فكم من خوار هلوع إذا قامت في وجهه عقبة واحدة يعرض عن غرضه ويعود إلى خموله خائبا، وكم من رسول لفساد في خلقه وضعف في عزيمته يخدع مرسله ويخونه، وكم من مأمور يركب إلى غايته مطية الغش والتلبيس ويطلي عقد الأمور بالأكاذيب ويدور حول العقبات مثل كديش الناعورة فلا هو يذلل العقبات ولا هي تعززه، الإخلاص في الأعمال والأمانة في الأعمال والجد والثبات في الأعمال هذا ما أنصح به لإخواني أبناء وطني.
فالجد يدني كل أمر شاسع
والجد يفتح كل باب مغلق
وإن من يمد يده إلى السماء راغبا عازما جادا متشوقا لتدنو منه كواكب السماء وأقمارها.
ولكن الطبيعة تنفر من الإلحاح ونواميسها تكره العجلة، وقلما نرى نحن السوريين ما لا يعاكس الطبيعة ونظام الأشياء، إذا شاقنا أمر طلبناه كالأطفال ضاجين ملحين صارخين صاخبين مئات السنين نريد أن يحشرها الله من أجلنا في برهة صغيرة، نريد أن ينير من أجلنا الشمس في الليل والقمر في النهار، نريد أن يصلح شئوننا ونحن إما نائمون وإما صاخبون، ولا الصخب - وايم الله - ولا النوم، لا العويل والفوضى ولا التلبط والقنوط تصلح الشئون.
أكعكة تريد يا بني؟ اصبر تنلها . وأما هذا التلبط منك فلا يفيد، وهذا الصراخ لا ينفعك، بمثل هذا الكلام تخاطب الأم ابنها اللجوج والأمة بنيها، نريد في لبنان تهذيبا وحرية وعمرانا، نريد في لبنان إصلاحا، وايم الله لا نريد في لبنان إلا الوظائف. أقول وحق ما أقول إن بلاء لبنان وفساد حاله لمن مصلحيه، مصيبة الجبل أولئك الذين يصيحون في الأودية حبا باستماع صدى أصواتهم، أولئك الذين يضربون على وتر الإصلاح حبا بالاشتهار أو خدمة لمآرب أحد المفسدين الكبار، أولئك الذين يصطادون بشبكة التمويه والتغرير الدينار.
بلية لبنان أولئك الذين يزحفون على بيت الدين باسم الدستور فينصبون في باب السراي مشنقة الدستور، أولئك الذين يصطبغون بصبغة الأحرار وإذ يتبوءون كراسي السيادة يولون للحرية الأدبار، أولئك الذين يصطبغون بصبغة الماسون يوما ويوما بصبغة المارونية فلا ماسونيين يعرفون ولا بكركيين، مصيبة هذا الجبل العزيز في أمثال أولئك البنائين المحترمين الذين يناهضون الإكليروس يوما ويوما يتزلفون إليه ليسلبوه النفوذ والسيادة، كنا في الماضي نقول: إن بلاءنا من الإكليروس، وأما اليوم فيا ما أحيلي الإكليروس إلى جانب هؤلاء الذوات المصلحين، مسكين الإكليروس اللبناني؟ صرخة واحدة أقعدته وكأني بالبنائين والمصلحين يصرخون اليوم في وجهه قائلين: اشلح تربح، هذه حال الإكليروس اليوم وحال المصلحين.
بليتنا يا أسيادي من هذه الأحزاب، هؤلاء الزعماء والسياسيين العتق منهم والجدد، ما أكثر المصلحين فينا وما أقل الصالحين، ما أكثر الواعظين وما أقل المتعظين، عودوا إلى بيوتكم أيها الناس فالزموها، عودوا إلى أنفسكم فأصلحوها، أفسدتم بإصلاحكم البلاد أهلكتم بسياستكم الناس أقول ولا أخشى لومة لائم إن كل ساسة لبنان الموقرين سواء في الضلال والفساد، وما أشرنا مرة إلى أحد معجبين ممن اشتهروا بغير الضلال والفساد وكان عند رجائنا فيه، قلنا في هذا الرئيس قولا جميلا كذبه بأعماله، مدحنا الزعماء الوطنيين فحبقوا في الطحين ما كدنا نقول في هذا النائب ما شاء الله حتى اضطرنا أن نقول إنا لله، كلهم في الفساد والضلال سواء عودوا إلى بيوتكم أيها الزعماء الأعزاء، إلى حقولكم، إلى أملاككم، فتعهدوها بالتربية، أصلحوها - أصلحكم الله - بارت أرض لبنان من اشتغال أصحابها عنها بالسياسة، غاضت مياه لبنان من إهمال الغابات فيه والأحراج، وسيذهب لبنان ضحية إصلاح المصلحين - ويلهم مصلحين - يهملون أرضهم وعيالهم وأملاكهم ليصلحوا حكومة لبنان، لله درهم ما أشد غيرتهم على لبنان.
أقول - وحق ما أقول: لو سكت الزعماء والمصلحون العتق منهم والجدد وعادوا إلى بيوتهم يحترفون لهم حرفة شريفة لأصلحت عاجلا شئون لبنان السياسية وأما شئونه الاجتماعية والعمرانية فلا يصلحها غير المدارس الراقية والتربية الحقيقية، لا يصلح حالنا أدبيا ودينيا غير المدارس الإعدادية العلمانية الوطنية والتربية الأميركية الحقيقة أما الإصلاح السياسي فلا ينفع كثيرا بل لا ينفع قطعا في مثل أحوالنا اليوم، وهاك ما قاله طومس كرليل في هذا الصدد، أنا قارئ ما عربته من سديد حكمة هذا الفيلسوف العظيم. «قد قيل مرارا وينبغي أن يقال أيضا تكرارا: إن كل إصلاح غير الإصلاح الأدبي لا يجدي نفعا، فالإصلاح السياسي مع شدة الحاجة إليه يحصر فعله في استئصال الأعشاب البرية كالشوكران القبيح السام والنباتات المشوكة التي يكثر نموها وتقل فائدتها، ولكن الأرض وقد أصبحت بعد ذلك بورا تقبل البذور الكريمة كما تقبل ما قد يكون أخبث وأضر مما استئصل منها.
أما الإصلاح الأدبي فهل يتحقق يا ترى رجاؤنا فيه إن لم يزدد يوما فيوما عدد الرجال الصالحين فينا، أولئك الذين ترسلهم العناية الكريمة ليبثوا روح الصلاح في الناس ليزرعوه كما تزرع الشجرة الحية بذروها؟ فالرجل الصالح إنما هو قوة سريعة حية مثمرة، وكذلك في كل زمان ومكان يكون، ونفوذه إذا تدبرناه لا يقاس؛ لأن أعماله لا تموت.
صفحة غير معروفة