبائل الهون والفندال ليدمروا ما شيده التمدن الحديث من معاقل الحضارة؟
قال هذا القول المؤرخ الإنكليزي جبن وأقر عليه الكاتب سميث، ولكن ما هي يا ترى فضائل تمدننا الحديث التي يرجى ثباتها وتعزيزها، هل هي في الحكومات الملكية أو الجمهورية التي لم تزل تسن شرائعها مميزة بين القوي والضعيف، بين الغني والفقير. هل هي في المحاكم التي يفسد فيها المال ضمير القضاة، هل هي في الشركات الاحتكارية التي لا تضاعف خيرات الأرض إلا لتخزنها وتضاعف أثمانها.
هل هي في القوانين السياسية الجديدة التي لا تعزز إلا بقوة السلاح، هل هي في الجند الاحتياطي الذي يعيش من مال الأمة فيضاعف الضرائب ويرهق الشعب، هل هي في الجهل الذي لم يزل يحارب الحرية بترس الخرافة بعد أن كسر سيف الاضطهاد، هل هي في أوضاعنا العصرية التي تؤثر العرض على الجوهر وترفع الاحتيال على الصدق، وتقدم الجربذة على الذكاء الحقيقي والسياسة على العلم والجمال على الحقيقة والمال على العدل. هل هي في أدوات الحرب التي تتكاثر وتتنوع كلما حدثت حرب جديدة في العالم، هل هي في الحروب التي تشهرها الدول الأوروبية المسيحية على شعوب آمنة ضعيفة إكراما لشركة تجارية أو لحزب سياسي أو لوزير يفادي من أجل شهرته بصوالح الأمة ومجدها.
هل هي في الآداب العامة التي لم تزل اليوم على نحو ما كانت على عهد قياصرة الرومان، هل هي في الكليات التي تخضع أساتذة الفلسفة فيها لإرادة المتمولين الذين يديرون سياستها فلا يدرسون فيها من العلوم الاجتماعية الجديدة ما كان مضرا بأغراض ذوي الثروة والسيادة، هل هي في الصحافة التي تزين الشر والرذيلة في عيون القراء بنشرها الفصول الطويلة والصور الغريبة ممثلة فيها من يرتكبون أفظع الذنوب ويقترفون أكبر الآثام. ما هي فضائل هذا التمدن المؤسس على الطمع وحب المال والاستئثار، التمدن الذي تسن أرباب المال شرائعه فتنفذها سماسرة البورص، ويبشر بها أصحاب المعامل وينشرها وزراء الحربية بالمدافع والمدرعات.
ما هو أساس تمدن أهل الغرب إذا لم يكن التجارة والاستئثار، إن روح التجارة الخبيث منبثة في دوائرهم الاجتماعية والمدنية والدينية والأدبية، فمن أجل التجارة ينفخون روح حضارتهم في الشرق، ومن أجل التجارة يشيدون المدارس، ومن أجل التجارة يشهرون الحروب على الشعوب الضعيفة، ثم يظهرون أمامها بمظهر الصداقة والمحبة والإحسان. ومن أجل التجارة يبشرون بالإنجيل ويتحابون، ومن أجل التجارة يطبعون الكتب والمجلات، فالتمدن عندهم هو التمول والسلام.
بشر فلاسفة الجيل الثامن عشر بالإخاء والحرية والمساواة، ونهض تلاميذهم السياسيون فطالبوا بهذه الحقوق وسل الشعب سيفه على الملوك في أكثر ممالك أوربا تنفيذا لمطالبه فحدث ما حدث من الثورات والفتن في آخر الجيل الثامن عشر ونصف الجيل الأخير. وماذا كانت النتيجة، هل تتوجت الحرية، هل شملت المساواة الناس، هل توارت اختلافات الأمم وتلاشت الضغائن وحزازات الصدور؟ ألق حولك رائد الطرف أيها القارئ حيثما يممت وأجبني بالإيجاب إن استطعت، أعلنت الأمة الأميركية استقلالها سنة 1776 وها قد مر عليها الآن مائة وثلاثون سنة وهي لم تزل بعيدة عن الاستقلال بعدها عن المملكة التي حاربتها وخلعت نيرها أيام الاستعمار، نعم قد استقلت عن ملك متوج ولكنها وقعت في قبضة ملوك لا تلبس التيجان.
تأمل هؤلاء العملة الفقراء الذين يطلبون من أصحاب المعامل زيادة أجورهم كي يستطيعوا القيام بمعاشهم ومعاش عيالهم، فإن كل ذي عقل يفكر وقلب يشعر يرى صحة دعوى العملة واعتدال مطالبهم. فالشعب والصحافة والسياسيون وأرباب الدين يشعرون شعورهم ويتمنون لهم الفوز ولكن هل يصغي أصحاب الشركات لصوت الشعب؟ قد تألفت الجمعيات وأنشئت اللجان وعقدت المؤتمرات لحسم الخلاف بين العمال وأرباب المال فكانت النتيجة سدى، وذهب العناء أدراج الرياح.
صفحة غير معروفة