صلى الله عليه وسلم
كان أغلب الأمور عليهم وأحسنها عندهم وأجلها في صدورهم حسن البيان ونظم ضروب الكلام مع علمهم له وانفرادهم به، فحين استحكمت لغتهم وشاعت البلاغة فيهم وكثر شعراؤهم وفاق الناس خطباؤهم، بعثه الله عز وجل فتحداهم بما كانوا لا يشكون أنهم يقدرون على أكثر منه، فلم يزل يقرعهم بعجزهم وينقصهم على نقصهم حتى تبين ذلك لضعفائهم وعوامهم، كما تبين لأقويائهم وخواصهم، وكان ذلك من أعجب ما آتاه الله نبيا قط، مع سائر ما جاء به من الآيات ومن ضروب البرهانات. ولكل شيء باب ومأتى واختصار وتقريب، فمن أحكم الحكمة إرسال كل نبي بما يفحم أعجب الأمور عندهم ويبطل أقوى الأشياء في ظنهم.
فصل منه : في ذكر أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام: وآية أخرى لا يعرفها إلا الخاصة، ومتى ذكرت الخاصة فالعامة في ذلك مثل الخاصة، وهي الأخلاق والأفعال التي لم تجتمع لبشري قط قبله، ولا تجتمع لبشري بعده. وذلك أنا لم نرو ولم نسمع لأحد قط كصبره، ولا كحلمه، ولا كوفائه، ولا كزهده، ولا كجوده، ولا كنجدته، ولا كصدق لهجته وكرم عشرته، ولا كتواضعه، ولا كعلمه، ولا كحفظه، ولا كصمته إذا صمت ولا كقوله إذا قال، ولا كعجيب منشئه، ولا كقلة تلونه، ولا كعفوه، ولا كدوام طريقته وقلة امتنانه. ولم نجد شجاعا قط إلا وقد جال جولة وفر فرة وانحاز مرة من معدودي شجعان الإسلام ومشهوري فرسان الجاهلية كفلان وفلان، وبعد فقد نصر النبي
صلى الله عليه وسلم
وهاجر معه قوم ولم نر كنجدتهم نجدة ولا كصبرهم صبرا، وقد كانت لهم الجولة والفرة، كما قد بلغك عن يوم أحد وعن يوم حنين وغير ذلك من الوقائع والأيام، فلا يستطيع منافق ولا زنديق ولا دهري أن يحدث أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
جال جولة قط أو فر فرة قط أو خام عن غزوة أو هاب حرب من كاثره. •••
ثبتك الله بالحجة، وحصن دينك من كل شبهة، وتوفاك مسلما، وجعلك من الشاكرين. قد أعجبني - حفظك الله - استهداؤك العلم وفهمك له، وشغفك بالإنصاف وميلك إليه، وتعظيمك الحق وموالاتك فيه، ورغبتك عن التقليد وزرايتك عليه، ومواترة كتبك على بعد دارك وتقطع أسبابك وصبرك إلى أوان الإمكان، واتساعك عند تضايق العذر. وفهمت - حفظك الله - كتابك الأول وما حثثت عليه من تبادل العلم والتعاون على البحث والتحاب في الدين والنصيحة لجميع المسلمين. وقلت: اكتب إلي كتابا تقصد فيه إلى حاجات النفوس وإلى صلاح القلوب وإلى معتلجات الشكوك وخواطر الشبهات، دون الذي عليه أكثر المتكلمين من التطويل ومن التعمق والتعقيد ومن تكلف ما لا يجب وإضاعة ما يجب. وقلت: كن كالمعلم الرفيق والمعالج الشفيق الذي يعرف الداء وسببه والدواء وموقعه ويصبر على طول العلاج ولا يسأم كثرة الترداد. وقلت: اجعل تجارتك التي إياها تؤمل وصناعتك التي إياها تعتمد إصلاح الفاسد ورد الشارد. وقلت: ولا بد من استجماع الأصول ومن استيفاء الفروع ومن حسم كل خاطر وقمع كل ناجم وصرف كل هاجس ودفع كل شاغل حتى تتمكن من الحجة وتتهنأ بالنعمة وتجد رائحة الكفاية وتثلج ببرد اليقين وتفضي إلى حقيقة الأمر. وإن كان لا بد من عوارض العجز ولواحق التقصير، فالبر لها أجمل والضرر علينا في ذلك أيسر. وقلت: ابدأ بالأخف فالأخف، وبكل ما كان آنق في السمع وأحلى في الصدور، وبالباب الذي منه يؤتى الريض المتكلف والجسور المتعجرف وبكل ما كان أكثر علما وأنفذ كيدا. وسألتني بتفتيح الاستداد والعجلة إلى الاعتقاد وصفة الأناة ومقدارها ومقدمات العلوم ومنتهاها، وزعمت أن من اللفظ ما لا يفهم معناه دون الإشارة ودون معرفة السبب والهيئة دون إعارته وركته وتحديد واحتيازه. وقلت: فإن أنت لم تصور ذلك كله صورة تغني عن المشافهة، ويكتفى بظاهرها عن المراسلة، أحوجتنا إلى لقائك على بعد دارك وكثرة أشغالك وعلى ما تخاف من الضيعة وفساد المعيشة. فكتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسي وبلغت منه أقصى ما يمكن مثلي في الاحتجاج للقرآن والرد على الطعان، فلم أدع فيه مسألة لرافضي ولا لحديثي ولا لحشوي، ولا لكافر مباد ولا لمنافق مقموع ولا لأصحاب النظام ولمن نجم بعد النظام ممن يزعم أن القرآن حق وليس تأليفه بحجة وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة. فلما ظننت أني قد بلغت أقصى محبتك وأتيت على معنى صفتك أتاني كتابك تذكر أنك لم ترد الاحتجاج لنظم القرآن، وإنما أردت الاحتجاج لخلق القرآن، وكانت مسألتك مبهمة ولم أك أن أحدث لك فيها تأليفة، فكتبت لك أشق الكتابين وأثقلهما وأغمضهما معنى وأطولهما طولا، ولولا ما اعتللت به من اعتراض الرافضة واحتجاج القوم علينا بمذهب معمر وأبي كلدة وعبد الحميد وثمامة وكل من زعم أن أفعال الطبيعة مخلوقة على المجاز دون الحقيقة، وأن متكلمي الحشوية والنابتة قد صار لهم بمناظرة أصحابنا وبقراءة كتبنا بعض الفطنة، لما كتبت لك رغبة بك عن أقدارهم وضنا بالحكمة عن أغثارهم، وإنما يكتب على الخصوم الأكفاء وللأولياء على الأعداء، ولمن يرى للنظر حقا وللعلم قدرا وله في الإنصاف مذهب وإلى المعرفة سبب. وزعمت أنك لم تر في كتب أصحابنا إلا كتابا لا تفهمه أو كتابا وجدت الحجة على واضع الكتاب فيه أثبت. وقلت: وإياك أن تتكل على مقدار ما عندهم دون أن تعتصر قوى باطلهم وتوفيهم جميع حقوقهم وإذا تقلدت الإخبار عن خصمك فحطه كحياطتك لنفسك، فإن ذلك أبلغ في التعليم وآيس للخصوم. وقلت: وزعموا أنه يلزمك أن تزعم أن القرآن ليس بمخلوق إلا على المجاز، كما ألزم ذلك نفسه معمر وأبو كلدة وعبد الحميد وثمامة وكل من ذهب مذهبهم وقاس قياسهم. فتفهم - فهمك الله تعالى - ما أنا واصفه لك ومورده عليك:
اعلم أن القوم يلزمهم ما ألزموه أنفسهم، وليس ذلك إلا لعجزهم عن التخلص بحقهم وإلا لذهابهم عن قواعد قولهم وفروع أصولهم، فليس لك أن تضيف العجز الذي كان منهم إلى أصل مقالتهم وتحمل ذلك الخطأ على غيرهم، فرب قول شريف الحسب جيد المركب وافر العرض بريء من العيوب سليم من الأفن قد ضيعه أهله وهجنه المفترون عليه فألزموه ما لا يلزمه وأضافوا إليه ما لا يجوز عليه. ولو زعم القوم - على أصل مقالتهم - أن القرآن هو الجسم دون الصوت والتقطيع والنظم والتأليف، وأنه ليس بصوت ولا تقطيع ولا تأليف؛ إذ كان الصوت عندهم لا يخترع كاختراع الأجسام المصورة ولا يحتمل التقطيع كاحتمال الأجرام المتجسدة، والصوت عرض لا يحدث من جوهر إلا بدخول جوهر آخر عليه، ومحال أن يحدث إلا وهناك جسمان قد صك أحدهما صاحبه، ولا بد من مكانين مكان زال عنه ومكان زال إليه، ولا بد من هواء بين المصطكين، والجسم قد يحدث وحده ولا شيء غيره، والصوت على خلاف ذلك، والعرض لا يقوم بنفسه ولا بد من أن يقوم بغيره، والأعراض من أعمال الأجسام لا تكون إلا منها ولا توجد إلا بها وفيها، والجسم لا يكون إلا من جسم ولا يكون إلا من مخترع الأجسام وليست لكون الجسم له علة توجبه، ولا يحدث إذا حدث إلا اختيارا وإلا ابتداعا واختراعا، والصوت لا يكون إلا عن علة موجبة ولا يكون إلا توليدا ونتيجة، ولا يحدث إلا من جرمين كاصطكاك الحجرين وكقرع اللسان باطن الأسنان، وإلا من هواء يتضاغط وريح تختنق ونار تلتهب، والريح عندهم هواء تحرك، والنار عندهم ريح حارة، هكذا الأمر عندهم. فلو قالوا: لا يكون الشيء مخلوقا في الحقيقة دون المجاز على مجاري اللغة إلا وقد بان الله عز وجل باختراعه وتولاه بابتداعه، وكان منه على اختيار. والابتداع الذي يمكن تركه وإنشاء عقيبة بدلا منه على ما كان تولده ونتيجته من أجسام يستحيل أن يخلق من أفعالها ويحلها الله منها. والقرآن على غير ذلك جسم وصوت، وذو تأليف وذو نظم وتقطيع، وخلق قائم بنفسه مستغن عن غيره، ومسموع في الهواء ومرئي في الورق، ومفصل وموصل، ذو اجتماع وافتراق، ويحتمل الزيادة والنقصان والفناء والبقاء. وكل ما احتملته الأجسام ووصفت به الأجرام، كل ما كان كذلك، فمخلوق في الحقيقة دون المجاز. وتوسع أهل اللغة فلو كانوا قالوا ذلك لكانوا أصابوا في القياس ووافقوا أهل الحق وكانوا مع الجماعة ولم يضاهوا أهل الخلاف والفرقة ولم يفهموا أنفسهم بقول المشبهة، إذ كان ظاهر قولهم على التشبيه أدل وبه أشبه. ولا يجوز أن أذكر موضع موافقتي لهم ومخالفتي عليهم في صدر هذا الكتاب؛ لأن التدبير في وضع الكتاب والسياسة في تعليم الجهال أن يبدأ بالأوضح فالأوضح والأقرب فالأقرب وبالأصول قبل الفروع، حتى يكون آخر الكتاب لآخر القياس، وآخر الكلام لا يفهم - أرشدك الله تعالى - ولا يتوهم إلا على ترتيب الأمور وتقديم الأصول، فإذا رتبنا الأمور وقدمنا الأصول صارت أواخر المعاني في الفهم كأوائلها ودقيقها كجليلها، وقد علمنا أن بعض ما فيه الاختلاف بين من ينتحل الإسلام أعظم فرية وأشد بلية وأشنع كفرا وأكبر إثما من كثير مما أجمعوا على أنه كفر.
وبعد، فنحن لا نكفر إلا من أوسعناه حجة، ولم نمتحن إلا أهل التهمة، وليس كشف المتهم من التجسس ولا امتحان الظنين من هتك الستار، ولو كان كل كشف هتكا وكل امتحان تجسسا لكان القاضي أهتك الناس لستر وأشد الناس كشفا لعورة.
صفحة غير معروفة