ليس لي أن أخرج هذه الليلة لاستقبال السنة الجديدة وبوق الفرح بيدي كما كنت أفعل أيام الصبوة، وهذا - والله - يحزنني، أراني الآن مقيدا في جانب مكتبي بقيود لا أعرف ما هي، ولكنني أشعر بقوتها، أراني واقفا على المنبر الذي ابتعته ببوقي، فليعذرني الواعظ إذا وقفت هذه الليلة موقفه، وأبديت بعض الأفكار بطريقة بسيطة فعالة، لا بأس من أن أقف بين قرائي ولو مرة واحدة لألقي عليهم عظة رأس السنة هذه، وهي عظة قلما يعظها القسس وقلما ينتبه إليها الواعظون على المنابر.
نودع هذه الساعة العام المنقضي ونود لو ودع معه كل منا سيئة واحدة من سيئاته العديدة، أنا لا أطلب منكم المستحيل ولا أسألكم الانقطاع بتة عما قد ألفتموه، ولا أحاول حرمانكم مما هو لذيذ وعزيز عليكم، أنا أيها الإخوة ممن تتوق أنفسهم إلى الكمال البشري، ولكنني أحلم بذلك حلما ويا ما أحيلا الأحلام، لا يهمني بث روح الكمال في العالم إذا كان ذلك يقضي على فرد من البشر بشيء من بذل النفس أو بشيء من السعادة. ليست الكمالات البشرية تعليما سياسيا أو دينيا لنبثها بالقوة والإكراه ولنعززها بالسيف والنار، لا، على الفرد أن يطلب الكمال طلبا، يجب أن تتوق نفسه إليه، يجب أن يهيم هياما بمنيته الجميلة قبل أن يفوز بها، ولا يجب أن يكره على ذلك إكراها، أنا إذا أطلب التحسين اليوم والتعديل ولا أطلب الإقلاع - كل الإقلاع - عما أظنه خبيثا مضرا، أنا أسألكم أن تقصدوا قصدا حسنا وأنتم في باب العام الجديد واقفون، أسألكم أن تستنجدوا بإرادتكم لتتمموا ما تقصدون، أسألكم أن تثبتوا على ما تنوون إتمامه من التحسين والإصلاح فيكم وفي بيتكم وبيوت جيرانكم وأنسبائكم.
في كل منا مغامز وسيئات عديدة، نعرفها كما يعرفها أعداؤنا وأصدقاؤنا، ولو قصد أحدنا أن يزيل عيبا واحدا فيه أو ينزع عادة واحدة قبيحة منه لتحسنت حال الهيئة الاجتماعية بعض التحسين، لقل فيها الفساد، لضعفت دواعي الخصومات، لتلاشى الظلم والاستبداد نوعا، وإني تنبيها للقراء الذين أجلهم وإسعافا لأولئك الذين يتلهون بإشغالهم عن درس شئونهم الروحية والعقلية وإصلاح ما فسد منها واعوج؛ أنشر اللائحة الآتية وهي العظة بالذات وللقارئ أن يزيد عليها إذا شاء ولكن ليس له أن يلغي شيئا من الشريعة أو يخل بحرف من الناموس (أي: شريعتي وناموسي).
إذا كنت مسيحيا أيها القارئ فلا تضطهد اليهود وتحتقرهم، ولا تساعد حكومتك على ذلك، واذكر أن دينك هو ابن دينهم وأن مخلص العالم هو نسيب مخلص العبرانيين، واذكر أيضا أن بين النصارى كثيرا ممن ينامون مثل اليهود على صكوكهم، ويحلمون برباء أموالهم، ويسلبون الأيم فلسها واليتيم ديناره والفلاح بيته وما ملكت يمينه، فلا تحتقر اليهود إذا.
إذا كنت مسلما فلا تكن من ذوي الغيرة والحماسة في أمور دينك، واعلم أن الزمان يقرب الأديان بعضها من بعض ولا يبعدها فكن أنت ابن زمانك، فقد ورد في بعض الآثار: خلقوا أبناءكم بأخلاق غير أخلاقكم؛ فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم.
إذا كنت إسرائيليا فاهدم ولو ذراعا واحدا من الجدار الواقف بينك وبين بقية الشعوب واذكر ما جاء في القرآن
لكل أجل كتاب
ولو هدم مثلك كل عبراني ذراعا واحدا من السور المقدس لسهل امتزاجكم بالشعوب والأمم فتعاملون إذ ذاك بين النصارى كما يعاملون بعضهم بعضا، أي: أنهم يضطهدونكم سرا بعد أن اضطهدوكم جهرا، وهذه من حسنات تمدننا الحديث.
إذا كنت درزيا فاذكر أن الحاكم فعل ما فعل في زمانه من أجل انبساطه وسروره فقط لا من أجل الآلهة الساكنين وراء النجوم، فلا تأخذ المسألة كلها بالجد إذا، وإن دعتك دولة أجنبية إلى القتال في جبلك فحارب مع المظلوم مهما كان دينه، حارب الظالم وإن كان حماك أو أخاك أو أباك أو ذا مال.
إذا كنت كاهنا أو قسيسا فلا تعظ رعيتك في المسائل اللاهوتية التي أشغلت توما الأكويني والقديس أوغسطينوس طول حياتهما وماتا أخيرا حائرين، بل ألق عليهم مثل هذه العظة إذا كنت تحب خيرهم وخير نفسك، ولك أن تسرق ما شئت منها وأنا لا أقول شيئا، فالغاية تبرر الواسطة.
صفحة غير معروفة