فأما قوله: إن أبا بكر عذب بمكة، فإنا لا نعلم أن العذاب كان واقعا إلا بعبد أو عسيف أو لمن لا عشيرة له تمنعه! فأنتم في أبي بكر بين أمرين، تارة تجعلونه دخيلا ساقطا وهجينا رذيلا ومستضعفا ذليلا، وتارة تجعلونه رئيسا متبعا وكبيرا مطاعا! فاعتمدوا على أحد القولين لنكلمكم بحسب ما تختارونه لأنفسكم. ولو كان الفضل في الفتنة والعذاب لكان عمار وخباب وبلال وكل معذب بمكة أفضل من أبي بكر؛ لأنهم كانوا من العذاب في أكثر مما كان فيه، ونزل فيهم من القرآن ما لم ينزل فيه! كقوله تعالى:
والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا ، قالوا: نزلت في خباب وبلال. ونزل في عمار قوله:
إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان . وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يمر على عمار وأبيه وأمه وهم يعذبون، يعذبهم بنو مخزوم لأنهم كانوا حلفاءهم، فيقول: صبرا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة. وكان بلال يقلب على الرمضاء وهو يقول: أحد أحد. وما سمعنا لأبي بكر في شيء من ذلك ذكرا. ولقد كان لعلي عليه السلام عنده يد غراء - إن صح ما رويتموه في تعذيبه - لأنه قتل نوفل بن خويلد وعمير بن عثمان يوم بدر. ضرب نوفلا فقطع ساقه، فقال: أذكرك الله والرحم! فقال: قد قطع الله كل رحم وصهر إلا من كان تابعا لمحمد. ثم ضربه أخرى ففاضت نفسه. وصمد لعمير بن عثمان التيمي فوجده يروم الهرب وقد ارتج عليه المسلك، فضربه على شراسيف صدره فصار نصفه الأعلى بين رجليه. وليس أن أبا بكر لم يطلب بثأره منهما ويجتهد، لكنه لم يقدر على أن يفعل فعل علي عليه السلام. فبان علي بفعله دونه.
قال أبو جعفر:
لا أشك أن الباطل خان أبا عثمان والخطأ أقعده، والخذلان أصاره إلى الحيرة، فما علم وعرف حتى قال ما قال، فزعم أن عليا عليه السلام قبل الهجرة لم يمتحن ولم يكابد المشاق، وأنه إنما قاسى مشاق التكليف ومحن الابتلاء منذ يوم بدر، ونسي الحصار في الشعب وما مني به منه، وأبو بكر وادع رافه يأكل ما يريد ويجلس مع من يحب مخلى سريه طيبة نفسه، ساكنا قلبه، وعلي يقاسي الغمرات ويكابد الأهوال ويجوع ويظمأ، ويتوقع القتل صباحا ومساء؛ لأنه كان هو المتوصل المحتال في إحضار قوت زهيد من شيوخ قريش وعقلائها سرا ليقيم به رمق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وبني هاشم وهم في الحصار ولا يأمن في كل وقت مفاجأة أعداء رسول الله
صلى الله عليه وسلم
صفحة غير معروفة