قال أحمد: قلت بدءا إن هذه الأشياء التى ينبغى أن تدبر لهذا العمل يجب أن تخرج منها العوارض الفاسدة التى تخرج للشىء عن حد الاعتدال فى كل شىء من هذه الأشياء. وكل شىء غلب عليه فهو يسهل جزءا من العمل ويصعب جزءا. ألا ترى أن الدماغ، لما غلب فيه الرطوبة، أيسر تحليلا وأصعب تنقية وتفريقا؟ والشعر لما كان الغالب فيه اليبس سهل تفريقه وتنقيته، وعسر تحليله. فكل هذه الأسباب العارضة نافعة فى نوع ضارة فى غيره. فأنا ممثل لك فى كتابى هذا وفى غيره جنس الشىء وما يكون منه؛ ثم أنت أعلم وما تختاره مما أنت أقدر على تدبيره؛ فقد يسهل على الرجل ما يعسر على غيره. وقد سألنى «ثابت» فقال: ما بال الفيلسوف اختار الشعر الأسود وهو أولى باليبس، من الأحمر الذى 〈هو〉 شعر أهل البلدان الشمالية؟ فقلت: إن الشعر الأحمر وإن كان أكثر رطوبة فهو يقصر فى غزارته ونضجه عن الشعر الأسود. فرأى الفيلسوف أن انتزاع الرطوبة منه أهون على العامل من تدبيره تدبير الطبيعة فى النضج والتبليغ به فى الغزارة ما تبلغه القوى الطبيعية. وأما قوله: «حتى صار يمنع النفس من كثير من أفعالها» — فقد تقدم القول فيه.
قال أفلاطون: وعضو العين كبير اللطف إلا أنه رسم — إلى أن قال: وهو مع ذلك متخوف منه الإعلال قبل أن يربط، إلا أنه مشارك للدماغ فى مجانسة النير.
قال أحمد: إنك تعرف بالحس صدق قول الفيلسوف فى العين: أما لطافته فلإدراكه للألوان، والدسومة ظاهرة فيه أيضا بمعرفة أصحاب التشريح. والفيلسوف حذر جدا من الأشياء الدهنة لأنها لا تكاد تقاوم النار، والجنس الدهنى كما قاله أرسطاليس واسطانيس الطبيعيان، أعنى اليبس والرطوبة أنك إذا أضفته إلى النار كان رطبا، وإذا أضفته إلى الماء كان يابسا، وقد أخرجت فى هذا النوع من القول ما يقنع فى كتابى «فى التركيب والإضافات». وأحوج ما يكون إليه المنتحل لهذه الصنعة معرفة هذا الجنس من العلم. واعلم أن هذه الطبائع اختلف تركيبها جدا حتى كادت كثرة أن لا يحاط بكليتها وماهيتها، وصار كل شىء مخصوص بشىء معدوم فى غيره مما هو منسوب إلى طبعه. المثال: أن من العقاقير ما يتفق فى الطبائع ويتفاوت فى كثير من العلم. فنحن مضطرون إذا أن نخبر عن جنس كل شىء وما يخصه ويظهر من أثره إذا كنا غير واثقين بمن يأتى من بعدنا أن يبلغ من رأيه أن يستدل من التركيب الأول على مجانسة الأشياء وكيفياتها والعلة فيما يخص ويعم. فلهذا وضع الفيلسوف الكتاب الثالث والرابع الذى مثل فيه العمل. ولولا ذلك لكان مستغنيا بما حكاه فى الفصل الأول من هذا الكتاب من الاستدلال بكتاب إقليدس وقوله أيضا إن الأشياء اختلفت من جهة التركيب، وقوله إنه متخوف منه الإعلال قبل أن يربط، فإن القوى المربوطة بهذا العضو لطيفة جدا، والعضو المربوط رخو والقوة تنحل عنه بسرعة.
صفحة ١٣٣