إذا واظبت على حب الحق وفعل الخير فلا تخش شر أحد من الناس، وما عليك إذا تجنى الناس عليك وأنت بريء عند الله.
وإن كنت ممن لا يحبون الشدياق ولا يحفلون بقوله - إن كنت تؤثر عليه قول الرسل الأبرار فاسمع كلام يعقوب:
إن كان لكم غيرة حرة وتحزب في قلوبكم فلا تفتخروا وتكذبوا على الحق، ليست هذه الحكمة نازلة من فوق بل هي أرضية نفسانية شيطانية؛ لأنه حيث الغيرة والتحزب هناك التشويش وكل أمر رديء. (يعقوب 3: 15 و16 و17)
بشر يعقوب الرسول بالتساهل وأدرك مثل عالم اليوم ما للتحزب من النتائج الوخيمة والأضرار الجسيمة، فالتساهل واجب فيما لا يعد جريمة، هو روح العصر وكنز من كنوز التمدن القليلة، وكل عاقل واسع الفكر يشمئز هذه الأيام من كثرة الجزم والغيرة. فهو لا يجزم قبل أن يبحث ويقابل ولا يتشيع قبل أن يتفهم كل أوجه الجدل المناقضة لمبدأه، وإذا اعتقد بعد طويل البحث فاعتقاده لا يضمن الاحتقار لاعتقادات الغير، الإطلاق ذميم والجزم دون استدراك جريمة، أنا لا أخشى أن أنتحل مثلا مبادئ أحزاب متناقضة ولا أتردد؛ وذلك لأنني أرى في كل التعاليم والعقائد شيئا من الحقيقة وكثيرا من الخرافات، لماذا نشتري إذا دون انتقاء واختيار؟ أنقبل على أنفسنا أن يغشنا الجوهري بحلية ذات طلاء وبهرج، أمن العدل أن نتاجر ببرميل تفاح، نصفه فاسد ونصفه صحيح، ونوهم الناس أن ما سوى التفاح من الثمار سام قتال؟
أعطني ما هو صحيح من التفاح والإجاص والدراق والرمان وخل لك الفاسد منها، جئني بما هو صحيح من المبادئ فأقبله وأحافظ عليه ولكن لا تعطني مذق لبن نصفه ماء وأنت تقول هذا من نهر الجنة التي تدر لبنا وعسلا فاشربه ولا تشرب سواه، لا تسقني سائلا مصبوغا وتقل لي هو الخمر، لا تجئني بماء عكر وتقل لي هذا مقدس هذا من نهر الأردن فتبارك وبارك أهلك وأصحابك، وإياك أن تشرب من بئر زمزم أو من نهر القنج فتموت ملعونا.
فيا سقاة العالم! إن خمركم ماء مصبوغ، إن ماءكم عكر يلزمه تقطير، إن فيه كثيرا من الحشرات فيلزمه فحص مدقق، وعلى من يفهمون ويميزون أن يصفوه ويطهروه قبل الشرب. العقل هو المصفاة التي تقينا من جراثيم الكذب والغش والتمويه، الاعتقاد لازم للبشر ولكنه يضر إن لم يقرن بالتساهل، فكما أنني أريد الغير أن يحترم اعتقادي يجب علي احترام اعتقادات الغير، وإذا احتقرت عقيدة ما دون سبب واجب تحتقر - لا شك - عقيدتي وتمتهن. التساهل المتبادل إذا هو الدواء الشامل لكل هذه الآفات الاجتماعية والدينية، أي: أن وصفتي لداء التعصب هي هذه السلبية: لا تعارض الإنسان الذي يمزج لبنه بالماء؛ لأنك أنت تتاجر أيضا بنوع من الماء المصبوغ تدعوه خمرا، فغض النظر عنه إن كنت تريد المحافظة على مصلحتك القائمة بالغش وهو يغض النظر عنك، ولكن يا ما أحيلي البعد عن اللبان وذاك الخمار معا، يا ما أحيلي التجارة التي يكون الصدق فيها العنصر الأكيد.
قال الشاعر الألماني غرثي: «إن واجبنا الرئيسي في حياتنا الدنيا هو أن ننظر إلى كل شيء بتعقل وتدقيق دون تحزب أدبي.»
فالتحزب - كما قال يعقوب - وبالأخص التحزب الديني لا يولد إلا التشوش والاضطراب وكل أمر رديء، وأحسن من قول يعقوب الرسول وقول الشاعر الألماني وقول الشدياق وقول هذا الفقير ما قاله الشاعر العربي:
وقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه دان
صفحة غير معروفة