مقدمة [المحقق]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
١- ابن قاسم الأماسي (٨٦٤- ٩٤٠ هـ)
اشتهر هذا العلّامة بأنه «ابن الخطيب» تارة و: «ابن الخطيب قاسم» و«الأماسيّ» و«ابن قاسم» تارات أخرى. وكل ذلك مستمدّ من اسم أبيه حينا، أو أحد أجداده حينا آخر.
وهو محيي الدين، محمد بن الخطيب قاسم بن يعقوب بن أحمد الأماسي الحنفي. أما نسبته فهي إلى «أماسية» وهي بلدة في بلاد الروم (الترك) حيث ولد ابن الخطيب سنة ٨٦٤ هـ، الموافقة لسنة ١٤٦٠ م، وفي هذه المدينة كانت نشأته العلمية الأولى، إذ قرأ العلوم على أبيه، وعلى نخبة من العلماء، كالعلامة علي الطوسي، والمولى خضر بك. واستمرّ على ذلك حتى فرغ من قراءة الأصول والفروع سنة ٨٨٠ هـ وهو في السادسة عشرة من عمره، وهذا يدل على نبوغه مبكرا، وعلى دأبه في تحصيل مختلف العلوم المعروفة في عصره.
وهكذا بدأ فضله يظهر، وشهرته تصعد، وراح يمارس التدريس في بلدته «أماسية» مدّة ثم ترقّى في عمله هذا، حتى أصبح مدرسا في إحدى المدارس الثماني المشهورة في القسطنطينية، وهكذا أمضى بقية حياته في هذه المهنة، متنقلا بين مختلف المدارس في بلاد الروم، كما نصبه السلطان بايزيد خان معلما لابنه السلطان أحمد.
1 / 5
وبقي على هذه الحال، يدرّس ويؤلف الكتب، حتى وافته المنيّة في مدينة «أدرنة» سنة ٩٤٠ هـ الموافقة لسنة ١٥٣٤ م. وصلّي عليه وعلى العلامة ابن كمال باشا صلاة الغائب في الجامع الأموي بدمشق، يوم الجمعة ثاني ذي القعدة من السنة المذكورة.
كان الأماسيّ عالما صالحا متقشفا، مقبلا على العلم والعبادة طوال حياته التي امتدت ستا وسبعين سنة هجرية. وكان طليق اللسان، جريء الجنان، قويا على المحاورة مقتدرا على المناظرة فصيحا عند المباحثة، وكل ذلك جعله يتفوق على كثير من علماء عصره.
وعرف عن الأماسيّ أنه كان ذا أنفة وإباء، وقانعا بما هو فيه، لا يتزلف ولا يتقرّب إلى أحد من الوزراء أو السلاطين، ويقول لطلابه: نحن المخدومون وهم الخدّام، ويقول عن السلطان العثماني: يكفيه فخرا أن يذهب إليه عالم مثل ابن الخطيب (يعني نفسه) .
وقد ساعده ذكاؤه وحبّه للعلم والتعليم على أن يتقن كثيرا من علوم عصره.
فكان عارفا بالحديث النبوي، ذا مهارة في القراءات والتفسير، والتواريخ، واطلاع عظيم على العلوم الغريبة: كالأوفاق والتعبير والجفر والموسيقا، مع المشاركة في علوم أخرى كثيرة، وهذا كله جعله قريبا من الناس، الذين يفدون عليه، أو يسعون إلى استماع دروسه في الحلقات العلمية والدينية، إذ كانت له أيضا يد طولى في الوعظ والتذكير. وكان- إلى ذلك- شاعرا ينظم القصائد بالعربية والتركية.
ألّف الأماسيّ كتبا كثيرة ومختلفة، ومعظمها حواش على شروح بعض المؤلفات، ورسائل وتعليقات في موضوعات مختلفة، ولم يطبع منها سوى
1 / 6
كتاب «روض الأخيار» هذا الذي يجده القارىء بين يديه، وأما سائر كتبه الأخرى فمنها ما هو مفقود، ومنها ما هو مخطوط ومحفوظ في مكتبات العالم، ونذكر، فيما يلي، أشهر مؤلفاته وأهمّها:
١- أنباء الاصطفا، في حق آباء المصطفى (ص) .
٢- تحفة العشّاق. منظومة تركية لطيفة.
٣- حاشية على «شرح الفرائض السراجية للسيد الشريف الجرجاني» «١» ٤- حاشية على أوائل «شرح الوقاية» لصدر الشريعة. وقد حالت بعض العوائق دون إتمام هذه الحاشية.
٥- حاشية على رسالة «السبع أشكال على المواقف» وهذه الرسالة لمصلح الدين، مصطفى القسطلاني المتوفى سنة ٩٠١ هـ.
٦- حاشية على المقدّمات الأربع.
٧- رسالة في الرؤية والكلام.
٨- رسالة في «فضل الجهاد» .
٩- رسالة في «القبلة» ومعرفة سمتها.
١٠- رسالة في مختارات العلم.
١١- رسالة في موضوعات العلوم.
١٢- روض الأخيار وهو الذي نخصّه بالتعريف الآتي.
1 / 7
٢- روض الأخيار:
العنوان الكامل لهذا الكتاب هو: «روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار» . وعنوانه هذا يدل على مضمونه ومحتواه. فقد انتخبه الأماسي من كتاب ضخم للزمخشري (٥٣٨ هـ) عنوانه «ربيع الأبرار»، وهذا الكتاب- كما قال الأماسيّ- «بحر زاخر لا تدرك غايته، ولا ترجى نهايته» وهذا ما حفزه إلى الاختيار منه على وجه الاختصار مع الزيادة عليه. ويوضح الأماسي ذلك بقوله:
«استخرجت من نخب فرائده، وكتبت من نكت فوائده ما استحسنته على وجه الاختصار، متجنّبا عن الإملال الحاصل من الإكثار، ليسهل ضبطه على الطالبين، ولتكثر فيه رغبة الراغبين. وألحقت به ما عثرت عليه في كتب الأدباء.
وما سمعته من أفاضل العلماء من لطائف الحكايات وعجائب العبارات، وسمّيته بروض الأخيار، المنتخب من ربيع الأبرار..» .
وقدّم الأماسيّ كتابه هذا هدية إلى سدّة السلطان سليمان بن السلطان سليم خان.
وهذا الكتاب يعدّ من كتب الأدب والثقافة العامّة، أو ما يسمى قديما «علم المحاضرات» وهذه التسمية تطلق على الكتب التي تعنى بالأدب، شعره ونثره، وتسعى إلى تزويد القارىء بمختلف الموضوعات والعلوم التي عرفها العرب والمسلمون كالأغاني لأبي الفرج الأصفهاني والعقد الفريد لابن عبد ربّه وعيون الأخبار لابن قتيبة. وكثر هذا النوع من التأليف في عصري المماليك والعثمانيين وقد وصلت إلينا، من هذين العصرين، كتب كثيرة جدا. وهذه الكتب تضم نصوصا ونقولا من كتب المؤلفين السابقين، الذين فقدت معظم كتبهم على مرّ الزمن، بسبب الكوارث والكوائن التي اجتاحت البلاد إبان الخلافة الإسلامية أو
1 / 8
السلطنة المملوكية والعثمانية. ومن هنا تأتي أهمية تلك الكتب التي وصلت إلينا من عصري المماليك والعثمانيين، اللذين ظلمهما عدد من الباحثين حين أطلقوا عليهما اسم «عصور الانحطاط» أو «عصور الانحدار» . وهذا الحديث ذو شجون، ولا يتسع المقام هنا للإفاضة وبسط الكلام.
وقد جعل ابن قاسم الأماسي كتاب «روض الأخيار» أشبه بمائدة كبيرة عليها صنوف كثيرة ومتنوعة من الأطعمة والحلويات، أو دوحة ذات ظلال وأشجار ومياه عذبة، وترك للقارىء الحريّة في الاختيار والانتقاء من تلك الروضة الفينانة، والحديقة الغنّاء، وإنك لتجد في رياض «الأماسيّ» الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والمختارات الشعرية والنثرية الجميلة والحكم، والرسائل والأخبار المشوّقة التي تدل على اتساع المخزون الأدبي والثقافي عند مؤلفه.
وقد كسّره الأماسي على خمسين روضة، والروضة الواحدة هنا يقصد بها ما يسمّى عادة بالباب أو الفصل. ولكل منها عنوان يطول أو يقصر، بحسب ما تشتمل عليه كل روضة من رياضه.
وهذا الكتاب بروضاته الخمسين لا يكاد يترك شيئا من شؤون الدين والدنيا، كالعبادات، والجهاد والقضاء، والصّبر والذكر، ومكارم الأخلاق والصناعات، والسماء بما فيها من سحاب ومطر، والأرض بما عليها من ثلج ورياح ونيران وسرج، وكذلك الصحة والمرض، والأجوبة المسكتة، والطعام والنساء والحبّ، والألحان والغناء والأضاحيك والمداعبات، والبكاء، والحزن، والملابس، فضلا عن اللغة واللحن في الكلام، والحماقة، والمكر والاحتيال، والسفر والغربة والفصاحة والبلاغة، وأحوال الجواري، والوصايا ... الخ.
1 / 9
وهذا كله جرّ المؤلف إلى إيراد أخبار وأشعار طابعها المجون الصريح، الذي ينافي آداب عصرنا اليوم، وليس ضروريا إثباته في مطاوي الكتاب لما فيه من الفحش وهجرا لقول، ولا فائدة من إذاعته ونشره، فإن لكلّ مقام مقالا، ولكل أيام كلاما. وهو قليل جدا، على كلّ حال.
وقد انتهى الأماسي من تأليف كتابه هذا سنة ٩٢١ هـ، مؤرخا إياه بجملة «جاء بفضله» التي وردت في شعر له أثبته في آخر كتابه.
والذي يقرأ هذا الكتاب، أو يتصفّحه يعجب جدا بما بذله مؤلفه من جهد ووقت، وبهذا المخزون الأدبي والثقافي الذي يطل علينا كلما أنعمنا النظر فيه، وهذا ما يجعل الكتاب ذا قيمة كبيرة، وقد أصبح اليوم نادر الوجود لأن آخر طبعة له كانت سنة ١٣٠٧ هـ أي مضى عليها أكثر من قرن. فقد طبع أربع مرات بمصر فيما سلف من السنين، وذلك في السنوات ١٢٧٩ هـ و١٢٨٠ و١٢٩٢ و١٣٠٧ هـ» وهذا ما جعل الحاجة إلى نشره وطبعه ضرورية اليوم.
هذا، وقد اعتمدت في قراءة الكتاب وتصحيحه على طبعتين اثنتين «١» هما:
١- طبعة بولاق بمصر سنة ١٢٨٠ هـ وعدد صفحاتها ٢٩٠ وحروفها متعبة للقارىء.
٢- طبعة المطبعة الميمنية بمصر في شعبان من سنة ١٣٠٧ هـ وصفحاتها ٢٥٦.
وقد قابلت بين هاتين الطبعتين، اللتين تتشابهان في المضمون والمحتوى، والفرق بينهما ضئيل جدا، وقمت بضبط الكتاب وتصحيحه وتقسيم نصوصه إلى
1 / 10
فقرات مناسبة ووضع علامات الترقيم في أماكنها الملائمة، وكل ذلك خلا منه الكتاب، كما قمت بما تقتضيه النصوص والأخبار والأشعار من شرح وتعليق ضرورين، لئلا يضخم حجم الكتاب على ما فيه، هو نفسه، من ضخامة أيضا.
وعسى أن يجد قارىء هذا الكتاب، في حلّته العصرية القشيبة، وفي موضوعاته الشائقة ما يجعله موقنا أنه من الكتب النفيسة النادرة.
والله الموفّق إلى سواء السبيل.
محمود فاخوري حلب في ا ٥/١/٢٠٠٠ م الموافق ٢٨ رمضان ١٤٢٠ هـ
1 / 11
[مقدمة الكتاب]
بسم الله الرّحمن الرّحيم نحمدك اللهم على ما علّمتنا من البيان. وألهمتنا من التبيان. ونشكرك على ما أسبغت علينا من الإحسان. ونسألك المغفرة والرضوان. ونصلي على رسولك المبعوث إلى كافة الخلق بأعدل الأديان. محمد وعلى آله الكرام. وأصحابه العظام. ما دار دور الزمان. وحدث حوادث الأكوان.
وبعد: فيقول العبد المتضرّع إلى فاتح القلوب وساتر العيوب، محمد بن قاسم بن يعقوب، دفع الله بلطفه وكرمه عنه وعن والديه كل الكروب، وغفر له ولهما بفضله جميع الذنوب: لمّا كان علم المحاضرات علما نافعا في أنواع المحاورات. وهو علم عال من العلوم العربية، وفن فاخر من الفنون الأدبية، يحتاج إليه طوائف الأنام، ويرغب فيه العلماء العظام، حتى المولى الفاضل العلامة، أجلّه الله تعالى في دار المقامة، الذي لا يرى مثله في الأنام، إلى انقراض الدهور والأيّام، ولا يسمع نظيره في الأدوار، ما دار الفلك الدوّار، قد صنّف فيه كتاب ربيع الأبرار، وأودعه ما لا يعدّ من الأسرار، إلّا أنه بحر زاخر لا تدرك غايته ولا ترجى نهايته، قد قصرت عن إحاطته الأوهام، وعجزت عن محافظته الأفهام، استخرجت من نخب فرائده، وكتبت من نكت فوائده، ما استحسنته على وجه الاختصار، متجنبا عن الإملال الحاصل من الإكثار، ليسهل ضبطه على الطالبين، ولتكثر فيه رغبة الراغبين، وألحقت به ما عثرت عليه في
1 / 12
كتب الأدباء، وما سمعته من أفاضل العلماء، من لطائف الحكايات، وعجائب العبارات، وسميته ب (روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار)، ثم جعلته تحفة للعتبة العليا، وهدية للسّدّة العظمى لا زالت ملجأ لأعلام العلماء الكاملين، وملاذا لأعيان الأمراء والسلاطين، ما دامت الأرض ودارت أفلاك السماء، من قال آمين يسّر الله له ما يشاء، أعني عتبة من عمّ بفيض فضله طوائف الأيام، وسدّة من استنار بضياء عدله ظلم الظّلم في صفحات الأيام:
أقامت في الرقاب له أياد ... هي الأطواق والناس الحمام
لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنّك في فم الزمن ابتسام
رافع رايات الخلافة الكبرى، وواضع أوضاع السلطنة العظمى، ماحي آثار الجهل والظلم والطغيان، وممهد قواعد العلم والعدل والإحسان، ظلّ الله تعالى في الأرضين قهرمان «١» الماء والطين، السلطان ابن السلطان ابن السلطان ابن السلطان ابن السلطان سليمان ابن السلطان سليم خان ابن السلطان أبي يزيد ابن السلطان محمد خان، لا زالت ظلال رايات سلطنته ساطعة على مفارق العالمين، وشموس معدلته «٢» طالعة على سكان الآفاق والأرضين، ولا زالت الأيام طائعة لأوامره وأحكامه، والأجرام العالية جارية وفق مطلبه ومرامه، فلو وقع عليه من عين عنايته العميمة شيء من الالتفات، لكان هذا الكتاب نور العيون الكمّل وأعيان الثقات، ولو طلع عليه من شعاع سعادته سمة من النظر، لسار ذكره مسير الشمس والقمر.
1 / 13
والمأمول من كرم عالم الأسرار، أن يسهّل علينا الأوطار «١»، ويضع عن ظهورنا الأوزار، إنه الكريم الغفار والمهيمن الستار، ومجيب الدعوات وقاضي الحاجات.
1 / 14
الروضة الأولى في الدين وما يتعلق به من العبادات
عن النبي ﷺ أنه قال على المنبر: «أشعر كلمة قالتها العرب كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل» «١» . علي ﵁: كل ما يتصور في الأفهام فالله خلافه. الشافعي رحمه الله تعالى: من انتهض لطلب مدبّره فإن اطمأنّ إلى موجود «٢» ينتهي إليه فكره فهو مشبّه «٣» وإن اطمأنّ إلى نفي محض فهو معطّل «٤» وإن اطمأنّ إلى موجود واعترف بالعجز عن إدراكه فهو موحّد. علي ﵁ «٥»:
كيفية المرء ليس المرء يدركها ... فكيف كيفية الجبار ذي القدم
هو الذي أنشأ الأشياء مبتدعا ... فكيف يدركه مستحدث النّسم «٦»
وعنه ﵁: إن العقل لإقامة رسم العبوديّة لا لإدراك الربوبيّة. عن النبي ﷺ: «إنّ الله احتجب عن البصائر كما احتجب عن الأبصار وإنّ الملأ
1 / 15
الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم» . سأل رجل عليّا ﵁: هل رأيت ربّك؟ فقال: أفأعبد ما لا أرى؟ فقال: كيف تراه؟ قال: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان. حكيم: الواجب على المرء الإقرار بإنيّة «١» الله تعالى وعبادته وترك البحث عن طلبه فإنّ طالبه لا ينال غير الطلب شيئا. عليّ ﵁: ما يسرّني أن متّ طفلا وإن دخلت الجنّة ولم أكبر فأعرف ربّي. من عرف ربّه جلّ ومن عرف نفسه ذلّ. قال يعقوب ﵇ للبشير «٢»: على أيّ دين تركت يوسف؟ قال: على الإسلام. قال: الآن تمت النعمة على يعقوب وعلى آل يعقوب. وقال موسى ﵇: أين أجدك يا رب؟ قال: يا موسى إذا قصدت إليّ فقد وصلت إليّ. وسئل أعرابي عن دليل وجود الصانع، فقال: البعرة تدلّ على البعير، وآثار الأقدام تدلّ على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج «٣» وبحار ذات أمواج ألا تدلّ على العليم الخبير؟!. وسئل صوفيّ عن الدليل على أنّ الله تعالى واحد فقال: أغنى الصباح عن المصباح. عيسى ﵇: لا يجد العبد حقيقة الإيمان حتى لا يحب أن يحمد على عبادة الله. عن النبي ﷺ: «إنّ لكل بدعة كيد بها الإسلام وليّا يذبّ عنه» . الشعبيّ: أحبب آل محمد ولا تكن رافضيا، وأثبت وعيد الله ولا تكن مرجئيا، ولا تكفّر الناس بذنب فتكون خارجيا، وألزم الحسنة ربّك والسيئة نفسك ولا تكن قدريا.
1 / 16
خفّ الروافض مثل في السّعة لأنه لا يرى المسح على الخفين ويرى المسح على الرجل فيوسعه ليتمكّن من إدخال يده فيه ليمسح برجله. ابن مسعود ﵁ رفعه «١»: «ليس الجماعة بكثرة الناس، من كان معه الحق فهو الجماعة وإن كان وحده» . الثوري رحمة الله عليه: الجماعة العالم ولو على رأس جبل.
عليّ ﵁: إن دين الله بين المقصّر والغالي «٢» فعليكم بالنمرقة الوسطى، فبها يلحق المقصّر، ويرجع إليها الغالي.
سقراط: خير الأمور أوساطها. صوفيّ: هذا قلبي فتّشوه فإن وجدتم فيه غير الله فانبشوه. لمّا ظهر موسى ﵇ في أيام سقراط قال: نحن قوم مهذّبون لا حاجة لنا إلى تهذيب غيرنا «٣» . رأس الدين صحة اليقين. عائشة ﵂: «كان رسول الله ﷺ يحدّثنا ونحدّثه، فإذا جاءت الصلاة لم يعرفنا ولم نعرفه» . وقيل لبعضهم: ما بال المتهجّدين أحسن الناس وجها؟
قال: إنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره. وكانت رابعة رحمها الله تعالى تصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة، وتقول: ما أريد بها ثوابا ولكن ليسرّ بها رسول الله ﷺ، ويقول للأنبياء: انظروا إلى امرأة من أمتي، هذا عملها في اليوم والليلة.
وصلّى الحجاج في جنب ابن المسيّب فرآه يرفع قبل الإمام ويضع رأسه، فلمّا سلّم أخذ بثوبه حتى فرغ من صلاته ودعائه، ثم رفع نعله على الحجاج فقال: يا سارق يا خائن تصلي هذه الصلاة؟ لقد هممت أن أضرب بها وجهك.
وكان الحجاج حاجّا فرجع إلى الشام وجاء واليا على المدينة، ودخل من فوره
1 / 17
المسجد قاصدا مجلس سعيد بن المسيّب فقال له: أنت صاحب الكلمات؟
قال: نعم أنا صاحبها. قال: جزاك الله تعالى من معلّم ومؤدّب خيرا، ما صلّيت بعدك إلّا ذاكرا قولك.
وكان الحمام يقع على رأس ابن الزبير في المسجد الحرام ويحسبه جذعا منصوبا لطول قيامه في الصلاة. وكانت العصافير تقع على ظهر إبراهيم بن يزيد ابن شريك التيمي «١» ساجدا كما تقع على الحائط.
قال رجل لرسول الله ﷺ: «ادع الله أن يرزقني مرافقتك في الجنة. قال:
أعنّي بكثرة السجود» . وعن ابن عباس ﵄: بعث الله تعالى نبيّه ﷺ بشهادة أن لا إله إلّا الله، فلمّا صدّق زاد الصلاة، فلمّا صدّق زاد الزكاة، فلمّا صدّق زاد الحجّ ثم الجهاد، ثم أكمل لهم الدين. مقاتل «٢» ﵁:
«كان النبيّ ﷺ يصلّي بمكة ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشيّ. فلمّا عرج به إلى السماء أمر بالصلوات الخمس» . علي ﵁: إذا مات العبد بكى عليه مصلّاه من الأرض ومصعد عمله من السماء. جابر ﵁: «قيل: يا رسول الله إنّ فلانا يصلّي بالليل، فإذا أصبح يسرق! فقال: لعلّ صلاته ستنهاه» .
قال شيخ من تميم: صلّى بنا سفيان المغرب فقرأ الفاتحة، فلما بلغ نَسْتَعِينُ
بكى حتى قطع القراءة، ثم عاد، فلمّا صلّى التفت فقال:
لا ينبغي لمثلي أن يتقدّم. فما تقدم حتى مات. بعضهم: صليت خلف ذي
1 / 18
النون المصري «١» فلمّا أراد أن يكبّر رفع يديه فقال: الله. ثم بهت وبقي كأنه جسد لا روح فيه إعظاما لربّه. ثم قال: ظننت أن قلبي انخلع من هيبة تكبيره.
بعضهم: لا يفوت أحدا صلاة بجماعة إلّا بذنب. أبو سليمان الداراني «٢» ﵀: أقمت عشرين سنة لم أحتلم. فدخلت مكة فأحدثت بها حدثا، فلما أصبحت احتلمت، وكان الحدث أن فاتتني صلاة العشاء بجماعة. سعيد بن المسيّب «٣»: حججت أربعين حجّة، وما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة. روي أنه صلّى الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة. حاتم الأصمّ «٤»:
فاتتني الصلاة بجماعة، فعزّاني أبو إسحاق النجاري وحده، ولو مات لي ولد لعزّاني أكثر من عشرة آلاف، لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا. وكان السلف يعزّون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتهم التكبير الأول، وسبعا إذا فاتتهم الجماعة.
وقيل لصوفيّ: أرفع اليدين في الصلاة أفضل أم إرسالهما؟ فقال: رفع القلب إلى الله أنفع منهما جميعا. وأوحى الله تعالى إلى داود ﵇: يا داود كذب من ادّعى محبتي، فإذا جنّه الليل نام عني، أليس كلّ حبيب يحب خلوة بحبيبه؟. الحسن: إذا بكيت من خشية الله فلا تمسح دموعك، فإنه أنور لوجهك، وإذا توضأت فلا تمسح وضوءك فإنه أنور لوجهك إذا قمت بين يدي ربك. يونس بن عبيد «٥»: ما اشتغل رجل بالتطوع إلّا استخفّ بالفرائض.
1 / 19
الثوري «١»: إذا رأيت رجلا يحب أن يؤمّ فأخّره. النبي ﷺ: «زكاة الجسد الصيام» . أبو هريرة رفعه: «من أفطر يوما من غير رخصة رخّصها الله لم يقض عنه صيامه الدهر» .
الزّهري «٢»: عجبا للناس تركوا الاعتكاف، وكان رسول الله ﷺ يفعل الشيء ويتركه، ولم يترك الاعتكاف منذ دخل المدينة إلى أن فارق الحياة. عن عطاء الخراساني «٣»: مثل المعتكف كمثل عبد ألقى نفسه بين يدي الله تعالى يقول:
لا أبرح حتى تغفر لي. عائشة ﵂: ما خالطت الزكاة مالا إلّا أهلكته. «أمر رسول الله ﷺ عائشة أن تقسم شاة فقالت: يا نبيّ الله ما بقي منها غير عنقها، فقال ﷺ: كلّها بقي غير عنقها» . ومنه قوله:
يبكي على الذاهب من ماله ... وإنما يبقى الذي يذهب
وعنه ﷺ: «ردّوا مذمّة السائل ولو بمثل رأس الطائر من الطعام» . عيسى ﵇: من ردّ سائلا خائبا لم تغش الملائكة ذلك البيت سبعة أيام.
كان نبيّنا ﷺ لا يكل خصلتين إلى غيره: كان يضع طهوره بالليل ويخمّره «٤» بيده، وكان يناول المسكين بيده. عن الشعبي «٥»: من لم ير نفسه أحوج إلى ثواب الصدقة من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته فضرب بها وجهه.
النّخعي: كانوا يرون أن الرجل المظلوم إذا تصدّق بشيء دفع عنه الأخذ بالظلم.
1 / 20
وكان الرجل يضع الصدقة ويمثل قائما بين يدي الفقير يسأله قبولها، حتى يكون في صورة السائل. كان بعضهم يبسط كفّه ليأخذ الفقير الصدقة ويده هي العليا.
عن النبي ﷺ: «الصدقة تسدّ سبعين بابا من الشرّ» . وقف السائل على امرأة تتعشّى فقامت ووضعت لقمة في فيه، ثم بكرت إلى زوجها في مزرعته فوضعت ولدها وقامت لحاجة لها، فاختلسه الذئب، فوقفت فقالت: يا ربّ ولدي.
فأتى آت فأخذ بعنق الذئب فاستخرج ولدها من فيه بغير أذى ولا ضرر، وقال لها: هذه اللقمة التي وضعتها في فم السائل. وقف سائل على عليّ ﵁ فقال لأحد ولديه: قل لأمّك هاتي درهما من ستة دراهم، فقالت:
للدّقيق، فقال: لا يصدق إيمان عبد حتى يكون بما في يد الله أوثق منه بما في يده، فتصدّق بالستة. ثم مرّ به رجل يبيع جملا، فاشتراه بمائة وأربعين وباعه بمائتين، فجاء بالستين إلى فاطمة، فقالت: ما هذا؟ فقال: ما وعدنا الله على لسان أبيك: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها
«١» .
وجّه رجل ابنه في تجارة، فمضى عليه شهر ولم يقف له على خبر، فتصدّق برغيفين وأرّخ ذلك اليوم، فلمّا كان بعد سنة رجع ابنه سالما رابحا، فسأله: هل أصابك بلاء؟ فقال: غرقت السفينة بنا في وسط البحر وغرقت، فإذا أنا بشابّين أخذاني وطرحاني على الشطّ وقالا: قل لوالدك: هذا برغيفين فكيف لو تصدّقت بزيادة؟.
دخلت امرأة شلّاء على عائشة فسألتها، قالت: كان أبي يحبّ الصدقة وأمي تبغضها، لم تتصدّق في عمرها إلا بقطعة شحم وخلقان «٢»، فرأيت في
1 / 21
المنام كأنّ القيامة قد قامت، وكأنّها قد غطّت عورتها بالخلقان، وفي يدها قطعة الشحم تلحسها من العطش، وذهبت إلى أبي فإذا هو على حافة حوض يسقي الناس، فطلبت منه قدحا فسقيته أمي «١»، فنودي: من سقاها أشلّ الله يده..
فانتبهت كما ترين.
فضيل «٢»: بلغني أن رجلا وامرأته كانا يعيشان بغزلها «٣»، فانطلق به إلى السوق يوما فباعه بدرهم، ثم مرّ برجلين يختصمان فسأل: فيم يختصمان؟
فقيل: في درهم، فدفع درهمه إليهما، فقالت امرأته: أصبت ووفّقت، فذهب في اليوم الآخر بمثله فلقي بائع سمكة فاشتراها منه بغزله، فوجدت امرأته في بطنها درّة، فباعها بمائة وعشرين ألفا، فوقف السائل على الباب فشاطره «٤» فذهب ثم رجع فقال: أنا رسول ربك، فقد ابتلاك في الضرّاء فوجدك صبورا كريما، وفي السرّاء فوجدك شكورا حليما، وأعطاك بالدرهم الذي أعطيت أربعة وعشرين قيراطا، عجّل لك قيراطا واحدا وادّخر لك ثلاثة وعشرين قيراطا يعطيكها في الآخرة. ودخل على عليّ كرّم الله وجهه بعض أصحابه فرآه باكيا فقال:
ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال: سبع «٥» أتت عليّ ولم يرد عليّ فيها ضيف ولا سائل.
عمر بن عبد العزيز: الصلاة تبلّغك نصف الطريق، والصوم يبلّغك دار
1 / 22
الملك، والصدقة تدخلك عليه. وفي الحديث: «أن آدم لما قضى مناسكه لقيته الملائكة فقالوا: برّ حجّك يا آدم قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام» .
وفيه: «أن الله ينظر كل ليلة إلى أهل الأرض، فأوّل من ينظر إليه أهل الحرم وأوّل من ينظر إليه من أهل الحرم أهل المسجد، فمن رآه طائفا غفر له، ومن رآه مصلّيا غفر له، ومن رآه قائما مستقبل القبلة غفر له» . عن مجاهد «١» أن الحجّاج إذا قدموا إلى مكة تلقّتهم الملائكة فسلّموا على ركبان الإبل، وصافحوا ركبان الحمر، واعتنقوا المشاة اعتناقا. وكان من عادة السلف أن يشيّعوا الغزاة وأن يستقبلوا الحاجّ ويقبّلوا بين أعينهم ويسألوهم الدعاء لهم، ويبادروا ذلك قبل أن يتدنسوا بالآثام. عن النبي ﷺ: «إنّ الله قد وعد هذا البيت أن يحجّه في كل سنة ستمائة ألف، فإن نقصوا كمّلهم الله من الملائكة، وإنّ الكعبة تحشر كالعروس المزفوفة، وكل من حجّها يتعلق بأستارها يسعون حولها حتى تدخل الجنة، فيدخلون معها» . وفي الحديث: «إن من الذنوب ذنوبا لا يكفّرها إلا الوقوف بعرفة» . وفيه: «أعظم الناس ذنبا من وقف بعرفة فظن أن الله لم يغفر له» .
بعض السلف: إذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة غفر لكل أهل عرفة، وهو أفضل يوم في الدنيا، وفيه حجّ رسول الله ﷺ حجة الوداع وكان واقفا إذ نزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا
«٢» .
قال أهل الكتاب: لو أنزلت علينا هذه الآية لجعلناها يوم عيد. فقال عمر ﵁: أشهد لقد نزلت في يوم عيدين اثنين، يوم عرفة ويوم الجمعة، على رسول الله ﷺ وهو واقف بعرفة.
1 / 23
لمّا بنى آدم البيت قال: يا ربّ إنّ لكلّ عامل أجرا فما أجر عملي؟ قال: إذا طفت به غفرت لك ذنبك. قال: زدني. قال: جعلته قبلة لأولادك. قال:
زدني. قال: أغفر لكل من استغفرني من الطائفين به من أهل التوحيد من أولادك. قال: يا رب حسبي. قيل للحسن: ما الحجّ المبرور؟ قال: أن ترجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة. مكحول «١»: قلت للحسن: أريد أن أخرج إلى مكة، قال: لا تصحب رجلا يكرم عليك فينقطع الذي بينك وبينه.
عن عبّاد بن عبّاد «٢»: أردت أن أحجّ فأتاني ابن عون فقال: احفظ عني خلّتين:
عليك بحسن الخلق، والبذل. فرأيت في المنام كأنّ حمّاد بن زيد «٣» أتاني بخلتين وقال: أهداهما إليك ابن عون فقلت: قوّمهما. قال: ليس لهما قيمة «٤» . عن عبد العزيز بن أبي داود: جاورت هذا البيت ستين سنة وحججت ستين حجّة فما دخلت في شيء من أعمال البرّ فخرجت فحاسبت نفسي إلّا وجدت نصيب الشيطان فيه أوفر من نصيب الله.
عن عليّ ﵁: «القرآن فيه خبر من قبلكم ونبأ من بعدكم وحكم ما بينكم» . عن النبي ﷺ: «اتلوا القرآن وابكوا، وإن لم تبكوا فتباكوا» . «وأمر رسول الله ﷺ عبد الله بن عمر أن يختم القرآن في سبع ليال» . وعن عثمان ﵁: أنه كان يفتتح ليلة الجمعة بالبقرة إلى المائدة، وليلة السبت بالأنعام إلى هود، وليلة الأحد بيوسف إلى مريم، وليلة الإثنين بطه إلى (طسم)
1 / 24