وفي مثل هذا اليوم طابت جهنم
بيت حقير صغير، بارد قاتم، لا نور فيه غير نور شمعة ضئيل وما يدخله من نور الكهرباء في الشارع، وكانون فارغ يصفر فيه الهواء الآتي في المدخنة من السطح، وامرأة فقيرة تنتظر رجوع زوجها من المعمل، وطفل مريض يئن من الألم ويرتعش من البرد.
ونحن الآن في أقسى شتاء رآه الزمان.
أسواق المدينة مغطاة بالثلج والأرصفة مغشاة بصفحات رقيقة من الجليد ومياه الأنهر جامدة مجلدة وأنابيب الماء والغاز متفجرة، والنور منقطع عن البيوت والمساكن والمعدنون مضربون عن العمل، وأصحاب المعادن لا يبيعون من الفحم إلا القليل، وشركات الاحتكار ترفع الأسعار أضعافا وتقفل مخازنها في وجه الأمة.
وهذا أشد البلاء على الإنسان.
امرأة فقيرة ترتعش من البرد بالقرب من سرير طفلها المريض وقد بعثت بابنها إلى المخزن بآخر فلس معها لتبتاع رطلا من الفحم حبا بهذا الطفل الذي يموت دنقا فعاد الولد سريعا ورمى السطل الفارغ إلى الأرض لاعنا شركات الفحم الاحتكارية ونافخا في يديه المرتجفتين ليدفئهما «لا فحم للبيع يا أماه لا فحم للبيع البتة» وتقدم نحو الموقد البارد وصفعه برجله قائلا: «نعم ما كنت عليه أمس وبئس ما أنت عليه اليوم كنا في الأمس نحصل على رطل الفحم يا أماه ولو بنصف مياومتي، وأما اليوم فعلى الفحم السلام، وأصحاب المخازن لا يكلفون أنفسهم الكلام على الأقل، فترينهم جالسين على كراسيهم ينعسون أو يدخنون رافعين رجليهم فوق مكاتبهم غير مكترثين للنساء والأولاد والرجال الواقفين تحت الثلج وفي القر والزمهرير والسطول الفارغة بأيديهم، وعوضا من أن يكلموهم بالإحسان يعلقون رقعة على الباب مطبوع عليها بأحرف كبيرة: (لا فحم اليوم للبيع) أود - والله - لو وضعت أناملي هذه حول عنق أحدهم.» - لا بأس يا بني فالحالة هذه لا تدوم.
وعند ذلك دخل الرجل بيته عائدا من المعمل، فنفض عن قبعته وثيابه الثلج وجلس على كرسي بالقرب من نور الشمعة وأخرج من جيبه جريدة المساء وتصفحها دون أن يكلم زوجته أو أن يتفقد طفله، تصفحها غائصا في أخبار المعدنين وأصحاب المعادن ثم خاطب زوجته قائلا: «إليك هذا الخبر، قد أصر المعدنون على مطالبهم واتحد أصحاب المعادن المتمولون اتحادا يمكنهم من إمساك الفحم عن الأمة هذا الشتاء برمته، وماهذا - اسمعي - وهو لم يزل يقلب صفحات الجريدة، قد ارتفعت أسعار الفحم ستة أضعاف، ورمى إذ ذاك بالجريدة إلى الأرض قائلا بصوت منخفض بطيء: وقد أقفل المعمل أبوابه إلى أجل غير مسمى لقلة الفحم وارتفاع أسعاره، فيجب علي أن أبكر غدا لأبحث عن عمل جديد فما قولك - لا بأس، لا بأس يا حبيبتي، الصبر جميل، وضمها إلى صدره وتقدم نحو سرير الطفل المريض، وبعد أن تفقده وقبله عاد فجلس حول المائدة مع زوجته وابنه فأكلوا قليلا وهم تارة يفركون أيديهم وطورا يخبطون بأرجلهم على الأرض مرتعشين مرتجفين، والطفل يئن من الألم والبرد، وفي أثناء ذلك كان الثلج يتراكم على أسكفة الشباك والزجاج المغشى بالصقيع يقرقع من شدة الرياح، والعواصف في الخارج تنفخ في الثلج على الأرض فتنثره في الفضاء والهواء ينفخ في المدخنة على السطح فيصفر في القاعة من الكانون الفارغ البارد. فوا أسفاه! عوضا من أن يخرج من المداخن الدخان في مثل هذا الوقت يخرج منها صدى صريخ الأولاد وتأوهات النساء ولعنات الرجال، ويسقط فيها هواء الشتاء البارد فيملأ البيوت ويقتل الأطفال.
قلت ليقتل الأطفال، وليس في القول شيء من الغلو، فاسمع! قد اشتد أنين الطفل في سريره فأسرعت الأم إليه وجست نبضه وعضت على شفتها ونادت زوجها وولدها، ثم دثرته سريعا بالصوف ووضعته في حجرها وطفقت تقبله، ولكن الطفل بارد كالثلج وجامد كحديد سريره، لا الصوف ولا حرارة قبلات أمه تعيد إليه الحياة.
نعم قد مات الطفل من الزمهرير، مات لأن الكانون بارد، مات لأن سطل الفحم فارغ، مات لأن قلوب أصحاب المعادن والتجار خالية من الرحمة والحنان.
ومات مثله كثير من الأطفال في هذا الشتاء أيها القارئ. إن في ضواحي المدينة صفوفا من العجلات المملوءة فحما، صفوفا ممتدة إلى مسافة عشرين وثلاثين ميلا، إن في خارج المدينة ألوفا من قناطير الفحم موقفة محجوزة، ألوفا من القناطير المكدسة المحبوسة عن الشعب، وفي داخل المدينة ألوفا من العيال تكاد تهلك من الصر والقر.
صفحة غير معروفة