هذا كله مبني على أنه أسلم وهو ابن سبع أو ثمان، ونحن قد بينا أنه أسلم بالغا ابن خمس عشرة سنة أو ابن أربع عشرة سنة. على أنا لو نزلنا على حكم الخصوم وقلنا ما هو الأشهر والأكثر من الرواية وهو أنه أسلم وهو ابن عشر، لم يلزم ما قاله الجاحظ؛ لأن ابن عشر قد يستجمع عقله ويعلم من مبادئ المعارف ما يستخرج به كثير من الأمور المعقولة، ومتى كان الصبي عاقلا مميزا كان مكلفا بالعقليات، وإن كان تكليفه بالشرعيات موقوفا على حد آخر وغاية أخرى. فليس بمنكر أن يكون علي عليه السلام وهو ابن عشر قد عقل المعجزة فلزمه الإقرار بالنبوة وأسلم إسلام عالم عارف لا إسلام مقلد تابع. وإن كان ما نسقه الجاحظ وعدده من معرفة السحر والنجوم والفصل بينهما وبين النبوة، ومعرفة ما يجوز في الحكمة مما لا يجوز، وما لا يحدثه إلا الخالق، والفرق بينه وبين ما يقدر عليه القادرون بالقدرة، ومعرفة التمويه والخديعة والتلبيس والمماكرة، شرطا في صحة الإسلام، لما صح إسلام أبي بكر ولا عمر ولا غيرهما من العرب! وإنما التكليف لهؤلاء بالجمل وبمبادئ المعارف لا بدقائقها والغامض منها. وليس يفتقر الإسلام إلى أن يكون المسلم قد فاتح الرجال وجرب الأمور ونازع الخصوم! وإنما يفتقر إلى صحة الغريزة وكمال العقل وسلامة الفطرة. ألا ترى أن طفلا لو نشأ في دار لم يعاشر الناس بها ولا فاتح الرجال ولا نازع الخصوم ثم كمل عقله وحصلت العلوم البديهية عنده لكان مكلفا بالعقليات؟
فأما توهمه أن عليا عليه السلام أسلم عن تربية الحاضن وتلقين القيم ورياضة السائس، فلعمري إن محمدا
صلى الله عليه وسلم
كان حاضنه وقيمه وسائسه، ولكن لم يكن منقطعا عن أبيه أبي طالب، ولا عن إخوته طالب وجعفر وعقيل، ولا عن عمومته وأهل بيته، وما زال مخالطا لهم ممتزجا بهم مع خدمته لمحمد
صلى الله عليه وسلم ، فما باله لم يمل إلى الشرك وعبادة الأصنام لمخالطة إخوته وأباه وعمومته وأهله وهم كثير ومحمد
صلى الله عليه وسلم
واحد؟ وأنت تعلم أن الصبي إذا كان له أهل ذوو كثرة وفيهم واحد يذهب إلى رأي مفرد لا يوافقه عليه غيره منهم، فإنه يكون إلى ذوي الكثرة أميل وعن ذي الرأي الشاذ أبعد! وعلى أن عليا عليه السلام لم يولد في دار الإسلام، وإنما ولد في دار الشرك وربي بين المشركين وشاهد الأصنام وعاين بعينيه أهله ورهطه يعبدونها. فلو كان في دار الإسلام لكان في القول مجال ولقيل إنه ولد بين المسلمين، فإسلامه عن تلقين الظئر وعن سماع كلمة الإسلام ومشاهدة شعاره؛ لأنه لم يسمع غيره ولا خطر بباله سواه. فلما لم يكن ولد كذلك ثبت أن إسلامه إسلام المميز العارف بما دخل عليه. ولولا أنه كذلك لما مدحه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بذلك ولا أرضى ابنته فاطمة لما وجدت من تزويجه بقوله لها: زوجتك أقدمهم سلما، ولا قرن إلى قوله: وأكثرهم علما وأعظمهم حلما. والحلم العقل، وهذان الأمران غاية الفضل. فلولا أنه أسلم إسلام عارف عالم مميز لما ضم إسلامه إلى العلم والحلم اللذين وصفه بها، وكيف يجوز أن يمدحه بأمر لم يكن مثابا عليه ولا معاقبا به لو تركه؟ ولو كان إسلامه عن تلقين وتربية لما افتخر هو عليه السلام على رءوس الأشهاد ولا خطب على المنبر وهو بين عدو محارب وخاذل منافق فقال: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر والفاروق الأعظم، صليت قبل الناس سبع سنين، وأسلمت قبل إسلام أبي بكر، وآمنت قبل إيمانه. فهل بلغكم أن أحدا من أهل ذلك العصر أنكر ذلك أو عابه أو ادعاه لغيره أو قال له: إنما كنت طفلا أسلمت على تربية محمد
صلى الله عليه وسلم
صفحة غير معروفة