سقوط صاعقة
بيني وبين أمين الريحاني
أحمد فارس الشدياق
كتاب وجواب
طريق عين كفاع
بين مارون عبود وأنسبائه
كتاب وجواب
سقوط صاعقة
بيني وبين أمين الريحاني
أحمد فارس الشدياق
كتاب وجواب
طريق عين كفاع
بين مارون عبود وأنسبائه
كتاب وجواب
رسائل وأحاديث
رسائل وأحاديث
تأليف
مارون عبود
المؤلف (1886-1962).
سقوط صاعقة
الصاعقة على منزل مارون عبود
اختارت الصاعقة بيت مارون عبود في عين كفاع، فانقضت على البيت ... ولحسن الحظ لم تجد ناقدنا الكبير هناك؛ فقد كان منكبا على عمله التعليمي في عاليه.
ولكن الصاعقة وجدت في البيت فولتير، وشكسبير، وهيجو، وبرناردشو، والجاحظ ... وجدتهم في لوحات كبيرة على جدران البيت، رسمها فنانون طليان وفرنسيون، كما وجدتهم في كتب أنيقة حسنة التجليد على رفوف المكتبة، فخرقت الجدران، ومزقت الكتب، وانتقمت من أعلام الفكر شر الانتقام ...
وما انتقمت في الواقع إلا من مارون عبود، الذي أنفق ما أنفق على رسم هذه اللوحات الفنية على طول الجدران وعرضها، فغدا منزله بها تحفة فنية صنعها الإنسان في الداخل، ومتعة رائعة خطتها يد الطبيعة في مدرجات أخاذة حول القرية.
ومن غريب المصادفات أن أستاذنا يحب الصواعق، ويصادق الزوابع منذ زمن طويل، فديوانه الشعري يحمل اسم «زوابع»، كما يحمل كتاب آخر من كتبه اسم «زوبعة الدهور» ... ولكن يظهر أن الصاعقة لم تف له هذا الحب ... فأدركت هذه الصاعقة بيته في عين كفاع، كما أدركت صاحبه حرفة الأدب.
ونحمد الله على أنه لا يزال معلما يمارس مهنته؛ فالتعليم أنقذه من الصاعقة!
صدى لبنان
23 / 12 / 1951
كلمة نور الدين بيهم عن نبأ الصاعقة
لم يكد الصديق البحاثة الأستاذ نور الدين بيهم يتصل بعلمه نبأ الصاعقة التي انقضت على دار أديبنا الكبير الأستاذ مارون عبود، حتى هرع إلى إدارة هذه الجريدة يبدي أسفه للكارثة التي ألمت بتحف صديقه وصوره، ويعرب عن إرادته في تقديم لوحة زيتية للرسام الروسي الشهير «جيل شيرية» باسمه، وبتمثال خشبي فرعوني يعود عهده إلى 700 سنة ق.م، باسم حفيدته حياة عبد الله سلام؛ عل هاتين التحفتين تعوضان بعض الخسارة التي حاقت بشيخ أدباء لبنان.
إننا باسم الأدب الرفيع الذي يمثله الأستاذ مارون عبود، نحيي الأستاذ نور الدين بيهم. ولعلها أول مرة يحاول فيها «نور» من الأرض أن يرتق ما أحدثه نور من السماء ...
صدى لبنان
23 / 12 / 1951
أخي نور الدين
1
لقد كانت الصاعقة كبيرة كهديتك الملوكية، وأدبك الجم، وعلمك الواسع. يظهر أن الله - سبحانه وتعالى - قد اتصل به - وهو العليم الحكيم - خبر اختراع القنبلة الذرية، فسمح بها وأراد تجربتها في بيتك الصغير في عين كفاع.
أكتب إليك من جو الصواعق، ومن بين أشلاء ضحاياها المبعثرة غير الضارة إلا بالجيب.
فلو كان هم واحد لاتقيته
ولكنه هم وثان وثالث
نشكر الله الذي كبرنا في عين جبروته وجلاله، فرأى أن واحدة لا تكفينا فجاد علينا بثلاثة كأنهن يتسابقن إلى زيارتي، وكأنه يشن غارة طائرات وقاذفات ... ولا بدع في هذا الثالوث الصاعق؛ ألسنا نصارى؟!
ولكن هذه الصواعق الثلاث وقف في وجهها ثلاثة حققوا حكاية بدوي بني صخر، الذي قال لإمام كان يصف لهم في سهرة هول ساعة القيامة والدينونة.
قال البدوي: يا شيخ، في هاتيك الساعة سيدنا موسى لا يكون؟
فأجاب الشيخ: نعم.
فقال البدوي: وسيدنا عيسى؟
فأجاب الشيخ: نعم.
فقال: ورسول الله ألا يكون؟
فأجاب الشيخ: مؤكد يكون.
فضحك البدوي بملء فمه وقال: قم عنا يا شيخ، رعبتنا، هؤلاء ثلاثة أجاويد بوجودهم لا يصير شيء.
وأنا أعتقد أن هؤلاء الثلاثة قد صانوا مقرهم - قاعة الخالدين - فما دخلته شرارة. أما بعد اليوم فأعتقد أيضا أن «بطلك» الذي أبدعه جيل شيرية - الفنان الفرنسي العظيم - سيكون له مع الصواعق شأن يذكر؛ ففي وقفته معان ومعان ... كأنه في وقفته الجبارة الراقصة، يتحدى الصاعقة برأسه ويديه وعينيه وشاربيه صارخا بها: هلمي، أنا هنا.
وكأنه وقد قام على كعب «جزمته» مقعنسا يردد قول ابن كلثوم: حديا الناس كلهم جميعا ... إذا انفختت الأرض أسدها برجلي، وإذا سقطت السماء تلقيتها بيدي. حقا إن الفن الحق الذي نعم به بيتي بفضل هديتك ليخلق المعاني، ويبث الحياة في الظلال فتصير أجمل كثيرا من الحياة النابضة.
أما هدية حفيدتك الكريمة الآنسة حياة عبد الله سلام - صان الله حياتها، وأقر عينك بها، وجعلك جدا لأحفاد أحفاد - فقد جعلتني أومن بوجود «شق أنمار» في الفن كما في الطبيعة، ولكن أين هذا من ذاك؟ ذاك صار ترابا، وهذا لا يزال بعد أربعة آلاف سنة.
لقد شئت بلسان حفيدتك أن تستقبل الظلم الجوي بهدية فرعونية، وهكذا داويتنا بالتي كانت هي الداء، وإذا كانت كل صاعقة وإن أفحشت في المضرة تعقبها مثل هذه الهدية الدهرية؛ فأهلا ومرحبا بالصواعق.
إن عطف الأديب على الأديب لمما يحلو ويطيب. أحياني الله إلى ساعة أستطيع فيها أن أرد تحيتك فقط؛ لأنه لا يوجد أحسن منها، وما أظنه يخيب رجائي بعدما خرجت من محنته هذه كما يخرج النضار من النار.
حقا إن المرء كثير بأخيه، وخصوصا متى كانوا مثلكم يصح فيهم قول شاعرنا:
أولئك إخواني فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وختاما أكتفي بجهد المقل؛ وهو التحية والدعاء.
عين كفاع
31 / 12 / 1951
أخي عبد الله
2
لقد قابلت الصاعقة بصواعق، فحققت قول من قال: جراحات السنان لها التئام.
دخلت أنت من «ثقب الباب» ففعلت فعلك ... أما هي فدخلت من ثقب القبة وراحت تطوف في البيت، ولكنها لم تستلم إلا خطوطا من حديد، وشريطا من نحاس، وأخيرا تدهورت في البئر. وهذا مصير الظالمين المعتدين.
قال الإنجيل: اطلبوا ملكوت الله وبره أولا. أما غير ذلك فتزادونه. ونحن، يا أخي عبد الله، لسنا نطلب إلا ملكوت الأدب - حاف - أي بدون بر، ولا أحاشي من المعروف إلا عطف الإخوان ومحبتهم، وليس في الدنيا شيء أعظم من المحبة.
إني أقول:
أمطري نقمة جبال سرنديب
وسحي آبار تكرور تبرا
أنا إن عشت لا أعدم قوتا
وإذا مت لست أحرم قبرا
فلولا السوط الذي يلهب ظهري وهو كذنب الصاعقة ما كنت كتبت شيئا مما كتبت، ولا استحققت ثقتك وثقة محيي الدين ونور الدين والإخوان جميعا.
جاء في مثلنا: لا تدع لصاحبك بالسعادة تخسره. فأنا أحمد الله - كما قال أخوك محيي الدين - على «الشقاء »، ولعل هذا المثل إذا صح في اللئام فهو أصدق في الأدباء. إن الألم خير مهماز لنا؛ فلتهمز الدنيا وتنخس؛ فالجلد تمسح ...
لقد أجملنا فلنفصل: أنت دخلت إلى نصرتي من ثقب الباب. أما صاحبتنا فثقبت ثقبها ودخلت، واجترأت على خارج البيت وداخله، حتى لم تترك فيه مغرز إبرة إلا صقر المحمدين: محمد الأعظم وجاره يسوع، اللذين حميا «قاعة الخالدين»، ومحمد الأصغر الذي ظلله سميه بشفاعته، فما تجرأت الصاعقة على دخول غرفته.
ولما كان الشيء بالشيء يذكر، اسمح لي أن أروي لك قصة محمدي: «عندما مرض محمد بداء «هزة الحيط»، ويئس الطب منه، استعملت مع النبي الكريم فظاظة الأعراب وقلت له: لا تستطيع أن تحمي واحدا من خمسمائة مليون، سميناه باسمك تبركا وتيمنا! فكأنه
صلى الله عليه وسلم
استجاب دعائي، واكترث لقضية سميه الدقيقة، فشفي. ومن بعد هزة الحيط صارت لبطته تهد الحيط، ومن لا يصدق فالتجربة أصدق برهان.»
لا تلمني على فظاظتي التي اعترفت لك بها، ولست أول من سمعها، بل أنت أول من كتبت له، ولكن لا لوم ولا تثريب؛ فالنبي
صلى الله عليه وسلم
احتمل أكثر منها من غيري.
أما أنا فتعلمتها من راهبات مار يوسف. أما هؤلاء الراهبات فكن إذا شح زادهن، ولم يرزقن خبزهن اليومي، يهرعن إلى تمثال شفيعهن مار يوسف، ويعاقبنه بالوقوف - أوزاريه - عفوا إذا استعملت لغة التانتات في هذه المناسبة. وهكذا يظل مار يوسف موليا وجهه شطر الحائط حتى تأتي الرزقة.
يظهر يا أخي أن الإيمان يرفع الكلفة، وهذا ما حصل عندما أعيا الطب، والحمد لله على حسن النتيجة.
ولنعد إلى «الحربة» التي ماتت في ساحة الواجب، فمن حقها أن تذكر بالخير؛ قد عملت ما عليها ولكن:
تكاثرت الظباء على خراش ... ... ... ... ...
أما الآن فقد حلت محلها واحدة أمنع، ولعلها ترد عن «الحمصي» إذا كان في قميصه ...
إن خسارة تعب عام وعامين تعوض؛ فالحمد لله على أن هذا «الانقلاب» في بيتنا لم يلطخ بنقطة، فهو محتاج إلى «التكريس» من جديد.
صدقني إذا قلت لك: إن ليلة الضيعة كانت سوداء مرهوبة الحمية ... فكثير من البيوت تشققت جدرانها والسرج انطفأت في كل بيت، وحرم الناس النوم انتظارهم صواعق أخرى، ولكن الله رحيم وإن غضب. كانت الصاعقة الأخيرة قاضية على الحربة، وقد ذهب الحمار بأم عمرو ...
وقبل وبعد، فإن ما كتبتموه ليساوي خراج عين كفاع كلها لا بيتا من بيوتها، وإني أحمد الله على أنني وجدت في إخوتكم جميعا ما حقق بيت بشار حيث قال:
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة
يواسيك أو يسليك أو يتوجع
صانكم الله وأبقاكم لأخيكم بالأدب الذي أقمناه مقام الوالد، ولا زال بيتكم عامرا إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
عين كفاع
31 / 12 / 1951
أخي محيي الدين
3
إن ذكراك لي في كل مناسبة، ولفتتك الكريمة أمس في حينها تقيم لي كل يوم حجة على نبل أخلاقك الفاضلة.
أبقاك الله لنا، يا زين الرجال؛ فكلامك بلسم يشفي كل جرح حتى شدوخ الصواعق.
عشت محيي الدين والدنيا، ولا زلت نصوليا يرمي ويصمي.
والسلام عليك ممن يحبك ويحترمك، ويعتد بصداقتك.
عين كفاع
31 / 12 / 1951
أخي محيي الدين متعك الله بالدنيا طويلا
تهنئة حارة - بالعود الأحمد - كالأنفاس الذكية التي تحملها إلينا صفحات «بيروت» من وحي باريز. إذا كان هذا ما توحيه باريز إلى «الشيوخ»، فما عساها أن توحي إلى فتى أغر مثلي إذا زارها ... ويا سلوة الأحباب موعدك الحشر.
وبعد، فقد قرأت في العدد 4307 من صحيفتكم الغراء أنني أحد المرشحين لرئاسة جمعية «أهل القلم» الذين تتجه إليهم الأنظار.
أرجو منك - يا أخي - وأنت ما خيبتني، بعد أن تسأل الله معي أن يرد عني «الأنظار»؛ فلا يصيبني إخواني الأحباء بعين.
أنا لم أتشرف بعد بالانخراط في سلك الجمعية لأرشح لكرسي رئاستها السامية، وسوف أبقى خارجا، لا بل «خارجيا» حتى يهبط هذا الضغط العالي عند بعضهم، وإذ ذاك يكون لكل حادث حديث.
يظهر أن مصيبتنا في أهل القلم أكبر من مصيبتنا بمحترفي السياسة عندنا؛ فلنسأل الزمن أن يطهر عقولنا من هذا «البرص» الاجتماعي. لا أعني إلا حب الرئاسة الذي نعته علينا جريدة التلغراف الغراء، منزهة الأدباء عن هذا الإسفاف.
وقلتم أنتم: «قد تنتخب السيدة إفلين بسترس - مثلا - رئيسة للجمعية، إذا رؤي تحاشي المنافسة بين الرجال»؛ فذكرتموني بكلمة كتبها الخليفة العباسي المستعصم بن المستنصر للمصريين، لما طلب منه ساستهم أن يعترف بالملكة شجرة الدر، قال - غفر الله لي وله: «إذا كانت الرجال قد عدمت عندكم؛ فاعلمونا حتى نسير إليكم رجلا.»
أنا لست أزعم أن السيدة إفلين لا تليق بهذا المنصب؛ فهي في نظري أجدر به ممن يتطلبون الرئاسة ويسعون لها سعيهم في الناس ... ولكنها نكتة جاءت زائرة فاستحيت منها وكرهت رجعتها خائبة.
وأخيرا، ما تقول يا أخي في مجمع يتنازع أهله وهو «ما هف بعد ولا قعد على الرف». إن خير ما يفعل في هذا الموقف هو أن يعمل أهل القلم ما عمله أحبار النصارى في سالف العهد والأوان؛ إذ انتخبوا لهم رئيسا أحد القسيسين البسطاء، فداسوا كبرياء المتعطشين إلى العظمة الفارغة.
إن بضعة أسطر تكتب على حقها لهي عندي وعندك وعند القارئ لا تعادلها رئاسة؛ فليكتب إخواننا أهل القلم ليرى الناس أنهم من أهله.
والسلام.
عين كفاع في 3 آب 1952
بيني وبين أمين الريحاني
لما أسميت ابني محمدا
وجدت في الريحاني أخا رأسي ساعة عرفته عام 1908. أما كيف عرفته فقد سردت خبر ذلك في غير هذا الموضع. جاءنا الريحاني من أميركا صوفيا، ولكن صوفيته كانت غير مائعة فأحببته. جاء من بلاد العم سام ومعه في جرابه «بزور للمزارعين» فألقاها في تربة بلاده، ثم استحالت صوفيته عملا فصار كاتبا نضاليا، فمشيت وإياه ورافقته حتى آخر خطوة، فأعجبني منه تصلبه؛ فلم يكن قط كبعض أصحابنا مع كل خيل مغيرة.
كان أمين أول من حلم «بالجامعة العربية» وسعى لها، وفي كتابه ملوك العرب وغيره بيان ذلك. ولسوء حظه لم يكتب له أن يعيش ليرى ثمرة نضاله، ولكن هذا لا يعني الفيلسوف العامل فهو يحيا للأجيال، وفي الأجيال، ومع الأجيال.
ليس هنا مقام درس الريحاني؛ فلهذا موضعه في كتبي. أما الآن فأقول ما لا بد منه في كتابي هذا، فهو صورة لقضية لم أدع التبجح بها إلا حين صار القول فيها مباحا، وكثر المدعون، وحام حولها المتذبذبون الاستغلاليون ...
أسميت ابني محمدا عام 1926، فكان الريحاني أول من طرب وانتشى لهذا العمل. أدرك أبعد مداه؛ فكتب إلي هذا الكتاب:
أخي مارون عبود
أصافحك بيدي الحب والإعجاب، وأهنئك بصبيك الجديد، وأهنئه باسمه الأجد، وبالقصيدة التي نظمتها له ولهذا الوطن الغني بالأديان، الفقير بين الأوطان.
أحسنت يا مارون، أحسنت وخير الآباء أنت.
وحبذا في المسلمين وفي الدروز وفي اليهود من يقتدون بك فيسمون أبناءهم بأسماء آبائنا القديسين، ونسمي أبناءنا بأسماء أبنائهم الأولياء؛ فينشأ في هذه البلاد جيل جديد من الإخوان - الإخوان الحقيقيين - الذين لا يعرفون من أسمائهم أنهم لأحمد أو لموسى أو للمسيح، بل لا يعرفون خارج المعابد أنهم مسيحيون أو مسلمون أو موسويون.
إن المستقبل لهذا الجيل من الإخوان، وفي مقدمتهم محمد بن مارون بن عبود اللبناني - حرسه الله.
أخوك أمين الريحاني
الفريكة، لبنان
11 نوفمبر سنة 1926
وتلت هذا الكتاب اجتماعات عديدة بيننا دبرت فيها خطط غايتها «التوحيد» - أعني من التوحيد القومي منه - فكان أمين رسولا، وكنت أنا معلما، فعملنا ما عملنا ولا فخر.
وكان العام 1934، فدعيت وأمين لنخطب الناس، وكان الداعي لي تلميذي الأستاذ معضاد معضاد، فتخلفت أنا ولبى أمين، فلم يكد يخرج من الحفلة حتى قبضت عليه السلطة ونفي من البلاد، وبعد قليل من الزمن عاد أخونا أمين إلى الفريكة فكتبت إليه:
أخي أمين دمت عزيزا مشرفا
ما أدري كيف عدت! أتائبا كداود أم متمردا كأبيشالوم؟ واليد التي أعادتك، أقفازها من فراء الهررة وريش الديوك، أم من جلود الأسود والنمور؟ أم الجنة لا يدخلها إلا من توسل إلى الله بأحد القديسين الاختصاصيين كالخضر وغيره ...
يا أخي أمين، خبرني، أليس الانتداب في كل مكان، حتى السماوات في كوخ الفقير وقصر الملك، طورا تنتدب الأناس وتارة الإناث ...؟
فإلى أين يا أمين، أإلى القبر؟ ففيه انتداب منكر ونكير، أإلى السماء؟ ففيها انتداب بطرس ورضوان، وفي هذه الأرض يتنازعنا الملاكان ... وفي جهنم لوسيفوروس وأصحابه ذوو الأذناب والقرون ...
فما أرى هذه الأمة إلا مفلتة من نير لتقع تحت النير، وما شكر السوق إلا من ربح. لا يثير شجوني شيء، يا أخي، كالذين غرقوا حتى الآذان في لجة الفرنك، حتى إذا انقطعت الجراية كفروا بالفرنج، ولا أدري إذا كانوا يندمون كبطرس عند صياح الديك.
ألا رحم الله ابن الرومي حين قال يهجو إسماعيل بن بلبل:
تشيبن حين هم بأن يشيبا
لقد غلط الفتى غلطا عجيبا
فما أكثر المرتدين في هذه الأرض - وإن إلى حين - ونحن كرجال الدين نعد الارتداد هداية وهو وليد الغاية! والغايات أكثر عجائب من الليالي.
عللت النفس برؤيتك في العراق فإذا بك تعود إلى الفريكة، فهنيئا لك ربيعها الضاحك كسنك، وإن خلا من سخريتك، وأنعم بمنظر سنابلها الطريئة! فكل ما على «أرضنا» فريك ... الحصاد كثير والفعلة قليلون؛ فاطلب ما شئت من رب الحصاد.
قرت بطلعتك عين «عجوز منبج» يا أبا فراس، وعليك ألف سلام من أخ يشتاقك وهو جد مؤمن بوفائك ومروءتك وإبائك.
عين كفاع
22 / 4 / 1934
أما جواب أمين فكان حاميا، ولكنه استحال في قلبي بردا وسلاما. وإليك نصه:
أخي مارون - حفظه الله
وأبيشالوم، إنك مازح في كتابك الجميل إلي، أو إنك هازئ يائس، ليس أخوك ممن ينشدون المثل الأعلى في الزبور، ويقتدون بمن غير فكره عند صياح الديك، فقد عدت إلى الوطن لأني مثل الذين أبعدوني أحب هذا الوطن، ومثلهم أحب أن أقيم فيه على الدوام.
وإننا نحن - والله - المقيمون على الدوام لا هم. أجل إنني أعلم وأعتقد وأتيقن وأتأكد أن سيجيء اليوم الذي يرى فيه المستعمر الأثيم حاملا بندقيته ومدفعه وطبله وزمره - وكيسه الفارغ - وراحلا راحلا.
البرهان؟ الدليل؟ أنا وأنت والقلائل الكرام، إخواننا في كل مكان، البرهان؟ الدليل؟ مدرستك وتلاميذك، ومدرستي السيارة وتلاميذي، وذريتهم وذريتنا، وإيمانهم وإيماننا، وجهادهم الذي سيكون أضعاف جهادنا شدة وانتشارا، لا يريبنك ذلك.
فلا تزال الشعوب سائرة إلى الأمام.
ولا يزال الإنسان عاملا جادا في سبيل الرقي في كل مكان، ولا تزال البنود الحمر تخفق فوق رواسي الفكر والأمل الخالد يشع حولها.
ولا يزال الله على عرشه حيا يرزق.
عفوا يا أخي مارون، ما جئت أقرع الطبول في حزنك، ولا جئت أعزيك بوفاة الوالد - رحمه الله - وسيرحمه الله، وكيف لا يرحمه وأنت ابنه؟ بل سيكرمه لأنك ابنه، لا يريبنك ذلك.
إن يقيني بما سيكون لأشد جدا من يقيني بما هو كائن. الغد لنا يا مارون، الغد لنا هنا وهناك.
والسلام عليك من أخيك المشتاق إليك.
سلم على الأخ الرئيس والإخوان زملائكم. دمتم متمردين فيما تعلمون، موفقين فيما تزرعون.
أمين الريحاني
الفريكة، لبنان
في 11 نيسان 1934
أيها الأخ الحبيب لبيب الرياشي
أقبلك مشتاقا إليك، وبعد: فأسميت ابني محمدا؛ لأن لسميه النبي العربي مقاما ساميا في نفسي، وأحبه حبا جما، وأعجب جدا بشخصيته الفذة، ولأنني كرهت - حتى الاشمئزاز - أن تكون أسماؤنا مثل «تذاكرنا». نعم، كرهت أن يكون اسم ابني طائفيا كاسمي؛ فرأيت أن أمزج الاثنين عملا برأي الأخطل التغلبي ... وأنا مطمئن كل الاطمئنان إلى هذه الأسماء، وفي اسمه - جوابا على سؤالك - كل التأثير عليه، وعلى إخوته، وعلى البيت، وعلى الضيعة، وعلى المحيط.
لم أعمد أحدا يا أخي من أولادي، ولكن والدي عمدهم جملة في غيابي. وهذا الوالد الطيب المتساهل كان أول المؤمنين برسالتي - إن صح التعبير - وهو أول من سايرني فتبعه الناس.
تسأل ماذا قال الكاهن؟ الكاهن كالعادة المألوفة عندنا أسماه «بالكتاب» ... نسيت والله، ذكر هذا مرة أمامي وامحى أثره. وقد كان نصيب أخويه نديم ونظير كنصيبه من تغيير الاسم؛ لأنني - كما لحظت - لم أسم أحدا على اسم الآباء القديسين، رزقك ورزقني الله شفاعتهم آمين ...
أما «التثبيت» - وهذا فاتك السؤال عنه، وهو سر من أسرار أمي وأمك الكنيسة المقدسة - فلا يقوم به إلا أسقف، فالمطران إلياس شديد - أحببت جدا هذا المطران وأعظمت مسيحيته وإنسانيته - «ثبته» باسم محمد مارون، في غيابي، على سمع الناس وبصرهم في كنيسة مار روحانا عين كفاع. لا تظن أنني أحببته لأنه جاراني. لا وحياتك يا أخي، ولا أشك أبدا أنك إذا عرفته لتحبه مثلي. فالحق أقول لك: لو عرفه النابغة الذبياني لم يقل «أي الرجال المهذب؟» إنه لا يكلفك شيئا من تقاليد الكتبة والفريسيين ... خارج هيكله. ولا أشك أنه يستقبل ربه بقلب نقي، ويبسط إليه يدا نظيفة ...
القصيدة، يا أخي، طبعت في أقطار عديدة. وها أنا أبعث إليك بنسختين لدي غيرهما؛ واحدة بيروتية، والأخرى شامية.
افعل ما بدا لك، وكن مخلصا للفن، وإياك أن تنصر أخاك ... الفن للفن، والصداقة في حرز حريز، يا لبيب.
والسلام عليك وعلى أهلك من أخيك العتيق.
عاليه
22 / 5 / 1935
أحمد فارس الشدياق
أخي الأستاذ الأديب المحترم
1
لا تسل عما أحدث كتابك الكريم في نفسي من التأثير. إني لا أستغرب هذا منك وأنت أديب ذاك البيت الكبير الذي يقدر الناس، ويحترم أعاظم الناس الذين يستحقون الاحترام؛ كشيخنا الأكبر علامة عصره بلا منازع أحمد فارس الشدياق.
كلك جميل يا جميل، ولا شك في أن عظام النابغة كانت تهتز جذلا عندما كنت تكتب إلي، فهل لي أن أفوز بإذن منك في نشر رسالتك إلي مع التعليق عليها، فتكون إحثاثا للناس واعترافا بفضل المرحوم جرجس صفا، الذي أجل علمه وأحترم شخصه كل الاحترام؟
وهل تتفضل علي بإرسال عدد من جريدة بيروت الغراء لأطلع على ما كتبت حول الموضوع فأشكرها؟
أنا بين يديك يا سيدي الأخ، وسأتشرف بزيارتك ليلة العيد المبارك أو يومه، فأقوم بواجبين مقدسين في وقت معا.
تفضل علي بالجواب، واقبل تحيتي مقرونة بشكري الجزيل مع المصافحة الأخوية، لا زلت سباقا لكل كريمة. وفقنا الله بمعونتك إلى خدمة الأدب الصحيح، والسلام عليك من الداعي لك.
عاليه
5 / 12 / 1936
الأخ الفاضل شكري
2
لا شك في أنكم تعلمون مكانة شيخنا الأكبر أحمد فارس الشدياق ومنزلته العلمية والأدبية؛ فهو أبو النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر، وأكبر رجالها الذين يفاخر بهم لبنان.
كتبنا عنه ما كتبنا في جريدة صوت الأحرار التي أرسلتها إليكم اليوم خصيصا لتطلعوا عليها، وسنواصل الكتابة عن هذا النابغة المفرد لنذكر أمته به؛ فقد كادت تنساه.
دعونا الناس كما تقرءون إلى الاحتفال بذكرى الخمسين له في العام القادم ، وأكبر آمالي معلقة عليكم؛ نظرا لما لكم من الأيادي البيضاء على إحياء ما به مجد لبنان، الذي يفاخر بأمثالكم من بنيه.
لا أقترح عليكم شيئا؛ فأنتم أدرى، ولكنني أسألكم الاهتمام الجدي بذكرى أحمد فارس الذي آثر وحشة الحازمية على قصور الآستانة. ومتى أردتم رفعتم رأسنا عاليا، وهذه مأثرة تسجل بين مآثركم الغالية.
دمتم نصيرا لنا، وعونا للأدباء الذين ليس لهم من يذكرهم. وفي الختام، أصافحكم وأدعو لكم من صميم القلب.
الداعي لكم
حاشية : يا حبذا لو صحت الأحلام فيكون الاحتفال بذكرى فارس الشدياق مظهرا من مظاهر مجد لبنان، ونرى بيننا شكري الخوري؛ الرجل الذي نفتخر بإخلاصه وجهاده.
عاليه
24 / 11 / 1936
من يوسف يزبك إلى مارون عبود
لا أعلم كيف أشكرك يا أستاذنا الوقور وإمامنا الجليل على الجهد الذي بذلته - وما تزال تبذله - لإنصاف الفارياق،
3
ولا أعلم بأي قلم وفي أصوغ لك آيات الثناء على الفصول القيمة التي نشرتها - وما تزال تنشرها - منذ ثلاث سنوات حتى اليوم عن مهجور الحازمية، وعلى المروءة الشماء التي أبديتها في كل ما كان له علاقة بإيفائه حقه، حتى بتنا نعتقد أنك أنت ابن الشدايقة الذين حصلوا على خيره العميم وآثاره الخالدة، وأنك أنت الوارث من أبيك وجدك من آل الشدياق سمعته الداوية، وأنك العائش بمكانة هذه السمعة ونفوذها كما عاش أبناء أعمامه وأبناؤهم وأحفادهم، وحتى بتنا نعتقد أن مارون عبود إنما هو وحده الباقي من سلالة الذين رفلوا بها.
أقول هذا ولا أغفر لبني خئولتي - وهم أحفاد المروءة والهمة - تقاعدهم عن البر بذكرى مفخرتهم، وتاج رأسهم، وولي نعمهم. وإذا كنت تعتب، يا أستاذنا، على أحدهم؛ لأنه تراجع «لأسباب ما نزال نجهلها، وقد تكون صوابا» عما وعد به من مساعدة مالية للجنة اليوبيل؛ فاعلم أنه يبعد في نسبة ثماني درجات عن حجة اللغة،
4
وأن لأحمد أقربين هم أولى به منه، ناهيك بأن متبرعنا الكريم «الراجع عن غيه» مغترب ناء عن ذويه لم ينعم مثل معظمهم بالمكانة التي خلقها منشئ «الجوائب» لآل الشدياق في وطنهم، ولم يستغل ظروفها ... وإنما وصل إلى بسطة العيش بجده واجتهاده.
ولو شاء القدر لظل في بني الشدياق نوحهم الذي كان وحده يصلح لأن يحمل اسم نديم الملوك، ويرثه ويرث مجده، ويفيء على مواطنيه بكبر فضله، وكرم يده، وبياض عمله: عنيت العلامة الألمعي، والعصامي العبقري، شيخ الفضل والأريحية، ورجل الإقدام والوطنية القس يوسف الشدياق؛ من إذا عدت الرجال في قومه عد بالقوم جميعا.
ولكن جليلنا المفضال كاهن نذر نفسه لرحمانه لا لدنياه، فاحترامه تقاليد كنيسته أوجب حجب عطفه عن ذويه، في مثل هذه الحالة وهو الرحيم بهم، والجواد عليهم في كل آن، وأن ورعه لا يشجعه على القيام «بواجب» يحن في أعماق قلبه إلى تحقيقه، ويعلم أن رجال الدين الكاثوليكي لا «يستحسنون» صدوره عن كاهن كاثوليكي، وليس على القوم من حرج ...
وإذا قصر الشدايقة في شكرك؛ فأنا معوض عنهم: بارك الله بنبل وفائك يا أستاذ، واعذرني على فقري في التعويض؛ فلا خيل عندي ولا مال، ولا أقل من الدعاء من الأعماق بطول بقائك دعاء صادقا ليس فيه من بضاعة أصحابنا ... الداعين لجميع الناس، وفي جميع المناسبات ...
ولو أتيح لي شرف الانتساب إلى أدبك الخطير، وكنت صفحة صغيرة على «توراته المشلعة»؛ لحق لي أن أقترح على حملة الأقلام مبايعتك خلافة أحمد، فأنت فيهم - كما كان الإمام في زملائه - الفارس الذي لا يشق له غبار.
متى ولد الفارياق؟
أما بعد هذه المقدمة اللازمة، فأرجو أن تتلطف، يا أستاذي، وتساعدني على إصلاح بعض أخطاء ترافق ترجمة الفارياق، وأولها تاريخ ولادته؛ فقد ذهب مترجموه إلى أنه ولد في عشقوت سنة 1804، والواقع أن والده لم ينتقل من الحدث إلى تلك البلدة الكسروانية التي كانت موطن أجداده إلا سنة 1805، وقد أشار شقيقه طنوس إلى ذلك بقوله: «... وسنة 1805 استدعى الأمير حسن عمر الشهابي يوسف «والد الفارياق» لخدمته، وأمره أن يتوطن في كسروان، فاشترى يوسف دار أبيه ودار الشدياق في عشقوت من بنت الشيخ صليبي الخازن ووالدتها، ورحل إليها ...»
5
قلت: والبيت المشار إليه بقيت منه بعض أحجار ضخمة في زاويته الغربية تقوم اليوم عليها مدرسة آل سعد الكرام، الذين أنجبوا للبنان رجالا من أعظم مفاخره؛ وهم أبناء أعمام الشدايقة.
أما رواية طنوس أخي الفارياق فنستنتج منها ما يأتي:
إما أن يكون التاريخ الشائع عن ولادة فارس 1804 صحيحا، فيجب عندئذ أن تكون هذه الولادة في الحدث وطن الشدايقة الذي لجئوا إليه سنة 1737، وإما أن يكون الفارياق قد ولد في عشقوت حقا موطن أجداده سابقا، فيجب أن يكون تاريخ هذه الولادة إذن سنة 1805 على الأقل؛ أي بعد أن استدعى المير الشهابي والده لخدمته «وأمره أن يتوطن في كسروان». وإني أرجح هذا التقدير الأخير، ولا بأس أن نذكر بالمناسبة المأساة التي سببت نزوح بني الشدياق إلى الحدث، بعد أن كانوا قد نزحوا من مزرعة بيت قصاص إلى عشقوت وتوطنوها منذ سنة 1650، واستقروا فيها ثماني وثمانين سنة.
قال مؤرخهم طنوس: «... وسنة 1737 طلب الأمير ملحم حيدر شهاب «حاكم لبنان» من الشدياق أن يقرضه قليلا من المال، فاعتذر بأنه معسر، وفي غضون ذلك اشترت زوجة الشدياق بستانا من ثمن مصاغها، فقال أحد حساده للأمير: ها إن الشدياق اشترى بستانا ودفع ثمنه بعد طلبك منه القرض، فكيف يعتذر ويدعي الإعسار؟ فغضب الأمير عليه مصدقا كلام الوشاة، ومن غير أن يسأله عن الكيفية وضعه في محرس منفردا، فاغتاظ الشدياق من ذلك جدا حتى إنه ذات يوم وهو في الكنيف ضرب بطنه بسكين فخرقه، فأغمي عليه، فلما أبطأ كشفه الحارس فرآه مطروحا على الأرض، فمضى مسرعا وأعلم الأمير، فأمر «الشهابي» أن يحضروا له طبيبا، فحضر فعالجه فلم يشف، بل توفي وله ولدان: ضاهر وخطار، فتأسف الأمير عليه؛ لأنه كان ذكي الفؤاد، نافعا له بحسن تدبيره، شجاعا، حسن الخط والإنشاء، بارعا في الحساب. بقي مدبرا عند والده
6
سبع سنين، وعنده ثماني سنين. وإذ لم يتأكد براءته قبض على ولديه ضاهر وخطار وابن أخيه منصور، وضبط مالهم وخيلهم وسلاحهم، ثم أمر بإطلاقهم وإرجاع بعض عقاراتهم، ووهب داري الشدياق وابن أخيه منصور في عشقوت للشيخ ابن صليبي مرعب الخازن، فارتحل منصور إلى حارة حدث بيروت ببعض أقاربه فتوطنوها ...»
7
قلت: ومنصور هذا، ابن أخي الشدياق المذكور، هو جد الفارياق لوالده يوسف.
البطرك مسعد والفارياق
أما القصة التي نقلتموها عما جرى بين الفارياق وابن خاله البطرك بولس مسعد في عاصمة آل عثمان، فيلزمها بعض التصحيح، والذي أعرفه وقد سمعته مرارا من عجوزات الشدايقة؛ أي من عمات والدتي اللواتي ربيت في أحضانهن، ومن بنات أعمامهن اللواتي مرحت طفلا في بيوتهن، أن ابن عمهن فارسا هو الذي سعى لدى أولي الأمر في العاصمة، «وقد كان من مسموعي الكلمة عندهم، ومن المقربين إلى الباب العالي» باستئجار قصر للبطرك القادم إلى إسلامبول قبالة قصره، فلما حل رئيس الموارنة في جواره نهض أحمد فارس مبكرا، وأخذ «يشوبح»
8
بالسريانية من الشرفة المقابلة، فاستغرب البطرك أن يرتفع في دار الخلافة وبين الجوامع والمآذن، وفي عاصمة التكبير والتهليل صوت يرتل بالسريانية، وسأل مرافقه عما يكون هذا «التشوبح»، فأجابه أحدهم بالنكتة المشهورة: «شايفلك، يا سيدنا، هيدا شي واوي عتيق!»
وثابت عند قدماء الشدايقة الذين عاصرو الرجلين العظيمين الداهيتين أن البطرك بولس لم يقر عمل زميله الحبيشي في حبس أخي الفارياق «أسعد» ذلك الحبس القاسي، وأنه سفهه إذ اجتمع بابن عمته، وثابت عندهم أيضا أن أحمد فارس قال ساعتئذ للبطرك كلمة تاريخية: «ولن أخجل بعد الآن، يا ابن خالي، أن أكون مسيحيا مارونيا ...»
وشائع أيضا عند الشدايقة - وانتبه يا أستاذي إلى هذا الخبر الخطير - أن نسيبهم أحمد فارس رجع إلى دين آبائه، وقد مات وذخيرة عود الصليب في عنقه ... وهذا ما سأبسطه في مقال خاص.
فقولكم: إن الشدياق أبى زيارة ابن خاله في الآستانة «إن لم يعترف بخطأ سلفه البطرك الحبيشي،
9
فتعقدت مساعي التقريب بينهما؛ لأن البطريرك لا يستطيع ذلك، فالذي فعله الحبيشي في ذلك الزمان كان واجبا دينيا رعائيا.» إن هذا الرأي لم يكن رأي البطرك مسعد؛ أعقل وأخطر زعيم عرفته الملة المارونية «وهيهات أن ينجب لبنان مسعدا آخر»، وإنما هو رأي يقول به المطران عبد الله الخوري في أيامنا هذه على ما اتصل بي.
وثق يا شيخ مارون وأنت مثلنا الجبلي الأصيل من عظام الرقبة، والعارف مثلنا نفسية وطننا الصغير الجميل، ثق لو أن البطرك كان يومئذ غير حبيشي «أو غير خازني» لما تجرع أسعد ذلك العذاب المرير. ولعلك تذكر عن أبيك عن جدك أن أسيادنا الإقطاعيين ما كانوا يتحملون أن يرد أحد عبيدهم في وجوههم، فكيف بهم إذا كانوا إقطاعيين مزدوجين - إقطاعيتهم اجتماعية روحية - وكان ذلك العبد جريئا حرا شبعان من حليب أمه كشهيدنا أسعد؟
ثم إني أعتقد أن القرابة بين مسعد والشدياق
10 «ثم التحاقد بين مسعد والبطرك الخازن «خلف الحبيشي» على أثر تزاحمهما على البطركية»، والثورة التي كانت تتأجج في صدر مسعد على العهد الإقطاعي الذي ساد لبنان، ونال منه سوء عظيم، «ولعلك تذكر أن الميزة «الوحيدة» التي جعلت المطران الخازن يجلي في ميدان السباق إلى الكرسي الأنطاكي، ويقهر مزاحمه مسعد الجبار إنما كانت إقطاعيته وثروته.»
قلت: إن هذه الأسباب كلها كانت من أشد العوامل التي حملت البطرك بولس على تسفيه فعلة سلفه الحبيشي ... فالقول إذن بأن «الذي فعله الحبيشي في ذلك الزمان كان واجبا دينيا رعائيا» إنما هو قول نعرف قيمته، فلا يجوز حشره في مثل هذه المناسبة؛ لئلا يحمل الناس على الاعتقاد بأنه كان رأي مسعد العظيم.
الشهيد هو أسعد وحده
ربما أننا ننصف الناس وننصف التاريخ أيضا، فمن الواجب أن نتحفظ في الحكم على أبي الفارياق وجده اللذين جعلتهما مع أخيه أسعد «شهداء حرية الفكر والميل (ص3، عمود 3)»، فأبوه «يوسف» وجده «منصور» كانا، ولا سيما الأب، فرسي رهان في «المرونة» السياسية. وقد جارى يوسف معظم الشهابيين المتزاحمين يومئذ على كرسي العبودية والاستعباد. وفي سنة واحدة (1804)، لعب على حبلين متعاكسين ... وإذا كان شهيد حقيقي في بني الشدياق، بل في جبل لبنان، وإذا كان من لبناني شرف وطنه وأمته العربية بتسجيل اسميهما في تاريخ البلدان والأمم الحية التي تنجب شهداء حرية الفكر؛ فذلك اللبناني الشريف الذي ينحني أمام ذكراه كل شريف إنما هو أسعد؛ أسعد القديس الطوباوي الخالد. وأما أبوه وأما جده فكانا في السياسة وتمشية الحال شاطرين، وقد فعلا ما فعله مواطنوهما في عصرهما والناس على دين ملوكهم.
على الهامش
أولا:
طنوس الشدياق لم يكن قاضي النصارى عندما بعث إليه أخوه الفارياق من لندرة برسالة يعنفه بها؛ لأنه لم يذكر مناقب أخيه أسعد في تاريخه، ولم يكن قاضيا على الإطلاق. ومن المستغرب أنه لم يشتغل في القضاء مع أنه اشتغل في كل شيء.
ثانيا:
إن تاريخ الرسالة التي كتبها الفارياق من مالطة في 8 محرم 1255 يوافق 3 نيسان 1839، على ذمة تقويم البشير.
وتكرارا أبثك شوقي وإجلالي وشكري يا شيخ الأدباء، وسيد المنصفين الأوفياء، راجيا أن ينصفك بنو قومك في حياتك، التي أتمنى طولها وازدهارها وتوفيقها من صميم القلب.
أخوك المخلص يوسف إبراهيم يزبك
الحدث
من مارون عبود إلى يوسف يزبك
يا أخي يوسف
لا أدخل الموضوع الذي يخصني من مقالك الشائق؛ لئلا يكون كلامنا من صنف حك لي أحك لك ... ولكني أجيب عن بعض نقاط في الموضوع أولها تاريخ الولادة.
أنت محقق أكثر مني في تاريخ لبنان عامة، وتاريخ هذه الحقبة خاصة؛ لأن وثائقها الخطية تحت يدك، ولا أنسى قصتك الرائعة - ليلة عيد الميلاد - عن ثورة كسروان، ولا أنسى أيضا يوم تلاقينا في «دار المكشوف» وكنت تتأبط خيرا؛ أي نسخة تاريخ طنوس الشدياق الأصلية. أما المكان فنحن غير قاسمين فسيان عندي عشقوت والحدث والمتن وكسروان، فالرجل ولد بلا شك، وإن نقص من عمره عام؛ فعام الجبار سنون من حياة الأقزام.
أما أنا فاعتمدت، في تحديد الظرفين، العلامة الدبس (الجامع المفصل، ص534)، والدبس من أصقاء شدياقنا وعارفي فضله.
أما المارونية فلا يعني أدب الشدياق منها شيء؛ إذ ليس هناك أدب ماروني على كثرة أدباء الموارنة، بل هناك أدب من محصولات هذا الجبل كما نقول: بن عدني، وتمر عراقي، ورز مصري وهلم جرا.
وما افتخاري بالفارياق وأنا وأنت وكل أديب أقرب إليه من أهله، إلا كافتخار رجل بابن ضيعته، وما لبنان إلا ضيعة من ضياع الأدب العربي، والذي أسميه هنا ضيعة هو القطر بكامله.
فلندع فينيقيا للمتفينقين ، والفرعونية للمتفرعنين، وحسبي وحسبك لساننا المبين، فما يزدريه إلا الذين هم أعداء لما جهلوا ...
أما طنوس، فالأب شيخو اليسوعي قلده منصب القضاء (الآداب العربية في القرن التاسع عشر، جزء أول، ص106، س3)، ولدي مكتوب يوصي به الفارياق بأخيه طنوس الذي هو «من رجال السمت»، ولكن المنصب الذي يرشحه له غير مذكور.
أما البطرك الحبيشي فدين، والدين لا يخلط بين كهنوته ومشيخته.
أما استبداده فلا أنكره، وكيف أنكر وقد قرأت - لا أذكر لمن: «تحت ثوب كل كاهن حاكم مستبد»؟
وكيف أنكر وقد تمرست بالكثيرين منهم؟ ولكن هذا الاستبداد لا ينفي: «إنما الأعمال بالنيات.» فكم في التاريخ ممن اعتقدوا أنهم بالاضطهاد قدموا لربهم ذبيحة كما اشترطت التوراة: لا عمياء ولا عرجاء ولا ضعيفة ...
أنا أدافع عن الحبيشي ومقياسي القصبة والباع والقامة، لا الإنش ولا السنتيمتر، ثم لا ننس أنه كان يحكم الجبل دينيا إلى جانب المالطي الذي كان يحكمه مدنيا.
ولا ننس أيضا أن الكنيسة كانت تساس في ذلك الزمان بالعنف، ولو كنت أنا وأنت يا أخي يوسف في ذلك العهد لزرنا قنوبين وسراي بتدين ...
إن المثل الأعلى يتبدل، وما نراه اليوم حقا قد يصير بطلا.
ماذا تريد من بطرك أن يفعل وأحد أساقفته؛ المطران بطرس أبو كرم، أسقف بيروت، يصدر رسالة رعائية أطول من يوم الجوع، صفحاتها 85، وتطبعها رومة سنة 1830، وما هذا المنشور غير رد على يونس كين صاحب أسعد؟
والكتاب عندي أنشر هنا أولى صفحاته للتاريخ والعبرة:
رسالة رعائية
مؤلفة من السيد الجليل بطرس أبو كرم؛ مطران بيروت الماروني الكلي الشرف والاحترام، منفذة منه إلى أبناء رعيته خصوصا، وإلى غيرهم عموما؛ دحضا وتفنيدا كاثوليكيا للمكتوب الأراتيكي، المحرر في 5 أيلول سنة 1825، من الرجل البيبليشي الأماريكاني الضال يونس كين، الذي بعد أن ذهبت سدى اجتهاداته، وحيل أرفاقه الأراتقة في أن يجذبوا إلى ضلالهم المبين بعض الأشخاص البسيطين من سكان جبل لبنان وغيرهم. وكان قدس السيد يوسف حبيش؛ بطريرك الموارنة الأنطاكي الكلي الطوبي، ومثله كثيرون من الرؤساء الكنايسين نهضوا لمقاومة هؤلاء المضلين، وبددوا وأحرقوا كتبهم ، فهو؛ أي يونس كين، حين سفره من بيروت، قد أشهر المكتوب المرقوم بصفة وداع منه إلى أحبابه في بلاد فلسطين وسوريا، ومن ثم التزم السيد المطران المذكور بأن يدحضه في هذي الرسالة، التي قد طبعت الآن بإذن الرؤساء في مطبعة مجمع انتشار الإيمان المقدس في مدينة رومية سنة 1830.
وللبطرك الحبيشي رسالتان نشرت شيئا منهما على صفحات «صوت الأحرار» الغراء.
يا ليت شعري لو كان الحبيشي اليوم، أما كان كالبطرك أنطون الرجل الحكيم الواسع الصدر؟!
بلى، ولكنه لم يكن. وهنا فقط يصح لوم الزمان، ولو خالفنا الشافعي.
قد فعل الحبيشي ما فعل معتقدا أنه يقدم لله قربان هابيل، وليفعل قايين ما يشاء.
لست أجهل أن الحبيشي كان شيخا إقطاعيا، وأذكر ولا يزال يرن في أذني خبر ما وقع بين العلامة بولس مسعد والخازنين حين صار بطريركا.
أراد أحدهم أن يلبسه الجبة حسب التقاليد، ولكنه أبى ولبسها وحده بلا معونة ... كما لبسها سلفه الخازني من قبل.
سمعت كل هذا يا أخي الحبيب، وأسلم بأن الحبيشي كان صارما لا يمشي على الهينة. كان سيلا جارفا والويل لمن يفتح فمه.
خبرني جدي أخبارا عديدة تدل على حزم الحبيشي وبطشه يوم كانت عصا جدي سيفا في ظل رئيسه ... وأحيانا كنت أسمعه ينفخ نفخة تذري بيدرا، آسفا على سلطانه المفقود، ناعيا على الرؤساء رخاوتهم.
في عين كفاع رجمة طالما قرعها جدي بعصاه في طريقنا إلى الكنيسة، ووقف يقول لي: هنا مدفون ديب الكريدي المحروم، قتله الجزيني لأنه عاص ما خضع لأمر المير والحبيشي.
والحرم، يا أخي يوسف، مثل البطيخ منه كبير ومنه صغير. أما حرم العم ديب فكان «كبيرا يخرق جسمه كالزيت في الصوف، ويحل على صاحبه الغضب الذي نزل على التينة ...»
كل هذه القصص لا تدفعني إلى لوم الحبيشي، ولا تحملني على «تسفيه» رأيه في الأمس. أما اليوم فكلنا على دينك، ولا أستثني الشيخ فؤاد حبيش؛ صاحب «المكشوف».
كان للطائفة في ذلك الزمان آراء مختلفة جدا عما نراه اليوم؛ فالآباء اليسوعيون جاءوا عمشيت قبل غزير فطردوا منها، ولم يقبلوهم غير مبالين بقول يسوع: «من قبلكم فقد قبلني.» وعمشيت ضيعة مارونية من أبرشية غبطته. أما اليوم ففي عمشيت من هذه البضاعة أشكال، والمطران طوبيا عون، وهو الذي جلس على كرسي المطران أبو كرم، أهدي تمثالا من الغرب، فاستبشع الهدية، وأبى أن ينصب في كنيسته صنما، وظل التمثال «المقدس» نائما في القبور حتى أيقظه الدبس من رقدته، وفتح الأبواب الدهرية ليدخل ملك المجد.
وماذا تقول في خوري ليس من المتقدمين في الأخوة، مع أنه بعل امرأة واحدة، يأبى وحده ويبقى طويلا لا يختم قداسه بالسلام الملائكي ولا «السلام عليك أيتها الملكة أم الرحمة والرأفة»؟
ذلك الخوري هو جدي لأبي. ما أمتثل لمشيئة روما العظمى مع أنه كان يقول كل ساعة: «إيمان بطرس إيماني.»
استغرب أن يزاد على «النافور» (كتاب رتبة القداس) حرف، ولو كان الأمر من بابا رومية خليفة الله المعصوم.
وأغرب من ذلك أن هذا الخوري مات ولم يسلم بأن لقلب يسوع - دونه كله - عيدا مخصوصا، وكم كان يهز برأسه هزا مضحكا حين يختم كهنتنا الجدد الذين يكهنون في فلسطين قداسهم ب «يا قلب يسوع الأقدس»!
وكان يستهجن أن يقدس حفيده الخوري يوسف الحداد همسا، وجدي جده يريد القداس جهوريا، صغيرا كان القداس أو كبيرا.
على الخوري أن يسمع الشعب ما يقول، ولو في السريانية التي لا يفهمونها.
كم أزعجني وأنا شماسه الصغير بهذا التطويل! وكم آثر الناس قداس غيره على قداسه لهذا السبب!
ماذا أقول لك بعد؟
على هذا الرجل الذي ربيت في حجره، وشهد له الناس بالتقوى، قست سيده الحبيشي، فهو الذي سامه كاهنا، وفسح له من العجز؛ أي صغر السن.
وبراءة التفسيح والسيامة محفوظة عندي.
أنت تعرفني لا أعمل برأي أحد. عشت وسأموت بعد عمر طويل على هذا الرأي النحس الذي خرب بيتي.
وما عذري اليوم يا بو يوسف ونهار المشيب يضيء الطريق قدامي؟
لك أن تقول في إن شئت: «وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده.» أما إذا أخطأت ؛ فكالحبيشي عن اعتقاد لا يشعر به سوء نية.
أما أسعد فأنا من «مطوبيه»، وقد جاهرت بذلك أكثر من مرة.
إني أعظم حريته وجرأته، والذي اتضح لي من حواره مع رجال الدين أنه نزاع إلى الإصلاح والتهذيب البيعي، وله مطالب دينية لخير الرعية (قصة أسعد الشدياق، ص44).
والرجل في كل حال سابق لعصره. وهذه ميزة النابغة أخفق أو أفلح.
شكرا لك، يا أخي، على ما لاحظت. أما أسعد والحبيشي فهما الآن معا عند الذي في بيته منازل كثيرة.
رزقني الله وإياك منزلا صالحا ليس ككوخ الحطيئة في آخر الجنة.
عاليه
1938
كتاب وجواب
سيدي الأستاذ الكبير
1
تلقيت كتابكم الكريم، وتمنيت لكم توفيقا في مهمتكم التي انتدبتم لها مقرونا بطيب الإقامة في وادي النيل.
كم نكون مغتبطين بزيارتكم بيروت لنتشرف بمقابلتكم وزيارتكم التي تتهلل الجامعة الوطنية بها، فأهلا وسهلا بالأستاذ الجليل، وعسى أن تشعرونا قبل ترككم القاهرة إلى بيروت.
سيدي
إنني أنتظر رأيكم السديد الذي احتفظتم به، وكذلك رسمكم الكريم الذي وعدتم بإرساله. أما ما كتبته جديدا فلم أرسله إلى لندن؛ لأنني قرأت في الصحف خبر مجيئكم القاهرة، ولم أرسله إلى القاهرة خوفا من أن يفقد؛ فهو محفوظ عندي لأرسله إليكم بعد عودتكم إلى لندن، أو عندما تشرفون هذه الديار.
وختاما تفضلوا بقبول تحياتي وتمنياتي لكم.
عاليه
15 / 10 / 1939
جواب المستشرق جب
سيدي الأستاذ المحترم
2
أعترف بتقصيري في حقكم، وأتسرع إلى تداركه، ولا عذر لي إلا أن شتى المشاغل قد حالت دون متابعة دراساتي في الأدب العربي الحديث مع شدة اهتمامي به، حتى عضوية المجمع اللغوي؛ لأن غيبتي السنوية في مصر والقيام بأعماله يضطرني إلى مضاعفة ما علي من الأعمال المدرسية في لندن، وكذلك منعني من الزيارة المنشودة إلى لبنان.
ولقد تسلمت - ولكم مزيد الشكر - مقالكم الأخير في الأدب العربي في برازيل، وقرأته بكل اهتمام، لا سيما وليس لي معرفة شخصية بالأدباء هناك وبمنتجاتهم. وقد شوقني ما كتبتم فيهم إلى الحصول على بعض منها، وسأحاول ذلك لأدرسها في الوقت القريب.
إلا أنه لا يمكنني أن أوافقكم فيما قلتم عن الأستاذ كراتشكوسكي؛ فإنه باحث جليل القدر في الأدب القديم والأدب الحديث، قد تفرغ له من ثلاثين سنة، وعندما ابتدأت بدراسة الأدب الحديث اتصلت به كتابة، وانتفعت كثيرا برسالاته ومقالاته وإرشاداته. ومما يجوز أن يقربه لكم أنه تخصص بدرس الأدب اللبناني، وأراه شيخنا بهذه الساحة.
وختاما، أرجوكم قبول هذا الرسم مني مع تحياتي واحتراماتي.
جب
في 29 تشرين الثاني سنة 1939
أخي عبد الله
3
قال شاعرنا بشار:
تعطي الغزيرة درها وإذا أبت
كانت ملامتها على الحلاب
لقد أجدت وأحسنت فوفقت، وبحسب نياتكم ترزقون.
نيتك الحسنة وفقت سعيك المشكور، وإن أجرك عند ربك لعظيم.
فهنيئا لك وللوطن ببناء خليتك الاجتماعية، وسوف تقترن باسم عبد الله المشنوق ما دام في الدنيا دين وعلم وطب وعمل.
ألهمك ربك فأقدمت على هذا العمل الجبار، فبينت الخلية العظمى وكنت يعسوب الدين والدنيا.
إني أهنئك من صميم قلبي، وليت للأمة أفرادا مثلك ينهضون بها إلى أعلى ذرى المدنية المثلى، والسلام.
حاشية : لقد بنيت الخلية العظمى؛ فأرجو أن لا تنسى «النخروب» الذي تزج فيه ابن أخيك ... فالضرورة قصوى.
عاليه
17 / 4 / 1953
أخي شكيب
4
وصلتني مجلتكم «أصداء» فقرأتها ولم أخرم منها حرفا. أعجبت بما فيها، وكان إعجابي بمقاصدها وعزمها أشد، حقق الله الآمال.
هذا نبأ مهم. أما النبأ الأهم فهو ما قرأته في الصحف عن ترككم كرسي السياسة القلق؛ لتقعدوا على طنفسة الأدب الناعمة، مرحى للأدب ينصرف إليه من كانوا أدباء «من البابوج إلى الطربوش».
قد تستغرب إعراضي عن التهنئة بالوظيفة والتفاني إلى ما صرت إليه، لا تتعجب؛ فقد تعودت - وبهذا عرفت - ألا أقبل على تلاميذي وأصدقائي إذا تسلقوا جبال الحكم، أو تزحلقوا على ثلوجها طامحين إلى الفوز بكأس البطولة.
لا تقل لي: إنك تدوس كبرياء أرسطو بكبرياء أعظم منها. لا يا أخي، ولكنني أكره الحوم حول الكراسي، ولا أنظر إلى القيم الشخصية بمنظار غيري، وما أدراك؟ فقد يكون ولد في هذا الاشمئزاز غرور بعض الأصدقاء المبتلين بداء الكرسي؛ فاحمد الذي شفاك منه.
لقد ذقنا ثمارك الشهية في «نهم » و«قدر يلهو»، فعسى أن تحمل إلينا «أصداء» كل طريف زكي.
إنني أتمنى لها المرور في أطوار العمر حاشا السرار منها.
أتمنى أحر التمني أن تنجو «أصداء» من الأدب الخروبي - درهم دبس على قنطار حطب - وأن تسلم من داء الاجترار تعبيرا وتفكيرا؛ فالاجترار طاعون الأدب العربي.
سلمك الله، وأخذ بيدك، وسلمت لمن لا ينساك.
عاليه
15 / 1 / 1945
أخي الدكتور فارس الحايك - بعلبك
يا عشير الصبا ورفيق الشباب!
ذكرتني - وما أنا بناس - بكل ما أثارته رسالتك من شئون وشجون بلدية.
كان في البلاد رجال يجيئون على الصوت أيام الطربوش المغربي واللبادة والكبران والمداس. أما اليوم فقد ذهبت الألبسة الناعمة بتلك الرجولة، ولم يبق منها إلا الطلول الدوارس، وعليها يجب أن نبكي.
بلادنا جميلة، ولكن حظها قليل.
بلادنا مخلصة ولكنها محبة غير محبوبة ...
يغمزونها فتلبي، أما هي فتدعو، بل وتستغيث وما من مجيب.
بقعتنا تعيش في الظلام، وهي مقطوعة عن العالم كأنها ليست من الجمهورية.
لا يشعر الآخرون بوجودها إلا حين يريدون إثبات وجودهم ...
تقول لي يا أخي: «وما أحلاك حين تكلمت بلغة بلادنا: قرأت حبرا على ورق في المجالس. يا ترى الطينة ما بدها تعلق ولا مرة؟ رجاع تا نرجع عا بلادنا نترنم بدق المجوز، ونقعد حد مواقدنا بالشتي عا ضو سراج زيت الحلو، وبالصيف بعرزالنا المعمول من ورق غار وادي الهامي، ونقضي ما تبقى من العمر مثل ما عملوا جدودنا، ونشرب من مياه بيارتنا، واللي قاعدين عا ضو الليل مثل النهار، والمياه تتدفق بدورهم وحماماتهم - وتلقونهم حد مخدتهم - ما هم أحسن منا، شفناهم وشفنا أعمالهم.»
ذكرتني دعوتك إياي للرجوع بالخوري يوحنا طنوس حين جاء للسلام على أحد المطارين، وكان هذا المطران قد اختل عقله قليلا يوما ثم شفي، فقال له ذاك الأسقف: «أنت الخوري حنا طنوس؟ بعدك مشتول؟» فأجابه الخوري حنا: «أنا جايي تا أسألك يا سيدنا.»
فيا أخي الدكتور الحبيب، أنا ما زلت في عين كفاع أعيش كما ذكرت، فليتك أنت تفعل كما قلت ونراك بيننا في هذا الصيف، إن بلادنا تركتها رجالها.
يهجرونها شبابا ليعودوا إليها على الأعواد أمواتا يستريحون في ترابها الطاهر كرفيقنا وحبيبنا الدكتور فرحات، الذي أوحى إليك مأتمه هذه الرسالة النفيسة.
إننا نحتاج إلى مطالبة جدية إذا أردنا لبقعتنا عمرانا. أما الحبر على ورق فمثله معروف مشهور ...
إلى اللقاء في وادي إلهامي أو دير القطين، لا بل في «مار عبدا» حيث اختبأ مدة المطران يوسف إسطفان؛ سكرتير عامية أنطلياس، ثم مات شهيد قهوة المير ...
عين كفاع
عزيزي ع. م، فالوغا
وصلتني رسالتك متأخرة، ولأحكام لا ترد تأخرت أنا أيضا. أرجو المعذرة.
قلت في مكتوبك: إنني انتقدت رواية «الحب أقوى» للأستاذ رئيف خوري من ناحية اللغة فقط؛ ولهذا أسألك إعادة النظر في المقال الأول.
أما قولك: «والقسم الآخر من الأغلاط ليس من الأهمية بحيث يحتاج إلى مثل هذا الهجوم.» فلا أوافقك عليه.
إن الخطأ خطأ، وعلى الناقد أن يدل عليه؛ لأن فيه ما ينفع الأديب والناس.
أما رأيي في القصة وكاتبها فقد أبديته في ذاك المقال أيضا، وها أنا أعيد القول بناء على طلبك: إن الأستاذ رئيف خوري أغزر أدباء اليوم إنتاجا، وفيه يصح قول زهير في الحرب: «يغل لنا» ما لا تغل لأهلها
قرى بالعراق من قفيز ودرهم
وإنتاجه هذا يقرأ بلذة؛ لأن كاتبه ذو شخصية ذات علامات فارقة، ولآثاره «ماركة مسجلة» يعرفها بها اللبيب. وهي تلك التعابير التي يرسلها رئيف عفو الطبع فتجيء طريفة ظريفة.
أنا أحب رئيف خوري، ولكن هذا الحب ليس يحول دون نقده، وما أحسب ما دللت عليه من خطأ عند رئيف إلا خطأ نراه عند كتاب الوقت القارحين، ولا أحسب الأستاذ إلا معولا على هؤلاء. ظنهم «ثقات» فوقع فيما وقعوا فيه.
إن الأستاذ رئيف خوري هو «الأمل المنشود»، كما قال شاعرنا الكبير الأخطل الصغير، ومعاذ الله أن يضيع من يدي ...
فانعم يا عزيزي عبد الكريم بالا؛ إن أديبك المفضل رئيف خوري يبدو على محك الفن من عيار عشرين وما فوق، وسيصير عيار 24 إذا تأنى ولم يلب كل صوت، وما تلك «الأغلاط» إلا زنجار أزاله المحك عن الذهب ، فأعاد إليه رونقه وسناءه.
عين كفاع
15 / 9 / 1951
عزيزي الأستاذ بطرس بواري
لا أستطيع أن أقول لك كما قلت لي: «إعجابي وتقديري لك كبيران.» لأني لا أعرفك، وإن كان «البواريون» أبناء عم لنا يصح فينا وفيهم قول عمر لهند: «إنما نحن وهم شيء أحد.»
أعذرني إذن إن شككت بوجودك؛ لأني أخاف أن أكون في هذه المناقشة مثل دون كيشوت وسانشو بانسا.
أشكرك أولا وإن كنت أبغض هذا البحث العقيم، وخصوصا متى كان على حد قول بشار: «كالروم تغزو وتؤخذ الخزر.» تخطئ المطبعة وأطالب أنا ...
أما أضعت وقتك في انتقاد كلمة «وفير» وهي من هفوات الطبع وصوابها: «يوشح الواقع ببرفير خياله المجنح.»
ثانيا: وأنا أكره جدا أولا وثانيا وثالثا: «اللها تفتح اللهى.» هي كما قلت، والكلمة مقولة قديما، وأظنني أحسن كتابتها على حقها؛ فهي إما من كبائر المطبعة، وإما من خطايا ناموسي ...
ثالثا: تسألني عن فعل نخر وتقول: والفعل بكسر الخاء لازم، ولم تنص كتب اللغة على أي تعديل له.
لقد ذكرت الكسر يا أخي ونسيت الفتح ... فقد عدت العرب نخر المفتوح الخاء وقالوا: نخر الناقة ... إلخ، فكما عرفوا هم كيف يستدرون الناقة بنخرها، كذلك يحق لنا نحن أن نفعل، بعدما عرفنا ما ينخر العظم وغيره ...
أما قولك: «وأظن أنه لو جازت هذه التعدية لأدخله من عرب التوراة، ومنهم الشيخ إبراهيم اليازجي.»
أنت تجهل يا صاحبي أن هذه الآية محذوفة من «توراة البروتستان»، ولو عرفت لما قلت: «ومنهم الشيخ إبراهيم.»
وبعد، فكيف يأتي الشيخ إبراهيم بفعل غير موجود في الأصل؟ فترجمة التوراة حرفية، ثم من قال لك إن الشيخ إبراهيم مضى لسبيله ورد الباب خلفه؟
أما كلمة «احتار»، فقد كثر سائلي عنها حتى أجبت أحدهم «جهاد» في مجلة الأحد، وإن صدق الظن فأنت «جهاد» الأمس و«بطرس بواري» اليوم؛ ذلك السائل المتكتم، فقد ملأت خياشيمي رائحة أسلوبك.
وأخيرا، كلمة القسس التي زعمت أن جمعها ممنوع؛ لأن مفردها قس بفتح فسكون، وهذا لا يجمع على فعل بضمتين.
لا، يا أستاذ، إن لفظة قس مثلثة القاف، وهي سريانية معربة أصلها قشو وقشيشو، ومعناها الشيخ والقديم، والشيخ فاضل عندهم، والقديم مقدس دائما؛ ولذلك جاء في المعجم الذي اعتمدت عليه القسس الفضلاء؛ فليتك شعرت بأن قوله: «الفضلاء» يدل على أنها جمع! أليس كذلك؟
وأما اعتذارك أخيرا عن النقد بقولك: «إن كل ما قصدت ليس إلا محض استيضاح دون أن يكون له ثمة أي نقد» (كذا).
فالجواب عليه أنك لم تنتقد رجلا معصوما، وأنا أرحب بالنقد ترحيبي بصديق عزيز، وأرجو منك ألا «تشفق أن ينشب بيني وبين الأستاذين مبارك إبراهيم والعوضي الوكيل نقد لغوي.»
لكل خطاب يا بثين جواب. وما إخالك رأيت مني غير ذلك.
31 / 8 / 1953
إلى الست هيفا نصار
لا يا سيدتي، لا أريد المرأة منبوشة الشعر منفوشته كالجنية، ولا أريدها قذرة تفلة تنبعث رائحة المطبخ وغيره من ثيابها، ولكني لا أريد وجهها كقناع المرفع والبربارة ولا ثيابها مسرحية ... إني أكره أعظم كره تلك الشفاه المطلية بالأحمر القاني، وذلك الوجه المطين بالبودرة. أريدها حسنة الهندام بلا زركشة، نظيفة الوجه بلا تدبيج.
أما العطر فخيره ما كان «قطبة مخفية». وفي الجملة: التصنع مكروه.
إن المليحة من كانت محاسنها
من صنعة الله لا من صنعة البشر
إلى سليم فرحات - طرابلس
يظهر أنك ميال إلى الأدب. عال يا أخي. ومتى سألتني: ماذا تشير علي أن أطالع، فكأنك تقول لي: أشر علي ماذا آكل.
كل يا أخي ما تشتهيه نفسك وتقطعه معدتك ... طالع كل ما يعجبك، ثم لا تقلد أحدا متى كتبت، فخير لك أن تكون أنت من أن تكون فلانا مهما سما وعلا.
إلى الطالب ه. أ. - بغداد
تسألني يا عزيزي: ما هي القصة؟ وما الوسيلة ليصبح المرء قصاصا؟ وطريقة من يتبع لتخيل القصة؟
وتسألني: ما السبيل لنقد الأدب؟
إن قول شوقي يصح هنا كل الصحة:
وتر في اللهاة ما للمغني
من يد في صفائه أو ليانه
لم يعن شوقي غير الشاعر، وليس القص والنقد إلا موهبة كالشعر. أنا أعتقد أن تعليم الناشيء ما ينبغي للكاتب من أصول، واطلاعه على الآداب العالمية جميعها لا يخلق منه قصاصا أو ناقدا أو أديبا، إذا لم تكن الطبيعة قد حبته تلك المواهب؛ فنصيحتي لك أن تجرب، فإذا أعجبتك نفسك وأعجبت الناس؛ فذاك، وإلا فما لك ولهذا. فخير لك أن تجلي في مضمار «البحث العلمي» مثلا من أن تكون سكيت الحلبة في شوط الأدب الشخصي.
إلى السيدة إملي فارس إبراهيم؛ أمينة سر أهل القلم
يا بنت أخي
أما اتفقنا بعد تلك المخاطبة التليفونية التي تفضلت بها، على أن تبعثي إلي بروايات جائرة ك. ل. م. حتى أقرأها، كما جرت العادة، ثم نجتمع للحكم؟ فما عدا مما بدا ...
أما كان الأستاذ إميل خوري - مدير دعاية ك. ل. م. - يجيب السائلين عن النتيجة: حتى يعود مارون من الصيف؟ وعدت أنا من الصيف؛ فضيعت أنت اللبن!
أتريدين أن تكوني دكتاتورة في جمعية أهل القلم؟ الدكتاتورية للرجال، ومع ذلك ثاروا عليها؛ فكوني حكيمة يا سيدتي.
أتكون مصيبتي فيك كمصيبة ابن الرومي في هاتيك الأنثى التي اغتصبت عقاره؟
اسمحي لي أن أقول لك: إنك ما كنت عند ظني ...
إن الحاكم لا «يرد» إلا في مواقف معلومة، فهل حسبتم الدكتور جميل جبر أخي أو ابن عمي؟
يا بنت أخي
إذا كانت هذه سيرتنا نحن أهل القلم، فماذا نترك لأهل النبوت والجلم؟
إن عملكم يحمل الناس على الشك بناد «ما هف ولا قعد على الرف.»
الجائزة «هولندية»؛ فاتركوا الغريزة تعطي درها ...
والسلام.
24 / 3 / 1954
إلى الأستاذ ن. ج، بيروت
وصلت رسالتك، وجوابا عليها أقول لك؟ لا تيأسوا من رحمة الله، فلا بد من إنصافكم، لا يموت حق وراءه طالب.
إننا لا نطلب صدقة ولا حسنة ولا ثروة نتنعم بها؛ فشعار المعلم: أعطنا خبزنا كفاف يومنا. ولولا خوفنا من الشيخوخة والهرم ما طلبنا ضمانا كغيرنا من خدام هذا البلد.
قم للمعلم وفه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
هذا نقد لا يشتري رأس بندورة ولا خيارة ولا عنقود عنب ... هذا ضحك على الذقون.
وبعد، يا عزيزي، فثقتي كبيرة بصاحب الفخامة . إن من ساوى بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات حتى سبق لبنان الشرق كله إلى ذلك، لا يرضى أن يظل معلم المدارس الخاصة غارقا في بحر القسر والحاجة.
أيعيش معلم بلد الإشعاع في ظلمات اليأس والقنوط وهو يترنم كل يوم مع تلاميذه:
ملء عين الزمن
سيفنا والقلم
أليس هو باري القلم لا القوس؟
إن الإشعاع بلا زيت لا يدوم، فلا بد من صب الزيت لتدور الدواليب، وإلا وقفت العجلة.
إننا لكلمة الحكومة منتظرون؛ فقد طال دور احتضان قانون المعلمين، وستنفقص البيضة - إن شاء الله - عن ديك فصيح ...
إلى خالد زهر الدين
تعلمنا في المادة 99 من المجلة حين درسنا الشريعة ما يأتي: من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه؛ فلا تعجل علينا - يا أبا هند - نخبرك اليقين.
الموعد قريب جدا، وسنرى ما يقول الأستاذان طه حسين ورئيف خوري. أنا لا أظن أن في الدنيا كاتبا يكتب «بازاري» للعوام، و«استعمال» للخواص؛ فالكاتب السليقي يكتب ولا يعنيه لمن يكتب؛ ففيما كتب ابن المقفع والجاحظ والشدياق والريحاني زاد للجميع. إن سفرة الكاتب ممدودة، فمن لا يهضم اللحم له في المرق ما يسد جوعه ...
ليس لنا أن نقول: هذا أدب للعامة، وهذا أدب للخاصة في زمن زالت فيه الفروق اجتماعيا، والذين كانوا يسمونهم عامة أصبحوا يفهمون ما يكتب. إن الكاتب لا يخطر بباله أن يكتب لفئة دون غيرها إلا في مواضيع لها أرباب.
هذه كلمة عجلى، ولنا إلى هذا الموضوع عودة بعد أن يقول الأستاذان الفاضلان كلمتيهما.
إلى مجهول
كان العرب يقولون للشاعر متى أجاد: أنت أشعر العرب في هذا البيت، ونحن اليوم نستطيع أن نقدم شاعرا على سواه في قصيدة ما. أما أن نخلع عليه بردة الإمارة ونجعل أمراء الكلام رعية لإحسانه، كما قيل لأبي تمام؛ فهذا كلام هراء. أما شعر اليوم ففيه الجيد والرديء، وكذلك كان منذ كان الشعر. وفي شعرنا المعاصر ما يضاهي الشعر القديم ويفوقه. أنا لست ممن يقدسون القديم لأنه قديم؛ فليس تاريخ الأدب متحف عاديات، والشعر لا يقاس بالعتق والقدم، فكم شاعر معاصر نراه نحن دون القدماء؛ لأننا لا نحكم ذوقنا وعقلنا فيه.
لا أظن أن الجاحظ كان على ضلال حين رأى أن أبا نواس وبشار بن برد الشاعرين المحدثين يضارعان أو يفوقان كبار شعراء الجاهلية، قال يلوم من يحكم للقائل لا للقول: «ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد ممن كان، وفي أي زمان كان.» (الحيوان 40، جزء 3)
إلى «أحد القراء» الصنائع، بيروت
تسألني إذا - لا سمح الله - انتخبت نائبا، أفلا يهمني أن أرضي منتخبي أولا؟
الجواب: بلى، ولكني أسعى أن لا أجنف على من انتخبوا غيري.
وتقول لي: كيف أحل مشكلة تخلف النواب عن حضور الجلسات؟
وأقول لك: هناك قانون إذا طبق على المتخلفين؛ فلا يغيب أحد بعد ذلك. إذا كان على كل موظف أن يحافظ على «الدوام»، فلماذا لا يكون ذاك فرضا على النائب؟
وما زالت البلاد مقسمة مناطق نفوذ نيابية، فلماذا لا يشتغل النواب إلا «بالحرتقات»، وإذا حضروا فللمعارك والمناوشات.
إلى مستفيد
لماذا تخجل وتتكتم؟ فلا حياء في طلب العلم.
سألتني عن «إذا» إن كانت تجزم المضارع. إنها لا تجزم وإن كانت ذات جواب كغيرها من أدوات الشرط، وقد وردت جازمة في الشعر: وإذا تصبك خصاصة فتجمل.
أما كلمة «وحده» فهي منصوبة دائما على الحالة الحالية؛ نحو: وحدك، وحدهما، وحدهم، وحدهن إلخ، ولا تأتي مضافة إلا في قولنا: فلان نسيج وحده؛ للتعظيم، وجحيش وحده؛ للتحقير.
أما قول بعضهم «لوحدي»، فاللام لا محل لها.
عزيزي بهاء الدين حدرج
شكوت من الأستاذين طه ومقلد إلى محكمة صاحب الجراب البهية، فأصدرت حكمها مستعجلا مبرما. ولعلك قد صرت تنعم بقراءة «الأحد» في حينها. سرني منك تقديرك لما في جرابي من بقج وصرر، ولو كان كل من نسدي إليهم النصح يعومون على جرابنا مثلك لكانت البلاد بألف خير.
لا تلم الأستاذ طه؛ فهو مدير وكالة أنباء الشرق ورئيس تحرير جريدة الأحد، والرأس كثير الأوجاع، كما يقول المثل. أما الأستاذ مقلد فشاعر، والشعراء في كل واد يهيمون، ولولا ذلك لما عاد من أرضكم فارغ الجراب ...
قلت في رسالتك إنك طلبت أن ترسل إليك الأحد في البريد الجوي، فكان أن حرنت ولم تصل لا في سفينة نوح - عليه السلام - ولا في يخت المرحوم هتلر، وهكذا صح فيك القول: طلبت الزيادة فوقعت في النقصان. وهذا ما أصابني أنا أيضا، وسيأتيك الخبر.
ما أسعد جريدة الأحد! بل ما أسعد جريدة تظفر برضا قارئ خفيف الدم مثلك! إن جريدة لها عاشق يترقب قدومها بمثل شوقك ووجدك لهي حقا من أسعد الصحف، وما أجمل الساعة التي تستطيع فيها جريدة الأحد أن تتصل بشطرنا المغترب بواسطة طائرة خاصة تسمى طائرة وكالة أنباء الشرق، أو طائرة جريدة الأحد! وليس هذا ببعيد الوقوع؛ لأن «توجهات» أنظار المغتربين تعمل العجائب.
عزيزي بهاء الدين
إن جريدة الأحد ستصلكم إن لم تكن وصلتكم بالطائرة، ولو كانت الصواريخ في متناولنا لقذفناها إليكم قذفا حتى تصلكم ساعة صدورها.
أما ما ذكرته بشأن نصائحي للنواب التي قرأتها في أحد أجربتي، فكن واثقا أنها حبر على ورق؛ فالجماعة لا يفهمون بلغة أصحاب الأقلام. إن من يكتب بالنبوت يصغى إليه. أما من يكتب بالستيلو فلا يبالي به أحد. فأين وعود طه ومقلد من وعود هؤلاء، فأنا أكتب إليك والغبار يسد أنفي وخياشيمي. طلبت من وزارة الأشغال رشة زفت ترد مثار نقع الحواري عن البيوت والتبغ والعنب والتين وبقية الأثمار؛ فكانت النتيجة أن أرسلوا «ورشة» ترقع الطريق بالتراب الأحمر، فصارت بيوتنا وثمارنا مبودرة محمرة في وقت واحد.
إن الأستاذ مقلد لا يضر أحدا إذا أخلف الوعد، ولكن وعود هؤلاء تقتل الناس صبرا ... وكيف تطلب من مقلد أن يعد ويفي إذا كان من هم أكبر جدا يعدون وفي نيتهم ألا يفوا.
سلم يا أخي بهاء الدين على كل من في «دكار»، وثق أن الأمور عندنا تمشي من حسن إلى أحسن.
ليتك تشرفنا بزيارة لتكون أسرة الأحد في استقبالك بالمطار الذي يرفع رأسنا ورأس مغتربينا بين أمم الأرض.
فبعدما كنا نقاسي المشقات لندل الناس على مكان لبنان في الأرض، أصبحنا ولنا المطار الثاني في العالم ، ومع ذلك لا يزال فينا من يقول: عنزة ولو طارت.
15 / 7 / 1951
إخواني
ثقوا أن سؤالكم جاء متأخرا جدا ... قد نسيت نسيانا مبينا ما في كتبي المطبوعة وعددها - حتى الساعة - اثنان وثلاثون.
من طبعي ألا أعيد قراءة كتبي بعد ظهورها؛ ولهذا أراني عاجزا عن المفاضلة بين تلك المخلوقات ...
ليس الذي تسألون عنه محبة؛ إن هو إلا تفضيل. أما إذا كنتم تعنون المحبة بمعناها الأصلي، فأحب كتبي إلي هو ذاك الذي لا تجرؤ دار نشر على طبعه، وسيبقى «يتيما» بعدي إذا لم تملك يميني ما يمهد له السبيل إلى النور؛ فالله أسأل أن يقيض له وصيا يعمل بقوله تعالي:
فأما اليتيم فلا تقهر . أكتب هذا وأنا منتظر سحب اليانصيب الوطني غدا ...
صلوا لأجلي.
11 / 1 / 1954
كتب إلي السيد ج. م. من المملكة العربية السعودية، يسألني: كيف نعرف حركة عين مضارع الفعل الثلاثي؟ وهل هناك قاعدة عامة نصل بواسطتها إلى معرفة ذلك، أم أن المرجع هو القاموس ... إلخ؟ ثم قال: عندنا من يقول بأن هناك قاعدة لمعرفة حركة عين الفعل الثلاثي من صيغة المضارع، وأنها موجودة في كتب الصرف، ولكن من يقول هذا لا يذكر القاعدة ... إلخ انتهى.
عزيزي ج. م.
إن عين الفعل المضارع الثلاثي هي بلية البلايا. يكلفوننا اليوم أن ننطق بها كما نطقوا، وهم - كما تعلم - كانوا قبائل شتى، وكل قبيلة تحرك لسانها على هواها، كما هي الحال عندنا اليوم في لبنان، فكل قرية تكاد تختلف لهجة عن جاراتها. هكذا كانوا هم، ومن هنا جاءنا ويل عين فعل المضارع، التي تكون غالبا مفردة، وأحيانا مزدوجة، وتارة مثلثة. الأعراب يؤثرون الخفة؛ لأن أسلوب حياتهم كان يستدعي خفة الظهر؛ ولذلك فتحوا أول الماضي ولم يبدءوا بالساكن، ثم منعوا التقاء الساكنين. ولما أعيا الخلف وضع قاعدة للهجة السلف، قالوا لنا: إذا التبست عليك حركة عين المضارع الثلاثي؛ فافتح.
أما ما ذكره أيمة الصرفيين، فهو من باب الغلبة لا من باب القياس المطرد، وعملا بكلمتهم المأثورة: ما لا يدرك كله لا يترك جله. أكتب لك ملخص ما قالوه في هذا الباب: (1)
وزن فعل «المفتوح العين» يكون ضم عينه قياسيا في مضارع الأجوف والناقص الواوين، وإذا كان الأجوف والناقص يائيين تكسر عينه، وكذلك تكسر عين مضارع المثال اليائي والواوي إذا خلا من حرف حلق. (2)
فعل «المكسور العين» تفتح عين مضارعه: نحو يعلم ويمرض. أما الذي هو من باب حسب - بكسر العين - فعين مضارعه مكسورة. وقد حصروه في أربعة أفعال من الصحيح: حسب، ونعم، وبئس، ويبس، وفي ثلاثة عشر فعلا من المثال الواوي فقط؛ وهي: ورث، وثق، ومق، ورى، ولي، وبق، وحر، وغر، وله، ورع، وهم.
وتكسر أيضا عين الثلاثي المضاعف إذا كان لازما. (3)
وزن فعل «المفتوح العين» الثلاثي تفتح عين مضارعه، إذا كانت عينه أو لامه من حروف الحلق، وللأيمة اعتراضات على هذا القياس؛ فقس أنت عليه مؤقتا إلى أن يهبني الله وإياك حكم العين بالعين، والسن بالسن ... (4)
وأخيرا، إن فعل «المضموم العين» تضم عين مضارعه، وكذلك الثلاثي المضاعف المتعدي.
لا أجمل يا عزيزي في هذا الباب من تقليدنا القدماء بقولنا: والله أعلم! والسلام عليك.
وزارة المعارف، العراق
سيدي الوزير
أرفع لمعاليكم في طيه مقالا كتبته عن الجاحظ أديب العرب الأكبر، وإني لآمل أن تشرفوها بالمطالعة، ثم بما ترون وتأمرون. الجاحظ رهن كلمتكم هذه؛ فإن شئتم بعثتموه بعد ألف ومائة عام، وإلا فيظل مقبورا حيث لا ندري إلى ما شاء الله.
عفوا سيدي، ولئن أزعجتكم وثقلت عليكم فيما كتبت؛ فشفيعي قولهم: المورد العذب كثير الزحام.
لا زلتم ذلك المورد الفياض يروي ظمأ الأمة العطشى. والسلام وأسمى الاحترام.
الداعي لمعاليكم
مارون عبود
عاليه
17 / 2 / 1937
سيدي
حيا الله الوزير ورعاه وأبقاه موضع الاحترام، يكرم الأدباء أحياء وأمواتا.
أما بعد، فيخطر على بالي «الجاحظ» كل يوم، وأنا من المعجبين كثيرا بهذا العقل العربي الفريد، وما ترك لنا من تراث أدبي منقطع النظير، فكتبت هذه المقالة بمناسبة ذكراه - الألف والمائة سنة - ورفعتها هدية إلى معاليكم كما تقرءون، وظني يشبه اليقين أن اقتراحي سيصادف صدرا رحبا من الوزير البصام ، الصادق العزم؛ فهو إن لم يحققه كله فلا يترك جله.
جرأني - يا مولاي - على ما فعلت ثناء ملء الأفواه؛ أفواه الشباب العراقي الفخور بمكارم أخلاق وزيره المعجب بإقدامه، فأحمد الله أني سقطت على جدير يحقق بعض أمنيتي.
حقق الله له كل أمانيه، وحفظه للأدب، وبارك في عمره.
الداعي لمعاليكم
عاليه
21 / 6 / 1936
العراق، المكتب الخاص
وزارة المعارف، العدد 10096
التاريخ 19 ربيع الثاني 1365 / 8 تموز 1936
إلى حضرة السيد مارون عبود المحترم
نشكركم جدا على ما أبديتم من عواطف سامية في كتابكم المؤرخ 21 / 6 / 1936، راجين لكم اضطراد التقدم والنجاح في خدمة العلم والأدب، وسنسعى جاهدين لتحقيق أمنيتكم.
وفقكم الله لما فيه خير البلاد وصلاح الأمة، ودمتم بخير.
وزير المعارف
أخي الأستاذ زيدان المحترم
أطالع هلالكم النامي كلما وقع في يدي، وإنني أثني على عنايتكم بالثقافة العربية عامة والأدب خاصة - أخذ الله بيدكم - فالابن سر أبيه.
منذ شهرين اقترحت في جريدة صوت الأحرار على معالي وزير معارف العراق الجليل الاحتفال بذكرى الألف والمائة لأديب العرب الأكبر الجاحظ، وذلك في مقال أهديته إليه، فأجاب حضرته بكتاب لطيف، وسيعمل إن شاء الله.
يبدو لي أن الفكرة صادفت استحسانا، فدمشق أعلنت في نهاية أسبوع المتنبي أنها ستحتفل العام القادم بالجاحظ، فهل يحق لي أن أسألك - ولا تعارف بيننا - أن تكون البادئ فتخص الجاحظ بعدد ممتاز «جدا». إنه ليستحق أكثر من ذلك، والمجال واسع جدا لأقلام المفكرين، فعسى أن تحققوا أملي، وتفتتحوا عام الجاحظ؛ فنظل السابقين في هذا الميدان، فننمي ميراثا مات عنه آباؤنا وجدودنا.
والسلام عليكم وعلى أسرة الهلال جمعاء ممن يحترم جهادكم ويقدركم.
عين كفاع
25 / 8 / 1936
حضرة الأستاذ الكبير مارون بك عبود، مدير التعليم العربي في الجامعة الوطنية بعاليه
سيدي الأستاذ الكبير
أتشرف بأن أرسل إليكم نسخة من الإعلان الذي بدأت أنشره على صفحات «المكشوف»؛ للدلالة على الخطة الجديدة التي اعتزمت السير عليها في جريدتي هذه.
وإنني بفضل الكتلة القوية من أدباء لبنان الذين التفوا حول فكرة الجريدة، أرجو أن أبلغ الهدف الذي وضعته أمام عيني، وهو جعل «المكشوف» لسان حال النهضة الأدبية في هذه الربوع ، وإعطاء الأقطار العربية فكرة صادقة عن الترقي الذي بلغته هذه البلاد في الأدب والثقافة.
لذلك، ولما كنتم في طليعة الأدباء الذين أعتمد عليهم ليساهموا في هذا العمل الأدبي، فإنني أرجو أن تخصوا المكشوف بمقالاتكم القيمة من الآن فصاعدا، وأن تعتبروها جريدتكم التي تعبر عن الأفكار التي تدينون بها في ناحيتي النقد والأدب.
وتفضلوا بقبول فائق احترامي.
أسماء بعض الذين يشتركون في تحرير «المكشوف»:
الأساتذة: فؤاد إفرام البستاني، يوسف غصوب، خليل تقي الدين، الدكتور أسد رستم، جبرائيل جبور، قسطنطين زريق، ميخائيل نعيمة، إلياس أبو شبكة، رئيف خوري، توفيق عواد، عبد الله لحود وغيرهم ...
فؤاد حبيش
بيروت
18 آذار سنة 1936
أخي الأديب الحبيشي المجاهد
5
عذرا يا أخي، إذا أبطأت عليكم بالجواب؛ ففي أضيق الأوقات تلقيت كتابكم الكريم. سأبذل قصارى الجهد لأشاطركم ولو شيئا من عملكم الثقافي. أما الآن فأنا غارق حتى أذني في الفحص الفصلي، فعفوا إلى حين، وسنتقابل الاثنين القادم ونتحدث طويلا. ليتكم ترسلوا لي عددا من المكشوف لأرى محياه وأستأنس برؤيته.
وفي الختام، أصافحكم وأتمنى لكم التوفيق والثبات.
سيدي الأستاذ مارون أبو المؤمنين، وأبو محمد!
أحييك تحية الولاء والاعتبار، وأدعو بفوزك وفلاحك، وأسأل العناية أن تزيدك قوة ومضاء لتخدم الأدب والعلم، وتنقي الزوان من الحنطة، وتجعلها صالحة للطحن والنخل والعجن؛ ومن ثم للتغذية.
طالعت ما تفضلت علي به من الإطناب في تقريظك العدد التاريخي، وقد شعرت كما يشعر التلميذ عندما ينال جائزة ثمينة في آخر السنة: شعور فرح واغتباط، أو كما يشعر الجندي عندما يقلده قائده وسام الاستحقاق مكافأة على جهاده.
فتقريظك، يا سيدي، للعدد المذكور هو بمثابة وسام غالي الثمن وضعته على صدر أبي الهول، فلمعت جواهره في نفسي، وجئت الآن أشكرك من صميم فؤادي على ذلك، وأرجو الله أن يعينني على خدمة بلادي وأبناء بلادي بعد أن قاربت من السبعين، وأن يبقيك سالما معافى لخير العلم والنقد والأدب والثقافة.
بعد هذا أرغب إليك، أيها اللبناني الحافظ في صدره كل شاردة وواردة من أمثال وحكم وطنية، فضلا عن اللغة التي تملكت زمامها، أن تتكرم علي برسمك العزيز لأحفظه مع رسوم من أجلهم وأحبهم.
والسلام عليك من مقر بفضلك.
شكري الخوري
في 27 آيار سنة 1937
سيدي الأستاذ الجليل
من حضر فما غاب. هكذا يقول المثل اللبناني، وفي الأعذار ما يقال وما لا يقال؛ فأرخوا ذيل العفو على تقصيري، وظنوا خيرا ولا تسألوا عن الخبر.
تطلبون رسمي لتحفظوه مع رسوم من تحبون، فهو واصل إليكم، وأعد نفسي سعيدا؛ لأنني أحصيت بين الذين تحبونهم، ويحق لي أن أطلب رسمكم فلا تضنوا به علي. وإنني معجب بهمتكم العالية؛ ولذلك أسأل الله أن يحفظ صحتكم الغالية، ففيها منفعة للناس وخصوصا للبنان المفتقر إلى النزهاء المخلصين نظيركم.
وصلتني آثاركم الطيبة المنبثقة من نفسكم، وأخيرا تناولت ديوان السبعلي؛ الشاعر اللبناني الذي يتحسس الحياة حتى يكاد يلمسها. وحسبه أنه حاز رضى صاحب أبي الهول؛ الكلي الذوق والحس.
وختاما، إنني أهز يدكم هزة الوقار والاحترام والإخاء.
عاليه
27 تشرين الثاني 1937
أيها الصديق الأجل الأحب الأغلى
قرأت الآن في الصحف أن وسام المعارف الفرنسي قد سعى إليك، فأنزله - حفظك الله - من صدرك منزلا يتجاهى به، واجعله على مقربة هنالك من منابع الأدب والوفاء، والصدق والإخلاص، والعزيمة والسرائر الكريمة؛ فهو أعجمي غريب ينزل اليوم خير منازل العرب.
فهنيئا له بسعة صدرك، وهنيئا لنا بطول عمرك.
أمين نخله
بيروت في 19 حزيران 1939
أخي الحبيب
6
حسبي من الوسام أن يخلق مثل ذاك الكلام؛ فرسالتك أخلد منه وأمجد. إنه يذهب وهي تبقى تؤيد القول: إن من البيان لسحرا.
عاش شاعر هذا الدهر وبديع هذا الزمان.
أخي الأستاذ الأديب
7
تحية واحتراما ومصافحة أخوية، وبعد: فإنني أطالع تباعا مقالاتك الطيبة حول أدبنا وأدبائنا في المنار، وأخاف أن أشكر فيقال لي: ما شكر السوق إلا من ربح.
أخذ الله بيدك ووفقك إلى خدمة الأدب العربي.
قرأت في أحد فصولك أن العدد المنشور فيه مقال المجمع العربي الملكي غير تام، فأرسلته إليك في البريد، وإذا وقع ما كنت تحذر من فقد المقال الثاني من محصول الشهر ، فتفضل بالإشارة لأرسله إليك، ولا تهمل تاريخ العدد.
وتقبل ختاما فائق احترامي وإخلاصي.
23 نيسان 1936
حضرة الأخ الشاعر
8
بفرح تلقيت قصيدتكم «الأوتار المتقطعة»، وفي طيها رسالتكم اللطيفة. إني سعيد جدا بهذا التعارف القلمي، وقريبا أقول كلمتي في نشيدكم، وقد ذاع خبره بين طلاب المدرسة الشباب، ولا شك أنهم سيقبلون عليه ويطلبونه.
وفي الختام، أصافحكم وأتمنى لكم سيرا حثيثا سديدا في طريق الثقافة والفن.
أخي الحبيب الشيخ خليل
9
تناولت كلمتك الطيبة، وشكرت لك عنايتك واهتمامك بأخيك.
ثق يا أخي أنني ماض ... دخلت المعركة ولن أعود منها وفي حقيبتي سهم، ولا أبالي أقاتلا كنت أم مقتولا؛ فقد سئمنا هذا الاستئثار، وشبعنا من التطبيل والتزمير كأنما الأدب صار عرس رعاع.
إن آلهة الأدب تأنف هذا التبرج والتطوس، ونحن إنما نكتب في الأدب للأدب، صوابا كان أم غلطا، وما يهمنا ما زلنا نقوله مؤمنين؛ لنقول رأينا فيه عن يقين، ويشهد الله علينا أننا لا نتحامل، بل لا نبوح إلا بسريرتنا.
أنا ماض يا خليل، وإن حق لي قلت لك: احمل صليبك واتبعني إلى جلجلة النقد الأدبي أيها الأديب الموهوب.
أخي
10
وصلني كتابك الكريم ولم أر فيه الكتاب الذي أشرت إليه، فأرجو منك أن تتفضل علي به حالا لأطلع عليه وأعيده إليك؛ فلعل فيه ما يحلو ويطيب ويحبب العمل إلي.
أنا في انتظاره، وقد كتبت فصلا جديدا يصل إليك قريبا، فعجل علي بالكتاب غير مأمور.
لم تشر إلى من يعنيهم الأمر أن يرسلوا إلي ثلاث نسخ من العدد الذي نشر لي فيه؛ فلا تبخل علي بذلك.
السلام عليك وعلى أسرة صوت الأحرار الكريمة.
من أخيك
عين كفاع
27 آب 1934
أخي الأستاذ الفاضل
11
إنا نسير على الدرب التي نهجتموها؛ فعبير الزهور لما يزل في أنوفنا.
حسبنا رضاكم عنا؛ فلكلمتكم الوجيزة منزلتها الكبيرة عندي، فخير الكلام ما ترك للفكر مسرحا ولم يحبسه في قفص، والسلام.
أيها الأخ الحبيب
12
تحيات وقبلات حارة، وبعد: فما شككت ولن أشك لحظة في وفائك ومحبتك وإخلاصك، بعدما بدت لي صفحتك النبيلة إذ تعارفنا واطمأننت إلى سيماك. الكتاب، يا أخي ، يقرأ من عنوانه كما يقال عندنا، وعنوانك سام رفيع - والحمد لله - فكيف يخامرني إذن الشك بالأديب الأديب.
نزولا على رغبتك - ورغبتك عندي تشبه الأمر - سأكتب مقالا عن محمد علي الكبير، وعنوانه الذي طلبته سيكون: بين الوادي والجبل. أما البحث فحول ما تركت حكومته من أثر في النفسية اللبنانية، وسيكون شاملا الثقافة والتاريخ والاجتماع.
بقي عليك أن تخبرني فورا عن موعد صدور العدد الخاص - في أي شهر - وعن الموعد الذي تضربه لوصوله إليك؛ لأقدم الأعجل على المستعجل من أعمالي؛ فأنا كما يقول الشاعر في الجراد: ... ... ... ...
إنا على سفر لا بد من زاد
سلمني وكيل مكتب دار المعارف في بيروت الأستاذ خليل طعمة بيانا عن سلسلة اقرأ، وآخر حلقة صدرت منها - عدد نيسان، المغني المجنون - وسأتكلم عنها في حديث النشاط الأدبي في البلاد العربية من محطة الشرق الأدنى، 19 مايو، الساعة 8.
تصفحت هذا البيان فإذا فيه مؤلفات خصت بتولستوي وتشيكوف وغيرهما من أدباء الغرب، وفيه أيضا مؤلفات شعرائنا وأدبائنا القدامى، فلماذا لا تنشرون مثلا مؤلفا في هذه السلسلة عن أمين الريحاني؛ صديق العرب والعروبة؟ أحسبوه كاروزو المغني المجنون؟
وختاما، أحييك منتظرا جوابك عن هذا وذاك وذلك. سلمت لأخيك.
عاليه
1 / 5 / 1949
أخي الأديب المحترم
أسعد الله صباحك يا صباح
تحيات وقبلات على رجاء الاجتماع القريب، إن قدر الله، لا كما أصابنا في الصيف الماضي. تعتب علي في رسالتك لأني لم أرسل مقالا؛ فهل طلبته مني ولم أرسله في حينه؟ أرجو منك في قابل أن تشعرني قبل الطلب بمدة.
أقسم لك على أنه ليس في ملفاتي شيء جاهز؛ لأنني لا «أشتغل إلا توصية»، فإذا شئت أن تنبئني كم مقالا تريد مني في هذه السنة (1959) أكون جد ممنون، ولا سيما إذا عينت المواعيد التي يجب أن تكون فيها عندكم.
هذه السنة لا عذر لكم عن عدم زيارتي؛ عندنا فرصة مدرسية تبتدئ في 29 آذار وتنتهي في 12 نيسان، فإذا سمحت لكم أشغالكم في خلال الموعد السابق ذكره؛ فأنا أكون منتظرا في عين كفاع.
وهناك سترون الخمرة النواسية العتيقة جدا ، والعرق اللبناني المثلث العتيق أيضا، فنشرب كأس زيارتكم ومحبتكم.
في طيه المقال المطلوب. وختاما، أصافحكم شاكرا من كل قلبي.
29 / 1 / 1959
الأستاذ عبد الله المشنوق
إن أما جليلة أنجبت مثل عبد الله يحق لنا جميعا أن نحزن عليها، ونتمنى على الله أن يمنح الأمة أمهات من طرازها النادر.
كنت حزينا على أمتك، وها أنت اليوم تحزن على أمك. أحسن الله عزاءك، وأعاضنا بطول بقائك.
أخوك
سيدي الأستاذ الجليل
13
أطالع نقداتك في جريدة الأحد، فأسر بأسلوبك العذب النقي، وأكبر حريتك الأدبية.
أرسلت إليك هدية «الأجزاء الأربعة» من مذكراتي. أرجو أن يتسع لك الوقت فتطالعها وتكتب فيها نقدا لا تقريظا.
أتمنى لك دوام التوفيق والصحة.
محمد كرد علي
دمشق
21 / 7 / 1951
نموذج من خط محمد كرد علي.
سيدي الأخ
عرفت رجلا اسمه إبراهيم مصور، كان رئيس التراجمة في نظارة الأشغال في مصر فصادقته، وكان من زحلة، درس في الجامعة الأميركية وخص بقلم بليغ، حتى كانت أوامر الوزارات المصرية كلها تصدر بلغة ركيكة إلا وزارة الأشغال التي كان يرأسها المصور؛ فإنها كانت سليمة من الخطأ وبليغة. وقد ترجم «كتاب الدليل إلى ورود أعالي موارد النيل» ترجمة رائعة، ووضع ألفاظا في المياه وغيرها كانت مجهولة فأحياها. والرجل مات في مصر ولم أسمع أن أحدا ترجم له، فهل لك أن تساعدني على جلب مواد تصلح للترجمة إحياء لذكره، وخدمة للأدب.
وأشكر لك سلفا، وأرجو أن تغض عن تعجيزي لك.
هذا وسلامي إلى من عندك من العيال وصحتي لا تشكر ولا تذم. أمتعك الله بالعافية.
ودمت لأخيك.
محمد كرد علي
دمشق
2 شباط 1953
سيدي
تحيات واحترامات فائقة، وبعد: فعملا بإشارتكم الكريمة، كلفت أمين سر مدرستنا البحث عن كتاب الدليل لإبراهيم مصور فلم يجده، ولكنه وجد له كتابين في دار الكتب اللبنانية؛ وهما: كتاب الري، وكتاب الخزانات، ثم كلفت من يبحث عن كتاب الدليل في خزانتي الجامعة الأميركية والآباء اليسوعيين، حتى إذا وجدناه أتوجه إلى بيروت وأطلع على الكتب كلها، وأوافيكم بما يلزم لمشروعكم. جزاكم الله خيرا عن خدمة العلم الجلي.
أما مقالكم عن إبراهيم اليازجي، فقرأته في دار الكتب اللبنانية، وكان أمين سر المكتبة معجبا ومقدرا في وقت معا.
أما الصفحة المعدة للمذكرات فأشكركم عليها. وهذا فضل جديد. أبقاك الله لنا ذخرا.
سيدي
كنت عزمت على التشرف بزيارتكم في هذه الفرصة الربيعية، فإذا بشئون تستدعي ذهابي إلى ضيعتي، فإلى اللقاء في أواخر حزيران، إن شاء الله.
قدمت اليوم في البريد خمسة كتب: زوابع، أشباح ورموز، أقزام جبابرة، وجوه وحكايات، مجددون ومجترون. وحين أصل إلى البيت أبعث بما بقي.
تفضلوا سيدي بقبول أسمى احترامي وإجلالي لشخصكم الموقر - حفظكم الله ومتع الأدب العربي بطول بقائكم.
سيدي الأخ الأستاذ
حان الوقت الذي ضربته لي لزيارة الغوطة (أواخر حزيران)، فأنا في انتظار هذا الوعد الكريم، وأرجو تحقيقه وإعلامي عن يوم سفرك لأكون في جسرين، على أنني - إن أذن الله - أكون فيها يوم 26 الجاري، وأفضل أن توافيني رأسا إلى قريتي، وبعد قضاء أيام فيها نعود إلى العاصمة للتعرف إلى أحبابي وأحبابك على البعد. اقرأ ما ينشره سيدي الأخ «من الجراب» الأحد، ومنها ما كان حقه أن ينشر في جريدة كبرى التي تطبع الملايين، ولكن هكذا حظ بلادنا.
هل وصلتك كتبي «الإسلام والحضارة العربية» و«أمراء البيان» و«رسائل البلغاء» التي كنت أرسلتها إليك في الشهر الماضي.
ألف قبلة على أمل اللقاء القريب.
محمد كرد علي
دمشق
20 / 5 / 1952
سيدي
14
احترامات فائقة وأدعية حارة، وبعد: فلا تسل يا سيدي عن مبلغ تأثري بما كتبته إلي، وبما تفضلت به علي من منشورات المجمع.
وصلت أمس الدفعة الأخيرة مما أمرتم بإرساله من الكتب النفيسة، وستبقى ذخرا تعتد به خزانتي، وذكرا من العلامة محمد كرد علي؛ لأنها هدية منه.
كم أكون سعيدا إذ أتشرف بمقابلتكم، وأزور المجمع والمكتبة الظاهرية، وأتعرف إلى صحابتكم الكرام! ولعل ذلك يكون قبل زيارتكم في ضيعتكم، ودعوتكم لتشريف قريتي في الصيف.
سوف أكتب عن هذه الكتب النفيسة التي بعثتموها من مرقدها لأفي بعض ما يجب. أما العمر، والعمر كله إن شاء الله، فقد غاليت فيه؛ إظهارا للفضل، وحثا للشباب. بارك الله في عمركم النافع للأمة والوطن.
سيدي
15
قليلون هم الرجال الذين نرى صورة قلوبهم في عيونهم وجبينهم. إنك أحدهم، وما خلتني أثناء وجودي عندكم إلا عائشا بمحيط جديد يعجز قلمي عن وصفه. إنها لضيافة فردوسية، وما أحسب الغوطة إلا قطعة من جنة الله في أرضه. لا عيب في تلك المتعة الخالدة إلا أن عددها كان قصيرا، وكذا تكون كواكب الأسحار.
فلأستاذنا الأكبر أجزل الشكر، وعليه أشرف التحيات. متعني الله بلقائه طويلا في بيته الأصغر بلبنان، وما أيلول ببعيد إن شاء الله.
وختاما، أقبلكم أحر القبلات الأخوية.
عين كفاع
4 / 7 / 1952
حضرة الأديب الكبير مارون عبود
16
بمناسبة عيد ميلادكم الخامس والسبعين، اغتنم هذه الفرصة لأوجه إليكم أصدق التمنيات، راجيا لكم صحة وافرة ونجاحات جديدة في نشاطكم الأدبي القيم.
سفير اتحاد الجمهوريات
الاشتراكية السوفييتية في لبنان
سيرغي كيكتيف
حضرة صاحب السعادة سفير اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في لبنان، السيد كيكتيف
من قلب ممتلئ شكرا وعرفان جميل، أبعث لسعادتكم بأحر عواطفي، وأتمنى لكم ولجمهورياتكم المتحدة دوام التوفيق والازدهار، وأرجوكم أن تتأكدوا من فائق امتناني لما أبديتموه حضرتكم، وأبدى الرفاق نحوي في موسكو عاصمة السلام من تقدير، أرجو أن أكون قد استحققته.
إلى حضرة الأديب السيد اليكسي سوركوف المحترم
من شط بحرنا المتوسط؛ حيث أنا اليوم، أبعث إليكم وإلى الإخوان الأدباء السوفييت بتحية الأرز في العام الجديد.
نرجو أن يكون عام سلام عالمي وطيد الأركان، تتحقق فيه آمال الحسني النية.
تفضلوا جميعا بقبول أحر تحياتي.
الكسليك «جونيه»، 1960
معالي الأمير الجليل
17
بعد الاحترام الفائق والتحيات الحارة، أعرض:
تشرفت برسالتكم الكريمة اليوم ولم يبق من الأجل المضروب لكتابة المقال إلا أسبوع، وأسبوع لا يكفي لكتابة موضوع رصين لمجلة أرصن؛ لأنه يقتضي له مراجعات وتفتيش، ونحن في هذا الأسبوع الباقي من الشهر غارقون في امتحانات المدرسة وحفلتها، فإذا كان عندهم متسع من الوقت، فأنا أستطيع أن أكتبه وأضعه في البريد الطائر يوم 21 تموز بالضبط.
فإذا وافقتم على ذلك أبرقوا لي هكذا على عنواني الآن:
عاليه، مارون عبود
نوافق.
إن مثل هذا الموضوع لا بد له من مراجع، واعتمادي في ذلك على مكتبي وشيوخ القرية، ولا أتمكن من ذلك إلا في أوائل تموز إذ أذهب إلى بيتي في أوائل تموز.
وختاما، تفضلوا بقبول احترامي.
سيدي الأستاذ الرئيس، أيدك الله
18
باعتزاز وفخر، أتشرف بالانتساب إلى مجمعكم الموقر مستظلا راية رئاستكم، وسأبذل قصارى جهدي حتى أكون عند ظن الأستاذ الرئيس الجليل والإخوان، أعضاء المجمع العاملين المحترمين.
لقد انتخبتموني فتوجتم بياض شعري بإكليل مجد أدبي؛ فلكم شكري الذي يعجز قلمي عن التعبير عنه، والله نسأل أن يوفقنا جميعا إلى خدمة لساننا العربي المبين وأمتنا الحبيبة.
وتقبلوا ختاما، يا معالي الرئيس الجليل، تحياتي الحارة، واحترامي لأخلاقكم الرفيعة، وتقديري لعبقريتكم الفذة في الصناعتين.
عاليه
10 / 3 / 1955
سيدي الدكتور
19
ما وجدتني استحققت بعد شكر العميد. لقد استعجلت يا سيدي، فأمامنا درس وجه طه حسين الجديد. وبكلمة أوضح اتجاه الدكتور وتوجيهه في هذا القصص الناتئ الخطوط، المتناسق الألوان.
أما عن الشرف الذي أوليتنيه بدعوتي إلى دار حكمتك - الكاتب المصري - فاسمح لي أن أقول: قد دعوت مستجيبا، «وقد تجوز فلوس بخارى في الدنانير.»
إنني مستعد للنضال في الجبهة التي تنتدبني إليها؛ فتفضل واقترح، أما أنا فلي شرط واحد، وهو حرية القول، وسواء عندي كان ذلك في الدار أم كان في المجلة.
اقبلوا سيدي تحياتي واحتراماتي مع أصدق عواطفي وأحرها.
سيدي الرئيس
20
بعد تقديم أسمى الاحترام، أعرض لفخامتكم:
هذا كتاب آخر ظهر أمس، جئت أتشرف برفعه اليوم إلى فخامتكم، وهو مجموعة صور لبنانية انتزعتها من فم الزمان قبل أن يلتهمها، ونشرتها قبل أن تطويها الأيام وتطويني.
إنني أرفع هذه الوجوه اللبنانية المختلفة الأشكال والألوان والميول إلى أمثل وجه لبناني عرفه تاريخ هذا الجيل.
أبقى الله سيدي للبنان العريق؛ ليظل معززا مرفوع الرأس. «وإذا سلمت له سلم.» كما قال أبو عبادة لممدوحه المعتصم.
أخيل إميل
21
أقبلك القبلة الأخوية، وأحمد الله على تذكرك معلمك بعد ربع قرن فأكثر، فدعوته إلى حفلة الكوكتيل التي أقمتها يوم الأحد ، ولكن سوء حظي حال دون حضوري. كنت في عين كفاع والرسالة قعدت تنتظرني في عاليه، فتناولتها أول أمس «الأربعاء»؛ فخيرها بغيرها ...
وسأحضر الأربعاء خصيصا إلى الندوة لأسمع محاضرتك، وبعد: فقد مررت أمام قصرك الجديد منذ ثلاثة أسابيع فأعجبني السور وكيف تكون الدور، ثم رأيت صورتك مع الأحبار الأجلاء الذين كرسوه بالماء المبارك. بارك الله في عمرك وفي عائلتك الكريمة.
ليس لي حق تكريس الماء، ولكن عندي خمر. وقد قرأت منذ عامين أنك أعددت في القصر كهفا خاصا بالنبيذ، وبناء على هذا سأحمل إليك عند ذهابي إلى البيت للانتخاب الفرعي الكسرواني ثلاثة صناديق من أنواع خمرتي؛ 30 زجاجة مختلفة الأعمار.
أما في الموسم القادم، أي في هذا الصيف، فسأعد لك مائة زجاجة: مرة وحلوة وبين بين، إن شاء الله.
أعرف أنك تستطيع أن تشتري ألوف الزجاجات، ولكن خمرتي مختلفة عن سواها نكهة وطعما وجودة، والامتحان أكبر برهان.
فاعذرني على هذا التطفل؛ فالرجل لا تدب إلا حيث تحب.
احتراماتي لحضرة السيدة عقيلتكم والآنسة ابنتكم، وحرسك الله وصانك.
عاليه
17 / 4 / 1953
حضرة الأستاذ مارون عبود المحترم، بيروت
لأستاذي الفاضل سلاما واحتراما
وبعد، أشكركم على تهنئتكم بالعيد المجيد، وتمنياتكم الصادقة، والمشروب الذي تلطفتم بإرساله، فثملت للذكريات السعيدة داعيا الله أن يعيده عليكم وعلينا بأحسن حال، وأهدأ بال.
المخلص
إميل البستاني
بيروت في 26 / 4 / 1954
سيدي المدير المحترم
بعد التحية، كانت حلوة جدا زيارة مصر العزيزة والتعرف إلى أدبائها، ولكنني آسف جدا؛ لأن طبيبي لم يرخص لي بالسفر، فالعمليتان الجراحيتان لا يزال أثرهما ملموسا، فأرجو قبول عذري؛ فما أخرني عن الرد إلا درس الموقف من جميع نواحيه، ثم الخوف من الخلف بالوعد.
وختاما، تفضلوا قبول فائق احترامي.
عين كفاع، لبنان
26 / 7 / 1956
سيدي الرئيس
بعد تقديم فائق الاحترام، أعرض لفخامتكم:
إن وقفاتكم المجيدة في سبيل هذا الوطن تزيدني كل يوم محبة لكم، وتعلقا بكم، ناهيك بالعنفوان الذي لا ينتزعه من صدورنا كر السنين والأجيال؛ فنحن أبناء تلك البقعة التي ترعرع أدونيس على شاطئها اللازوردي لا نحجم في مجال الفخر، بل نقول: الرئيس اده منا.
وهناك رابطة عامة بيننا. كلانا، يا مولاي، يسعى لتأسيس لبنان، فخامتكم سياسيا ونحن أدبيا، فمنذ سنوات والسعي مستمر؛ ليظهر لبنان العريق الثقافة بأجمل وجه، وحجتنا نوابغنا الذين شرفوا الأجيال الغابرة، وحجتنا أيضا أن هذا العرين لم يخل يوما من الأسود، وحسب هذا الجبل فخرا أن تكون أنت رجله.
نحن نكافح، يا مولاي، ونجاهد حتى آخر نفس، ولكن ما ضر لو أمرتم القائمين على شئون التربية الوطنية أن يلتفتوا إلى الأدباء.
هذا ما دفعني يا سيدي إلى رفع كلمتي إليكم، وهذا أيضا ما حملني على تقديمها إلى فخامتكم الآن؛ فقد خفت أن لا تحيطوا بها علما.
وفي الختام، أسأل الله تأييدكم عضدا للبنان، وفخرا للبقعة التي نشأ فيها أصلك.
الداعي لفخامتكم
عاليه
15 / 12 / 1937
أخي الأستاذ جميل جبر
تحيات أخوية وبعد، فقد عدت إلى عاليه من عين كفاع مساء الاثنين ليلا، وصباح الثلاثاء تشرفت بمطالعة بطاقة الدعوة؛ فأسفت جدا لهذه الفرصة الثمينة.
إني أتمنى لك مزيد التوفيق، ولا زال منزلك عامرا، وخيرك غامرا. والسلام عليك.
21 / 4 / 1954
الأخ الحبيب إميل
22
في طيه حبر على ورق. الكلمة عن الشيخ العلايلي فيها خطأ كثير.
حضرت في الموعد إلى دار بيروت ولم أجد أحدا، فحشرت بطاقتي في مكان ما من الباب وصعدت إلى عاليه.
لم أقرأ بريد مارون عبود عن مربي الجيل! وقد مر عليه أسبوعان، فما السبب؟
وختاما أقبلكم.
20 / 5 / 1954
جونيه، زوق مكايل، القصر الجمهوري
23
حضرة صاحب الفخامة الأمير اللواء فؤاد شهاب، رئيس الجمهورية المعظم
حسبي، يا مولاي، اعتزازا بالجائزة أنها تحمل اسمكم الخالد بأعمالكم النزيهة النبيلة، عسى أن يمن الله علي بالقوة فأتمكن من التشرف بناديكم لإملاء عيني من طلعتكم الشهابية. عشتم للأمة ذخرا، وللبنان مدبرا ونصيرا.
بيروت، الجامعة الأميركية، الدكتور قسطنطين زريق
نموذج من خط صاحب الرسائل في آخر حياته.
يا أصدقاء الكتاب المحترمين
أشكر لكم تهنئتكم، وأشارككم والأمة الثناء الطيب على الأمير العظيم الذي لا تفوته مكرمة. لقد أحسنتم اختيار صديقكم - الكتاب - فهنيئا لكم ولنا جميعا هذا النشاط الزاخر.
بيروت، وزارة التربية الوطنية
صاحب المعالي المفكر وزير التربية الوطنية الأستاذ كمال بك جنبلاط
إنكم عين الكمال والمجد، سيدي، فأسأل الله أن يحفظكم ويؤيدكم.
شكرا ودعاء حارا بأطول الأعمار.
بيروت، وزارة التربية الوطنية
حضرة المدير العام الأستاذ فؤاد بك صوايا
أشكر لكم من صميم الفؤاد، وأدعو أحر الدعاء كلما خطرتم بالبال، أخذ الله بيدكم لتظلوا ناهضين بأعباء وزارتكم الجليلة.
بيروت، دار المكشوف
الشيخ فؤاد حبيش
آسف من أعماق قلبي لأني لا أستطيع رؤيتكم في ناديكم. إن للشيخوخة أحكاما لا مرد لها. حفظك الله.
طريق عين كفاع
صاحب الفخامة رئيس الجمهورية اللبنانية المعظم
1
سيدي
لا أرمي من وراء ما أقوله لك إلى استنهاضك للعطف علينا، فأنا من رأي الشاعر القائل:
ذهب الذين تهزهم مداحهم ... ... ... ... ...
لكنها مقدمة أحوجتنا إليها النتيجة، فأنت أعلم الناس بالمقدمة، وقد لا تكون جاهلا النتيجة؛ لأنك ابن لبنان في كل عصر، وصاحب البيت أدرى بما فيه، وأشد الناس غيرة عليه.
نذكر المقدمة لأمرين؛ أولا: لنعلم أننا عارفون للجميل وذاكرون، وثانيا: لنصل إلى ما نرمي إليه.
يا سيدي
هذه البلاد - بلاد جبيل - بقممها وأوديتها وكنائسها وأديارها ومدافنها، تتحدث بأعمال جدك العظيم - رحمه الله - وتذكر أياديه البيضاء على الشعب، وخصوصا عليها في هذه البقعة التي اختصها بعطفه وحنانه؛ فقد كانت في ذلك الزمان مشمولة بعناية سعد الخوري، المثلث الرحمات والسعيد الذكر، فأسعدها في عهد الشقاء، وأقرها في زمن الاضطراب، فما كان أشد ارتياحها حين تلقت بشرى رئاسة حفيده العظيم! فعللت النفس بانبعاث ذلك العهد الطيب؛ لأنها لا تخطر لحكام هذا الزمان ببال.
إلا أنه منذ أعوام قليلة نظرت - ونكران الجميل عيب - إدارة النافعة إلى هذه البقعة فأحدثت فيها طرقا جمة أحدقت بنا من كل الجهات، فمن الشمال طريق دير مار يوسف جربتا. وهذه صنعت لبعض راهبات متعبدات نفعنا الله بصلواتهن، ولم ينفق مال لهذه الطريق إلا لأنها ستتصل بنا فتربط بلاد جبيل بالبترون، ومن الشرق طريق بجه، ومن القبلة طريق غلبون، ومن الغرب طريق معاد. ولكي لا يخفى على فخامتكم موقعنا، أتبعت كتابي هذا بخطوط تقريبية؛ لأنني لست بالمهندس ولا بمن يحسن الرسم، فعذرا.
ولما اتصلت الطرق بهذه القرى المعلومة وقف دولاب العمل؛ لأننا لم نلح على أرباب الحل، ولم نلجأ إلى من يؤثرون عليهم، بل لا نريد أن نلتجئ.
وطريقنا مقررة في الدور الفائت من «المنافع العامة»، والغاية من هذا القرار إيصالها إلى من يهمهم أمرهم، فكان ذلك وأهملنا نحن؛ فالرئيس العام يهمه ديره، والمطران بيته. أما نحن فحسبنا رضى الاثنين.
طريقنا، يا فخامة الرئيس، مقررة ومسجلة بالنافعة تحت رقم 2116، بتاريخ 22 آيار سنة 1932، وقد ذكرنا سلفكم الدباس بها، فما نفعت الذكرى! في حين أننا لم نطلب غير حق صراح، ولم نطلب إلا شيئا زهيدا؛ فالمسافة كلها من غلبون إلى عين كفاع ثلاثة كيلومترات معظمها سهل، وأقلها هين لا يحتاج شقها إلى ألفين ليرة سورية.
ولا أزيد مولانا علما بمنافع هذا الخط؛ فهو بمطاوي بلاده، فهذا الخط وسط يبتدئ من جبيل فعمشيت، فدير مار يوسف جربتا، فمار يوحنا مارون، ومن هناك إلى الديمان فالأرز، ولم يبق لوصله غير ستة كيلومترات فقط؛ ثلاثة من غلبون إلى عين كفاع، وثلاثة أخرى من عين كفاع لدير مار يوسف، وبهذه الكيلومترات الثلاثة تنفتح أقرب طريق للأرز صالحة للسير، صيفا شتاء، في جو معتدل.
فهل لفخامة الرئيس المعظم أن يعير هذه الرسالة انتباها؛ فقد مللنا العرائض الرسمية حتى اعتمد علي بعرض القضية على فخامتكم أبناء قريتي عين كفاع ومزرعتي غبالين، وصليب غلبون وبيت الأشقر.
إننا يا سيدي الرئيس منقطعون عن البلاد، حاصلاتنا كلها لا تباع، وإن بيعت فبأبخس ثمن، ومرضانا لا يصل إليهم الطبيب إلا في دور النزع و... و...
فهل تسجلون في هذه البقعة أثرا جديدا لبيت «السعد»؟ فكلنا نذكر ونرى الوادي العظيم - وادي القطين - الذي كان يجيئه جدكم للصيد مع أمير البلاد.
فهناك، يا سيدي، في ذلك الوادي الذي ستخترقه الطريق، سنجل ونسجل اسم «حبيب باشا السعد» على أمثل الصخور ذكرى لفتح هذه الطريق؛ لتقرأ الأجيال اسم ابن لبنان الوفي، نصير الضعفاء الذين لم يستصرخوه ولم يتقدموا إليه بواسطة غير عدله.
وتقبل ، يا سيدي العظيم، طارفا وتالدا، فائق احترامي، وأحر أدعيتي وأدعية مئات ببقائك طويلا.
عين كفاع
30 تموز 1934
سعادة مدير النافعة الأفخم
سيدي
ما أحببت أن أثقل عليك برسالة طويلة؛ ولذلك أوجزت.
تذكر سعادتك أنك كنت مرشدي إلى المرجع الذي يقرر لنا الطريق، وتذكر أن ذلك المرجع الذي نذكره بالخير قرر لنا الطريق، وسعادتك وعدتني بالشروع بشقها في أول آذار. إنني واثق كل الثقة بكلمتك تلك، ولكنني قرأت اليوم أن معالي أمين سر الدولة قابلك مع مستشارك وبحثت ما يجب إحداثه من طرق في هذا العام؛ فعسى ألا تكون نسيت طريقنا - طريق غلبون عين كفاع - فكل آمال عين كفاع والقرى المجاورة لها معلقة عليك. أما إذا كان هناك من مانع جديد، فأرجو أن ترشدني مرة أخرى فتكسب أجر سبع قرى.
وختاما، تفضل، يا سيدي المدير، بقبول فائق اعتباري واحترامي.
عاليه
7 شباط 1936
صاحب المعالي الأفخم
يتشرف مارون عبود، مدير الجامعة الوطنية في عاليه وأستاذ الأدب العربي فيها، بالأصالة عن نفسه، وبالوكالة عن أهالي قريته عين كفاع في بلاد جبيل، بعرض ما يأتي:
لقد ظلمتنا الأقدار بأن أوجدتنا في بلاد جبيل المحرومة من وسائل العمران، وظلمتنا الحكومة طيلة سبعين سنة بعدم اهتمامها بنا حتى بإصلاح طريق الحافر غير الصالحة للمرور عليها، بل غير الموجودة تقريبا.
بقينا مدة ستين سنة نطلب من الحكومة ونتوسل ونرجو ونسترحم، حتى اعتبرت طريقنا منذ سنوات من المنافع العامة وقررت شقها، وعدنا بعد ذلك نتوسل مدة سنوات حتى أمر فخامة رئيس الجمهورية السابق في العام الماضي سنة 1935 بشقها، ووعد حضرة مدير النافعة بمباشرة العمل في هذا الشهر قائلا: قد انتهت والحمد لله.
وكل ما نطلبه نحن هو شق الطريق من قرية غلبون إلى أول خراج قريتنا عين كفاع، ونحن نشق ما بقي على نفقتنا. وهذا الذي نطلبه من الحكومة الجليلة لا تتجاوز مسافته كيلومترا واحدا، ولا تبلغ نفقته الألف ليرة سورية لبنانية. وهذه القيمة، يا سيدي، أقل من كلفة كوع، أقل من كلفة عمار «شلقة ». ومن هذه الطريق تنتفع سبع قرى تدفع ضرائب الطرق منذ سبعين سنة، ولا تنفق الحكومة على طريقها غرشا سوريا، مع أنها تعمل للقرى الطرقات الواسعة وتزفتها، فتكلف مئات ألوف الليرات.
يظهر أننا نحن متساوون مع غيرنا بالضرائب فقط؛ ذلك لأن ليس لنا نواب يهتمون بشئوننا، ولا متوظف منا.
راجعنا اليوم حضرة مدير النافعة بقضية مباشرة شق الطريق، فأجاب أنه عرضها على معاليكم يطلب موافقتكم عليها. كل هذا يصير اليوم بعد قوله: انتهت والحمد لله.
إننا نحمد الله مرة أخرى على أن هذه الموافقة تطلب من شخص هو في اعتقاد الجميع خير ضمانة للعدالة والإنصاف ورفع الظلم، تأبى نفسه الكبيرة أن يبقى شعب مثلنا مظلوما طول سبعين سنة؛ لأن لا واسطة له غير حقه الصريح، وطلبه مساواته بغيره من الرعايا اللبنانية.
فمن شخصكم الكريم ألتمس الموافقة على شق هذه الطريق - طريق عين كفاع - التي لا يستطاع المرور عليها.
وتفضلوا بقبول فائق احترامي واعتباري وشكري.
عاليه
16 / 2 / 1936
صاحب الفخامة رئيس الجمهورية اللبنانية المعظم
سيدي
يتشرف مارون عبود، مدير الجامعة الوطنية بعاليه، من قرية عين كفاع في بلاد جبيل، بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن أهالي قريته عين كفاع وجوارها، بعرض ما يلي:
إن قريتنا عين كفاع مع ست قرى حواليها لا طريق لها سوى طريق حافر مخربة غير صالحة حتى لمرور البهائم، ومنذ سبعين سنة؛ أي منذ نشأة المتصرفية إلى اليوم، ونحن ندفع بدل طرقات ونطلب إصلاح طريقنا هذه الوحيدة. ولم يكن من يسمع ولا من مجيب ولا من رحيم؛ لأنه لا نائب ولا متوظف من ناحيتنا.
وبعد سعي ومراجعات لا تحصى، قررت الحكومة اللبنانية اعتبار طريقنا من المنافع العامة ووجوب عملها، وذلك سنة 1932 في 22 أيار تحت رقم 2116، مديرية النافعة.
ثم بعد مراجعات وتوسلات واسترحام سنوات، صدر أخيرا أمر فخامة رئيس الجمهورية السابق حبيب باشا السعد - حفظه الله - بشقها، وذلك في 17 تشرين الثاني سنة 1935 تحت رقم 1007، على أن تؤخذ نفقاتها من فضلات ميزانية سنة 1935، أو توضع في ميزانية 1936.
ومضت سنة 1935 وجاءت سنة 1936، فما أخذوا لها شيئا من الميزانية الأولى ، ولا وضعوها في الميزانية الثانية، وبقينا حيث كنا نرجو ونسترحم ونراجع، حتى طلب حضرة مدير النافعة من أمانة سر الدولة، بتاريخ 24 شباط سنة 1936، تحت نومرو 1073، الموافقة على صرف ألف ليرة سورية لشقها من قرية غلبون إلى أول خراج عين كفاع، ومن أول الخراج حتى الضيعة؛ نشتغل نحن بأيدينا ونوصلها إلى قريتنا، فوافق معالي أمين السر الدكتور أيوب ثابت، ورفعت الأوراق إلى مقام فخامتكم لتصديقها. ولنكد طالعنا، رأيتم فخامتكم أن تؤجل إلى آخر السنة ليؤخذ لها هذا المبلغ من فضلات الميزانية إذا فضل شيء حينئذ.
سيدي الرئيس
أقسم لك أن هذه الطريق لا يحتمل تأجيلها، وهي ضرورية لحياتنا وسلامتنا، فالمرضى منا يموتون ولا يصل إليهم طبيب، وحاصلاتنا تذهب ضياعا، ولا نتمكن من نقلها إلى الأسواق.
إن كل ما نطلبه، يا مولاي، هو صرف ألف ليرة سورية لا غير. وهذه القيمة أقل من كلفة عمار «شلقة» وتقويم كوع! وهل يجوز أن نبقى نحن بلا طريق حافر، على الأقل، صالحة للمرور، ونموت بلا طبيب، وتبقى حاصلاتنا في بيوتنا، وكلها من الأثمار التي لا تنقل بسهولة؛ كالتين والعنب والإجاص وغيره، بينما القرى الأخرى يصرف المال الكثير على توسيع طرقاتها واختصارها؛ لتقريب المسافة وتزفيتها لتسهيل المرور؟
هذا وكلنا متساوون بالضرائب، وقد نؤديها نحن المساكين قبل غيرنا!
لا أظن مولاي الرئيس يرضى بذلك، وهو المشهور بضميره الحي، وحبه للعدل والإنصاف.
وتفضلوا، يا فخامة الرئيس، بقبول دعائنا جميعا وشكرنا واحترامنا.
8 آذار سنة 1936
حضرة السيد مارون عبود المحترم، مدير الجامعة الوطنية، عاليه
جوابا على استدعائكم المقدم إلى فخامة رئيس الجمهورية، أتشرف بإبلاغكم أن مهندس الدائرة الفنية يقوم حاليا بتخطيط طريق عين كفاع والقرى المجاورة لها.
وتفضلوا بقبول احترامي.
مدير غرفة الرئاسة
جورج حيمري
معالي وزير الأشغال العامة في الجمهورية اللبنانية الأفخم
سيدي الوزير
يتشرف مارون عبود من قرية عين كفاع، جبيل - مدير الجامعة الوطنية بعاليه - بالأصالة عن نفسه، وبالوكالة عن أهالي قريته، بعرض ما يأتي:
بعد مراجعات وتوسلات مدة ثلاثين سنة، بشق طريق لقريتنا عين كفاع المحرومة حتى من طريق حافر صالحة للسير، تقرر أخيرا إنشاء هذه الطريق من غلبون إلى عين كفاع، وأدخلت في ميزانية هذه السنة 1937. ولما كان خططها المهندس السيد وديع البعقليني، بناء على أمر فخامة رئيس الجمهورية المعظم، وقدم خريطة ذات خطين؛ الأول: طويل يصعد إلى أعلى غلبون ثم ينزل إلى محلة الصليب فعين كفاع، والثاني يمتد من أسفل غلبون إلى الصليب فعين كفاع، وهو أقصر جدا من الخط الأول، ولا يدري حضرة رئيس المكتب الفني أي الخطين تفضل الحكومة الجليلة ليلزم الطريق؛ لذلك جئت ألتمس من سعادتكم الاطلاع على الخريطة وصدور أمركم الكريم بالخط الموافق؛ ليباشر بتلزيم هذه الطريق قبل فوات الأوان.
وتفضلوا، في الختام، بقبول فائق احترامي ومزيد شكري.
عاليه
14 / 2 / 1937
سيدي الوزير الجليل
2
بعد جهاد متواصل عشرات السنين، أمر فخامة الرئيس السابق بشق طريق لعين كفاع اليتيمة البائسة، وذاك في سنة 1935، فأجل إلى سنة 1936، ثم إلى هذه السنة، فأدخلت في الميزانية وصدر مرسوم جمهوري باعتبارها من المنافع العامة ولزوم شقها، فراجعنا من يعنيهم الأمر كمعالي الوزير السابق إبراهيم بك حيدر، فأصغى إلينا، ولكن «التعديل» حال دون ذلك.
ومنذ أسابيع، راجعت مديرية النافعة وأقلامها وحتى الآن لم أفز بشيء. صدقني يا معالي الوزير الشريف إن قلت لك: إن ما قدمته من العرائض الرسمية حتى الآن لا يقل عن المائة، والغريب أنني ما زلت حيث كنت؛ كمن يسعى في حلم ويظل في فراشه.
فهل يتنازل معالي الوزير ويأمر بشق طريق عين كفاع أمرا جازما يغنينا عن التوسلات والمراجعات التي لا نهاية لها؛ فقد حان - كما قالت أم الزبير - لهذا الفارس أن يترجل؟
فها أنا أكتب إليكم، كما يكتب مظلوم إلى من ينصفه، متوسلا إليكم بحرمة أجدادكم، وبالهواء الذي تنشقه كلانا، والماء الذي نرده، وبالاختصار برابطة البقعة التي لا نصير لها غيركم، وهي تفتخر بوزارة أحد أبنائها، وهو سيد في ميلاده وجهاده.
والسلام على سيدي ورحمة الله وبركاته.
9 نيسان 1937
أخي
3
فتح طريق عين كفاع دخل في موزانة السنة الجديدة، رغم قلة المال، والمشاريع الكثيرة، والنقليات والتقلبات المعدة، والضربات السياسية الساخنة ...
وقد عرف الأستاذ كسيب هذا الخبر الطيب من فخامة الرئيس.
الحمد لله. اكتب إلى حبيب بالنبأ الخطير، وادع للسلطان بالنصر.
أصافحك بولاء.
سيدي
4
تحية واحترام، وبعد: فما نسيت حسن استقبالكم واهتمامكم؛ ولهذا جئت شاكرا ومذكرا، فعسى أن تكون جرت الرياح بما تشتهي السفن، وتقرر نهائيا «تلزيم» طريق عين كفاع في 7 أيلول كما أمر معالي الوزير، وأمرتم بكتابة الإعلان.
لم نقرأ شيئا عن ذلك في الصحف؛ ولذلك جئت مستعلما من جنابكم، ورجائي كبير أنكم تتلطفون بكلمة تروي الغليل؛ فقد حان لهذا العليل أن يشفى أو يفارق.
حفظكم الله وأبقاكم.
عين كفاع
28 / 8 / 1937
سيدي، صاحب الفخامة المعظم
بعد تقديم أسمى الاحترام، أعرض:
عشرون قرية أو أكثر من وسوط بلاد جبيل وساحله الشمالي تشكو العطش، ولا تجد للسقيا غير ماء الشتاء الملوث غالبا. تسمع قرانا بمشاريع الري، وتدفق اعتماداتها هنا وهنالك، وهي محرومة حتى من إرواء الغليل؛ ففي كسروان مشروع نبع العسل، وفي بلاد البترون مشروع نهر الجوز، وشطنا البحري له مياه نهر إبراهيم، إلا هذه البقعة المسكينة التي نعيش كما عاش جدودكم فيها، فإنها تشكو العطش وليس من يرحمها، فحالها كما قال الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمول!
أجل، هذه هي حالنا؛ فجردنا ريان، وساحلنا عطشان! وكان لنا أمل بنبع يخرج من أسفل جبل ميفوق يسمى نبع قطرة، وقرانا: بجة، الخاربة، عين كفاع، غبالين، معاد، غرزوز، بخعاز، شيخان، المنصف، الحلوة، البربارة، كفر كدة، شموت، جدايل، الريحانة، حصرايل، كور الهدى، الرومية، غلبون، شامات، حصارات، حبالين، الكفر، كفون، غرفين، عمشيت، تنتظر جر مياهه إليها لتشرب.
قد طالبنا بذلك، في عهود مضت، فكان الجواب المثل المشهور: «أسقيك بالوعد يا كمون.» ومنذ أيام - إن صح ما شاع - تحطم هذا الأمل الذي عشنا به زمنا؛ إذ سمعنا أن الرهبانية اللبنانية تدعي ملكية نبع قطرة؛ لأنه انبثق منذ بضعة عشر عاما من كعب أرضها.
ليس، يا سيدي، للرهبان أقل حق في هذا النبع لتدعي ملكيته وتتصرف به تصرف المالك، وتعزم على جر مياهه إلى دير كفيفان. إنها إذا قدرت - ولا تقدر ما دام في الدنيا عدل - تخالف كثيرا من النواميس الطبيعية والعرفية: (1)
إخراج ماء من منطقة هي في حاجة قصوى إليه. (2)
من نواميس المياه أن تذهب نزولا، فآباؤنا الرهبان - هداهم الله - يريدون أخذها بالورب وطلوعا؛ ليرضوا مآربهم وعنادهم المشهور. (3)
المياه ملك الدولة، وهم يريدون إن استطاعوا أن يتصرفوا بها تصرف المالك بملكه، مدعين أنهم يجرونها إلى دير لهم هناك، مع أن لهم عندنا ديرا مثله هو دير معاد.
يظهر أن المحبة خصائص، كما يقولون؛ ولهذا يفضلون ديرا على دير؛ ليغتصبوا ماء هو ملكنا، وليس لهم فيه أقل حق مكتسب.
يقولون: «الماء لا يمر على عطشان.» ولكن هذا لا يفهمه الراهب، ويتجاهلون كل ذلك لينفقوا من مال أوقافنا أضعاف الأضعاف، ولا يبالون بنا مع أنهم يعلمون أن مال وقف عين كفاع مثلا لا يسوغ لأحد، مهما كبرت سلطته الدينية، أن يأمر بإنفاقه في قرية أخرى إذا لم ترض القرية صاحبة الوقف، فكيف يحق للرهبان إذن أن ينقلوا مال وقف من مقاطعة إلى مقاطعة، وهذه المقاطعة مضطرة إليه ولا تحيا بدونه.
إذا أرادوا أن يسقوا دير كفيفان، فعندهم ينابيع عديدة يتنعمون بها؛ مثل: نبع حريش ونبع المغارة وغيرهما، وهي أقل تكاليف، وأغزر منافع، وهل يحق لهم أن يجودوا بمالنا على غيرنا؟
فإلى مقامكم الأسمى أشكو جور الذين يعيشون بأرزاق الأجداد، ويعطشون الأولاد والأحفاد، ولا يسقونهم كأس ماء بارد باسم من ترهبوا حبا به، ونذروا العفة والطاعة والفقر، وحبا به أيضا وقف المؤمنون من أجدادنا أرزاقهم، وحبسوها على الرهبان الأتقياء في ذلك الزمان.
وبناء على كل ما تقدم عرضه لفخامتكم، ألتمس إحالة عريضتي هذه، التي تدعمها عرائض القرى الآنفة الذكر؛ لأنني بلسانها أتكلم وألتمس ما ألتمس، آملين جميعا أن نشرب في عهدكم، وإذا لم يصغ إلى صوتنا عشنا عطاشا إلى الأبد، أو تركنا قرانا خاوية على عروشها.
فتفضلوا بأمر من يعنيهم الأمر أن يدرسوا قضيتنا الخطيرة بترو وإمعان ، وإذ ذاك نروي ظمأنا ونشرب كغيرنا من أبناء لبنان وهنيئا لمن شرب.
أيد الله فخامتكم وأمدكم بعونه؛ لتقوموا بالأعباء العظمى الملقاة على عاتقكم، سيدي.
19 / 7 / 1945
صاحب الدولة رئيس الحكومة الأفخم
سيدي
احترامات فائقة
وبعد، فأعرض لدولتكم أن بقعتنا محرومة من جميع المنافع، وليس لها من يعتني بها؛ لأننا كما يقول المثل: كل يغني على ليلاه، وليلانا نحن مسكينة ليس لها من يغني عليها، فارتأت القرى المحرومة من المنافع أن تستغيث بدولتكم وتستجير بكم؛ فطريق عين كفاع - دير مار يوسف ذات منافع عامة لبلادي جبيل والبترون، وهي أقرب الطرق العمومية لوصل المحافظتين، وهي أوجز خط يصل جنوبي لبنان بشماليه. إن هذا الخط حياة لبلادي جبيل والبترون.
إن هذه الطريق قد خططت تخطيطا نهائيا يوم كان حضرة النائب أمين بك السعد، وزير الأشغال العامة، وهي زهاء ستة كيلومترات، فألتمس من دولتكم باسم القرى التي ليس لها نصير تخصيص اعتماد لهذه الطريق الهامة جدا في ميزانية عام 1946، رافعا لمقامكم، برفق عريضتي هذه، بضع عشرة عريضة موقعة من أهالي القرى، ومصدقة من مختاريها، ولا يزال هناك بضع عشرة عريضة قيد التوقيع، وسنرفعها قريبا لمقامكم الرفيع.
دمتم سندا لمن لا سند لهم، وبقيتم للبلاد جمعاء خير محب وغيور على مصالحها العامة.
عين كفاع
11 / 8 / 1945
بين مارون عبود وأنسبائه
سيدي العم، دام سالما
1
مسكت القلم فسار على القرطاس وكتب لكم ما يمليه عليه حبكم، وينزله عليه عرفان الجميل لشخصكم المحبوب، وأنتم تعلمون منزلتكم في قلبي، ولا حاجة إلى التحليس أو التدليس؛ فالقلوب على حسها.
بارحتكم صباح الثلاثاء ونار حبكم يزيدنا اضطراما على الفراق، فوصلت بيروت قرب العصر الساعة الرابعة بعد الظهر، ونمت تلك الليلة في المدرسة خارجا عن منام التلاميذ في محل خصوصي للضيوف، وصباح الأربعاء نزلت إلى المدينة أخذت بعض أغراض لازمة لي في المدرسة، ودخلت المدرسة بعد الظهر، وتعينت صفوفي هذا النهار الجمعة. في اللغة العربية حضرة العالم الفاضل الشيخ سعيد الشرتوني في صف الفصاحة، وفي الإفرنسية في الصف الرابع الجزء الأول عند بادري فرنساوي لا يتكلم في اللغة العربية. أما أنا فكان من الواجب أن أكون في الصف الخامس الجزء الثاني؛ لأني كنت في العام الماضي في الصف السادس الجزء الثاني، ويستحيل على كل تلميذ، مهما كان ذكيا وفطنا، أن يعمل هكذا؛ لأنه يوجد فرق عظيم بين تلامذة الصف السادس والصف الرابع. ومن الأمر الطبيعي أن ابن خمس عشرة سنة لا يكون قويا في القوى العقلية والجسدية كابن خمس وعشرين سنة، وبهذه المسألة توفر علي سنة كاملة، لكني وعدت الأب العالم الفاضل مدير الدروس الخوري بطرس مبارك بالاجتهاد الزائد. فصلوا دائما لأجلي لأقوى وأسير على هذه الطريق، وصفوف الإنكليزية لم تترتب بعد، وكذلك التركية والحساب.
نموذج من خط المؤلف سنة 1905.
في الطريق التقيت بأحد أولاد عمنا من عبرين، ولا إخالكم تعرفوه؛ لأنه كان تلميذا في مدرسة عينطورة، والعام الماضي درس بها اللغة الإفرنسية. وهذه السنة يدرس اللغة الإفرنسية في مدرسة مار بطرس النصر في جونيه، واسمه سمعان خشان. وبعدما تحدثنا برهة في جبيل عن أحوالنا التقيت به ثانية في نهر إبراهيم، وطلب إلي إذا كنت أرغب في التدريس، أي التعليم في اللغة العربية والأجرة خمس وعشرون ليرة فرنساوية، ليس في المدرسة التي هو معلم بها هذه السنة، بل في عينطورة. ولعلمي حق علم أن والدي لا يرضى أجبته لا وأنا لم أزل قاصرا عن اللازم في اللغة الإفرنسية. أما إذا صدقت الظنون في السنة القادمة - إن وفق الله - نتعلم بلا دفع راتب، ومتى تقرر الأمر أخبرك عنه لتشاركني في فرحي، لكني أطلب منك ومن حضرة حرمة سيدي العم، بعد طلب رضاها وإهدائها أذكى السلام، أن تصليا لله وتتضرعا له لتوفيقي بهذا الأمر الباذل جهدي لتتميمه؛ لأن به يسقط حمل ثقيل عن منكب أبي في الأتعاب التي يتكبدها، والتي لو عرفت قدرها لوصلت الليل بالنهار، لا أبالي بالأتعاب. أرجوكم الإفادة عن سيدي العم أنطون، وابن عمي مخايل، والتطمين عن حالتهما، عساهما حصلا على الصحة. إن أفكاري من هذا القبيل والأحلام تنذرني بأشياء محزنة جدت في طرفكم ، عساها تكون كاذبة. من جهة خادم الرعية، أخبروني على من تم رأيكم أم هل بقيتم على الحال التي فارقتكم بها؟ لا لزوم أن أقول لك أنك كأب عمومي للعائلة كلها، وبالأخص نحن، ولا لزوم أن أقول لك أن تكون وأبي حالا واحدا؛ فالرابط الأخوي يلزمكما بذلك. والسلام.
ولدك
مارون عبود
عن مدرسة الحكمة في 3 / 10 / 1905
يا ابن عمي
2
ألثم عارضيك، وأقبلك قبلات الإخاء، وأسأل خاطر والدتك العزيزة، وأطلب توفيقكم دائما. وصل تحريرك المؤرخ في 28 كانون الأول في 3 الجاري، ووصل قبله تحريرك المؤرخ في 22 كانون الأول، وأجبتك عليه مطولا، وأنا على ثقة من أنك لم تكتب لي إلا بعد وصول تحريري بيدك، فلو كنت عازما على الكتابة ما كنت نسيت، بل كنت فقت قبل ذلك الوقت، فحنا وعبد الأحد وحدهم الذين كتبوا لي ولأقاربهم هنا عند فتوح البوستة.
قلت: إن تحاريري الأربعة وصلوا ليدكم مع أنني كاتب تحارير غيرها، فيظهر أنها لم تصل بعد، مع أنني أرسلتها للبريد مع خادم اللوكاندة؛ لأنني مرضت في بيروت بالحمى الإسبانيولية ولم أتمكن من الذهاب للبوستة بنفسي، وبقيت في بيروت ثلاثة أسابيع وشفيت، والحمد لله.
تلومني على اختصاري؛ فللظروف أحكام، وفي ذلك الوقت ما استطعت أن أكتب أكثر من ذلك لأسباب. توبخني في تحريرك وتلومني؟! فلم نفسك على تقصيرك؛ فأنا غير مقصر بشيء، فمن أعال عائلة بأسرها مدة الحرب لا تكون مكافأته هذا التحرير الناشف منك.
تقول لي: إنك دارس العلوم، ولو أردت أن تنسخ توراة بكاملها لا تكلفك خمس دقائق. نعم إن الكتابة عندي هينة إذا لم يكن الدور علي، ولم يكن يوجد ظروف تمنعني عن كتابة كل شيء. أما ما جرى في لبنان فمحصور في ثلاث كلمات: ظلم وجوع وموت، والتحرير الذي تطلبه موضحا، فقد أرسلته لك. والآن أزيدك إيضاحا. وتقول أيضا: إنك متكدر من تسكير الطرقات وقطع التحارير، فهذا كدرنا أكثر؛ لأنه لو بقيت الطرقات مفتوحة كنتم عاونتونا في حملنا الثقيل في مدة الحرب. أما فراقكم فصعب علينا جدا، وقبح الله الفراق، ثم كتبت في تحريرك أن أوضح لك عن كل شيء، وأن لا أترك شيئا أبدا أبدا؛ لأنه يهمك معرفة كل شيء صار، وأنا أقول لك: يهمني أيضا أن تعرف كل شيء حتى تصير تعرف قيمة الناس، وتميز الصالح من الطالح، وترفع الغشاء عن عينيك. تطلب مني أن لا أخفي عليك شيئا من جهة إخوانك، فقد برح الخفاء في تحريرنا الماضي. أما على قولك أنك لا تصدق أن إخوانك بعدهم أحياء ما لم ترهم أو تر صورهم، فأقول لك: آمن يا توما بما كتبت لك. إلياس مات بالحمى، وروحانا مات بمرض داخلي، والبقية أحياء، ولكي تراهم فعند حضورك للوطن إذا أمد الله بأجلنا وآجالهم. أما صورهم فعن قريب تصل إليك بعد رجوعي من بكركي وبيروت. أما كدرك على والدتي وأخي، فهذا أمر لا أشك فيه أبدا. والدتي ماتت بعد إلياس وروحانا بمدة شهر ونصف تقريبا.
تسأل عن ابن عمك طنوس - فالخير والهنا يسأل عنك - صحته جيدة، وهو مع إخوتك، وكلهم بصحة جيدة يهدونك سلامهم.
لوسيا ووالدتها وستك ماتوا. أعاضنا الله بطول بقاك.
أما قولك لي: أيش وصلك إلى غبالين! فغبالين تابعة لقريتنا، وأحب أن أذكر ذلك من جملة ما ذكرت لكم. أما قولك: غير يا مارون كل أطباعك، فأنا كذا خلقت حرا، وأطباعي من أحسن الطباع، ولا عندي خبث ولا كذب، وقلبي نقي. أما أنت فلا تفتح أذنيك كثيرا، وسلم أمورك إلى رب الورى تسلم، واعلم أنني لا أحيد عن جادة الحق والصدق، وأقطع لساني وأكسر قلمي إن نطق أو كتب غير الحق.
قلت: إنه في أقرب وقت تصلني الدراهم متواصلة تلغرافيا، ولحد الآن لم ترسلوا لا خطيا ولا تلغرافيا، وتقول أيضا: إن كل أولاد قريتنا مستعدون لإرسال الدراهم تحت يدي، فهذا لا يهمني؛ فإن أرسلوا تحت يدي قبضتها وسلمتها لأهلهم؛ خدمة لهم ولا منفعة لي منها؛ لأنني لا أريد أن أنتفع من مال الناس. أما قولك لي: «لا لزوم أن أوصيك في إخواني، والذي يكون مثلك لا يلزم له توصية بمن له.» ففي هذه العبارة صدقت ، فمن أوصاني بهم عندما كان ق... يأكل الخبز والعسل وولده يموت جوعا أمامه، ولكن الله على الباغي فقد مات ي... ولحقه ق... جوعا.
عتب علي صهرنا بطرس الغلبوني لأنني لم أذكر شيئا عن ولده، فماذا يريد أن أقول له؟ أرسله سمعان دياب ليحمل له الطحين من جبيل، فقصر تحت حمله في «دقار غرفين»، فتركوه هناك وفي الغد مات، ولأمانته لم يمس الطحينات ومات جوعا. فيا لهف نفسي وحرقة قلبي عليه!
تقول: إن ساسين عاتب علي أيضا، فما سبب هذا العتب يا ترى؟ يقول: إنني لم أذكر ولده، فهذا غير ممكن. أما قولك عن المرحوم نخلة أبي ضاهر أنه كان يكتب لزوجته ابنة خالتنا عتابا وقرادي وأشعار، ومن جملة ما كتب لها يذكرها عندما نام وإياها على سطح القبو، وتريد مني أن أعمل مثله، فأنا لا أقدر أن أكون مثل نخلة أبي ضاهر؛ لأن الله - والشكر له - لم يخلقني مثله. أما طلبك كي تقف على أحوال أقاربك، فهذا بمحله، وقد كتبت لك ولساسين وللجميع عن كل شيء، وكان يجب أن تصبر حتى تصل التحارير التالية الواضحة. أما تهديدك لي بأنك تقطع عنى المكاتبة إن لم أكتب لك عن كل شيء، وتكلف بذلك إنسانا أجنبيا وتتكل عليه، فأنا أقول لك: لا فرق عندي كلفت غريبا أو قريبا، فواجباتي عملتها، والله لا يضيع أجر المحسنين؛ فإن ضاع الجميل عند العبد فعنده لا يضيع.
بشرتني بزواج عزيزي عبد الأحد، فعلى قبالنا وقبالك يا أنطون يا أبرص. إن تحريرك يدل على إخلاصك، فهل أنت مخلص يا ترى؟ فلو كنت مخلصا كنت بادرت لإرسال الدراهم بدون تردد، ولكنك متردد ولا أعلم لماذا، فقل لي: لماذا؟ فالوقت ليس وقت تأخير؛ فكن ذا رأي ولا تتبع آراء البشر.
عتبت علي وعتبت عليك، فما مضى قد مضى. إخوتك بخير، وابن عمك طنوس أيضا، والدي وأخي وأختي يهدونك السلام. أخونا أيوب تكلل من شهر ونصف على ابنة فارس طنوس. لم يمت أحد، ولم يجد عندنا شيء جديد.
لكي تعلم مقدار الجوع اسمع هذه الفاجعة، في م ... يوجد رجل اسمه أ. ط من جوعه في أيام الحرب ذبح ولده وأكل لحمه، ثم ذبح ولده الثاني وعمله قورما، ثم ذبح حماته - واسمها هندية - لأنها كانت ناصحة، فعلمت الحكومة بأمره وسجنته في البترون، ومات بالحمى في الحبس. أتصدق؟
وكفى بذلك برهانا على المجاعة وعظمها. (سرا) كيف مات المرحوم أخوكم إلياس؟ بعد موت المرحوم ابن عمنا، بقي إلياس مدة يكاري على الدابة، نرسله إلى تنورين وبشري لإحضار البطاطا والحنطة، وإلى نهر إبراهيم ونهر الكلب لاستحضار القلقاس والأغلال، وبقينا على تلك الخطة مدة إلى أن توجه مرة لجهة الهري لاستحضار الليمون، فيظهر أنه رأى سمعانية ابنة يوسف أندراوس، وهو - لا أخفي عنكم - كان مولعا بها على أيام المرحوم والدكم، فرغبته بالحضور لشكا، فتوجه هو وتوفة إلى هناك، وبعد أسبوع مرض بالحمى؛ لأنها كانت كثيرة في تلك الجهات ومات، فرجعت توفة وحدها. وكانت الضربة عظيمة علي جدا جدا، وعند مجيء توفة توجهت والدتي لسؤالها عن إلياس؛ لأنه كان بلغنا أنه مريض، فأخبرتها بموته فتفجعت وبقيت كذلك إلى أن مرضت بالحمى وماتت، وكنا قد استحضرنا لها واكيم بك، فحكم أن المرض انتقل إليها بالعدوى من شقيقتكم توفة. وبعد مدة مرضت توفة بالحمى، فعالجناها وشفيت. أما أمنا فماتت كما ذكرت لكم، فلا تخبر بهذا إلا والدتك فقط، والخاطر لك. هي الحقيقة كتبتها، فاسأل عنها من تريد. أما روحانا فمات بمرض داخلي في بطنه، ووالدكم مات بالإسهال الذي عقبته سكتة وشلل، وحكم واكيم أنه هواء أصفر. أعاضنا الله بطول بقاك يا عزيزي.
نموذج من خط المؤلف سنة 1919.
أخي أنطون، إن كل أقاربي الذين لهم أهل في أميركا يعيشون أحسن عيشة، وأحسن كسوة، وأحسن أحذية، بينما الناس جياع عراة حفاة، ولا تعربوا أحدا، فعيشتهم أحسن من الجميع حتى أصحاب التركات الكبيرة. وكل هذا حبا بكم، أيها الأعزاء، لأنكم غياب. تطلب مني أن أكتب لك عن كل شيء جرى في لبنان، وأحوال عين كفاع تقتضي لها مجلدات كبيرة. إن شاء الله كل مرة نكتب لك شيئا منها؛ لأننا لا نقدر على كتابتها دفعة واحدة. هذا ما لزم، ولا تصنع هذه المرة كما صنعت المرة الماضية بكتابتك عن مسألة بيت بشارة سليمان، فأنا لا أحب مخاصمة الناس، وأنتم تطلبون أن نخبركم عن كل شيء؛ فلكي نخبركم احفظوا السر، ودمتم.
أشكرك على ما تكرمت، فمن العب للجيبة.
عين كفاع
4 / 3 / 1919
عزيزي أنطون وكنة عمنا العزيزة
بعد سؤال خاطركم، أطمنكم عن لفيف العائلة، فإنهم جميعا بخير. أما المرحوم ابن عمنا فقد توفي لرحمته تعالى بالفالج في 12 كانون الأول 1916، كما أخبرتكم بمكاتيب عديدة سابقا، ولم أحصل منكم على جواب واحد. إخوتك وأولادك أقامني عليهم وصيا شرعيا غبطة السيد البطريرك، فأنفقت عليهم مدة الحرب، وبعونه تعالى لا يزالون أحياء، وعاشوا أحسن من سواهم. أتعجب من تأخيركم بإرسال الدراهم حتى اضطربت أفكاري من نحوكم جدا، والآن بعونه تعالى فتحت أبواب سوريا، وانطلقت حرية البحار؛ فأسرعوا بإرسال الدراهم. الأولاد ما زالوا عندي، وقد أنفقت عليهم نحو 150 ليرة في هذه المدات، وغيرهم باعوا أرزاقهم وماتوا من الجوع.
الخلاصة: أفهمتكم اللازم؛ فأسرعوا بالدراهم، ولولا نجدة الحكومة الجديدة كان مات خلق كثير في هذا العام.
أغلب أهالي القرية أصبحوا بلا أرزاق إلا الذي لا يستطيع التصرف بالأملاك. طمنوا ساسين عن ابنة عمه حوا وولده طانيوس، صحتها جيدة، وليرسل لها دراهم بسرعة. المرسل منه على بنك ألمانيا لم ينقبض لحد الآن. وكذلك طنوس عبود وحرمة خالنا روكس وصابات عبود أهلهم أحياء، والمال المرسل منهم على البنك لم ينقبض حتى الآن، إذا أمكن استرجاعه فليسترجعوه حالا. من جهة الرهنية قد تحولت لنا، ودفعنا القيمة لأرملة المرحوم بولس عازار، وباقي عليها نحو 140 ليرة إنكليزية. إذا أردتم إرسال القيمة لنا فلا بأس، إنما أرسلوا مصروف الأولاد قبل كل شيء؛ لأن حياتهم أفضل من الرزق، والخاطر لكم. كتبت لكم جميعا بهذا الخصوص من 18 كانون الأول 1918 عند فتوح البوستة، ولا أشك في أن تحاريري وصلت لكم ولساسين، ولزوجة خالنا طنوس، ولابن خالنا حنا ، ولزوجة خالنا روكز، ولطنوس عبود ولصابات، ولم أترك أحدا.
ابن بنت خالنا أنطون بطرس توفاه الله، ولو كنت قادرا على إعاشة أكثر من 15 نفسا ما كنت تأخرت عنه، ولكن ماليتي لم تساعدني على أكثر مما فعلت؛ لأن إخوتك وأولاد خالي طنوس وابن عمك طنوس وغيرهم من الأقارب الأقربين كانوا كلهم عندي. أقدم لهم بمساعدة الله - جل جلاله - ولا يزالون عندي لحد الآن. أنتظر أول جواب منكم بشأنهم.
طمنوا خالتنا فروسينا عن زوجها وعائلتها. خالتنا كرستينا توفت، ونخلة وعائلته ماتوا جميعا، فأفهموا مريم لا ترسل دراهم لأحد، وكذلك أولاد بشارة سليمان ماتوا جميعا عدا البنت، فإنها عند خالتها في القدس.
الخلاصة أن مدة الحرب كانت أشنع الأيام علينا، وقى الله شرها ولا أعادها أبدا. سلامي للجميع. كتبت إلى ... ولترسل دراهم لي فأفهموها ذلك.
ودمتم لابن عمكم
مارون عبود
بيت بو روفائيل ماتوا جميعا إلا يوسفية قرياقس وأرسانيوس عبود وأولاده، وحنا عبود ووالدته ماتوا كلهم، بيت ناضر لم يبق منهم إلا يوسف يعقوب وولداه جرجي وديب وشكر الله ناضر، وناضر طنوس وأخوه نخلة، وهؤلاء في القدس.
ابن العم العزيز
بعد القبلة الأخوية والتحية
في طيه إعلان من اطلاعك عليه كفاية، فيجب أن نكون في الموعد المعين والمكان المعين. إن شاء الله، قضيتك مفروغ منها، فاحضر إلى بيروت بعد الاستئذان من حضرة الصديق الجليل الخوري بطرس عقل، الذي أكلفكم بإهدائه أسمى تحياتي.
يمكنك الحضور باكرا صباح الجمعة أو مساء الخميس. الغاية أن تعمل عملك ولا تعطل عمل المدرسة.
إذا وصلك مكتوبي فاتصل بي تليفونيا «لأتطمن» إلى أنك عرفت، وإلا فأضطر أن أخابرك أنا، ولا أعرف إذا كان عندكم تليفون.
حرر على عجل. وفقك الله.
4 / 2 / 1950
ابن العمة الحبيب
3
قبلات أخوية حارة لك ولإخوتك، واحترامات فائقة للسيدة الجليلة والدتكم. أما شيخنا - أعزه الله وأطال بقاءه - فنلثم راحتيه، ونسأل الله أن يحفظه لنا ذخيرة ثمينة، ولكم أجمعين. أقدم فروض المعايدة والتبريك بالمواسم المقبلة.
أما الطريق التي ذكرتها، فلا يرجى امتدادها «ومن جرب مجرب كان عقله مخرب .»
الشيخ فريد رجل كما تعرفونه كله غيرة وإخلاص، وقد تحدثنا بشأن طريقنا عندما اجتمعنا في أوتيل قاصوف ووعد خيرا، وفعلا اهتم للقضية، ثم بعدئذ اجتمعت به عرضا مع النائب شمعون في السراي الكبير ووعد خيرا.
وكنت ذهبت بنفسي مع الأخ كرم ملحم كرم إلى مديرية النافعة وقابلنا شمعون، فقال: إنه لا يمكنه أن يصرف غرشا واحدا إلا بمعرفة وأمر رئيس الجمهورية، ولم نذهب إلى فخامة الرئيس؛ لأنه ينتظر الشهر القادم ليرى ما يكون في شأن التجديد، فإن جدد ذهبنا إليه. ونحن وعدنا بمساعدته، وإلا فنذهب إلى من يعنيه الأمر، وأخيرا إلى الفرنجي.
4
صحتي جيدة، ونديم بخير يشاركني تحياتي وتمنياتي الأولى. سأراكم - إن شاء الله - بمروري إلى القرية، إما بعد ظهر الأربعاء 26 الجاري أو صباح الخميس، وإن لم تكونوا فالملتقى بالقرية العزيزة.
وختاما أقبلكم.
5 / 12 / 1934
ابن العمة العزيز حنا
قبلات وأشواق وافرة
وبعد، فكيف حال العزيز نسيب؟ بلغني أن ظني بحالته قد تحقق؛ فالحمد لله.
أرجو منك أن تتوجه لمقابلة حضرة الصحافي المحامي سجعان بك عارج بشأن قصيدة لي، نشرتها في جريدته «صدى لبنان» في ربع 1909، وموضوعها: سقوط السلطان عبد الحميد، فتفضلوا علي بنقلها عن الجريدة وأرسلوها لي بالسرعة الممكنة.
قبلوا عني راحات ابن العمة الجليل - حفظه الله ذخرا لنا - وختاما، أصافحكم داعيا بتوفيقكم.
ابن العمة العزيز
تلقيت كتابك وشكرت لك اهتمامك. من جهة الخواجا فيليب خوري فقد باعنا الورق في 8 تشرين أول بسعر 122، هل غلا السعر اليوم؟ الخلاصة: قد أحسنت عملا بأخذك العشرة آلاف، ولا حاجة إلى استبدالها، وإن شاء الله نحظى برؤيتكم بعد ظهر الاثنين 15 الجاري.
الطريق انطوى بحثها بسبب الاضطراب السياسي الحاضر، ومتى هدأت الأمور نعود وتعودون إلى المطالبة.
قبل عني يدي ابن العمة الجليل، وأهد فائق احترامي وتحياتي للوالدة الجليلة والإخوان.
وختاما أقبلك، إلى اللقاء.
عاليه في 3 نيسان 1935
ابن العمة الحبيب
5
مسألة الطريق، إنني أجاهد فيها حق الجهاد، فعسى أن يرافقنا الحظ مرة في العمر.
الأوراق؛ أي أوراق الطريق، تحت الدرس في أمانة سر الدولة، وحضرة الرئيس - رئيس المدرسة - يسأل عنها كل يوم ، واليوم مساء ذهبت خصيصا إلى بيروت لمقابلة الدكتور ثابت، فلا أظن إلا خيرا، وإن حصل ما ليس في الحسبان؛ فسأحملن على هذه الحكومة حملة شعواء، وأرفع أمرنا إلى المندوب السامي، عدا الصحف عربية وإفرنسية. يظهر أن الجماعة لا يؤخذون إلا هكذا. إنهم يريدون التأجيل للعام القادم، ولكني سوف لا ألين.
وغدا يعود الرئيس ومعه الجواب النهائي، وحين وروده أكتب إليكم، فثقوا أنني لن أحجم عما أقدم عليه، فقووا إيمان الناس، ولكنهم يا ابن العمة كلهم توما لا يؤمنون ما لم يمدوا إصبعهم، فعسانا نطل عليكم قريبا مع المهندس وحضرة الرئيس ونديم ونقول لهم ما قيل لتوما: كن مؤمنا لا غير مؤمن ...
قد كتبت لسيدي الجليل ابن العمة أخبره خبرنا مع الجماعة، والأمل كبير، ووعدته بأنني أعرج عليه مع المهندس. حقق الله الآمال.
تحياتي واحتراماتي لكنة عمتي وللعزيز نسيب. وختاما أقبلكم بالاشتراك مع نديم.
ابن العم العزيز، حفظك الله
بعد تقبيل وجناتك والسؤال عن صحتك العزيزة، عسى أن تكون حائزا على تمام الصحة والعافية. أما نحن، فالحمد لله مع الأولاد بكل صحة. قبلوا عنا أيدي سيدي الوالد وطمنوه عنا، وأهدوا سلامنا لوالدتكم. كيف حال محمد ونظير؟
من جهة بنت خالنا مسيحية، قد قابلنا الدكتور فغالي فقال: إنه لا يرى العملية موافقة، بل أن يعالجها بالأدوية، ويقول: إن الأطباء كثيرا ما أضروا النساء بالعمليات. فعليه إن الفغالي يحضر إلى عاليه في آخر آيار أو أوائل شهر حزيران، وفي ذلك الوقت نكتب لكم حتى ترسلوا لنا معها كتابا من المكتب. خبرونا إذا كان المفتاح عندكم؛ لأنه غير موجود هنا. الخلاصة: بعد الموسم تحضر.
في المرة الماضية كلفنا زخيا، ابن خالنا، حتى يرسل للبيت لوازمه، والآن متى خلصت المونة عرفونا.
هل وصلت الحميرا لعندكم؟ إذا وصلت ومرض أحد من الأولاد بها؛ فإياكم أن تطعموه غير الحليب حتى تطلع عليه، وإياكم أن تتركوه يشوف الهواء. وعند طلوع الحميرا، يعطى زوم العدس ولا يطعم إلا الحليب حتى يصح. وبعد طفو الحميرا «خالص» بأربعة أيام، يعطى أكلا خفيفا مثل رز بحليب وغيره، وإياكم أن تتركوه يشوف الهواء إلا بعد ثلاثة أسابيع من تاريخ نومه. انتبهوا لكل ما أوصيكم به.
وفي الختام، أقبلكم، وأدعو بتوفيقكم، واسلموا لابن عمكم.
عن عاليه في 13 أيار 1931
ابن العم العزيز جناديوس
بعد تقبيل وجنتيك، وإهداء التحيات لوالدتك وبنت خالنا وابن خالنا، لا نوصيك بشيء؛ فأنت لا تحتاج إلى وصية بأولاد أختك.
أخبرك أني بكل صحة، وكذلك ابن أختك نديم، الذي يسلم عليكم كثيرا. أهدوا سلامنا لوالدتكم، ولبنت خالنا، ولأنطون وعائلته، وللجميع.
طمنوا كاترين عنا، وأهدوها وإخوتها جزيل السلام والتحيات. سلموا على كل الأقارب. كل مرفع وأنتم بخير.
نخبرك أن الحكومة وضعت في الميزانية الجديدة خمسة آلاف ليرة لمد الطريق من غلبون إلى عين كفاع، فإلى دير مار يوسف. بشروا أهالي القرية بذلك ليسروا ويفرحوا.
أرجو أن تخبرني عن سعر الزيت الطيب عندكم، وإذا كان بإمكانكم تدبير تنكتين لحد الثلاثة من عندكم، وإلا حتى ندبر عازتنا من هنا.
الخلاصة: جاوبونا عن هذا، ودمتم بخير.
عاليه في 12 آذار سنة 1938
كتاب وجواب
بين مارون عبود والخوري يوسف الحداد
يا ابن أخي أمي، رافقك التوفيق طول الطريق
سمعت عنك وقرأت لك في هذه المدات، ولي فيك قلب حافظ من ورائه لسان ينتظر كلمة الحكم هربا من القول ... كل فتاة بأبيها معجبة ...
وبموقفك العكاظي في الحكمة إحياء لجبران، وبجولتك الوثابة في الجرائد تخليدا لذكره. كنت ناظرا إليك غير متشيع لك أو عليك، حتى إذا حك النقد جبران، ونزل ابن عبود إلى الميدان؛ افتر مبسمي افترار الزهرة قبلها الندى، وضاحكها الصباح، وانطلق لسان زكريا في حفيد جدي واقفا بوجه فرسان الأدب، «شديدا على الأقران عضبا لسانه»، يوقد من فكرته مشعلا على أدب ابن الشمال، ويريهم من جبران درهما وازنا.
ووازنه ومن انتقوا حجة لمنهاج البكالوريا من غير وزن، فرجح به وشالوا، ولم يرتفعوا فوق جبران إلا في الميزان، وحملت على منظومهم ومنثورهم.
وهالهم أن هناك قصورا لبناة الأدب تسقط عليك، فأهاب منذرهم بك، فآويتهم أكواخا ما حسبوها صروحا، وأنك ماض في تقويضها.
وضيقت عليهم فصدوا عن المنطق إلى المغالطة؛ وهي سلاح المغلوب على أمره، وما كان أهداك إلى عطوس تاريخي أرغمت معاطسهم بنشقة منه لا يعطس بعدها متفيقه متقمط، ولا متمنطق متمذهب. ضاجوا فضجوا، وكابروا وأكبروا، وراموا التقييد بآرائهم، وما كان أدهاك بمثل صاحب الأباريق تضربه لهم ضربة على ...
إلى الأمام يا ابن المزرعة، والمزرعة بابن الأدب برج داود معلقة عليه تروس الجبابرة.
إلى الأمام على نبذ أباريقهم إلى خابية جبران، واملأ الجرة بالسقوق وأدره دفقا جرعا على دائرة المعازف، فلعلهم يتذوقون فيسكروا من معتقه، النائم في الدير، نبي الأدب، فلا يحرموا طلاب البكالوريا من منتخباته.
ولئن فعلوا لتخلدن ذكرك بذكر جبران.
أخبرني الأستاذ يوسف الحويك أنك اكتفيت بما صار إليك من معلومات عن جبران. مع مواصلتي له في شأن جبران، قطع الحبل. لا شيء عندي جديد غير الذي قرأته لك في القرية عن جبران.
الطريق من غلبون إلى عين كفاع سيسمع فيها ضرب المعاول إن شاء الله من أول الصيف؟!
ابن عمتك الخوري يوسف الحداد
15 حزيران 1936
ابن عمتي وأستاذي
فرحت بكتابك فرح النهم بالرغيف السخن، ولا أقول في رسالتك البارعة شيئا، فأنت سيد المترسلين - أبقاك الله سراجنا الوهاج - ادع لي وزودني رضاك؛ فأنا ماض في طريقي لا أبالي بالعقاب، ولا أشكو قطعها كما فعل أبو الطيب.
أنا في حاجة شديدة إلى كلمتك بتلميذك جبران، فلعل عند الحويك خيوطا ولو ضئيلة نطرز بها مطرف ابن الأرز الخالد.
أما الطريق فقد صدر أمر فخامة رئيس الجمهورية إلى النافعة لتوفد المهندس الفني ليخططها من غلبون إلى دير مار يوسف، أأعجبك هذا؟ أما المال فيصرف لها بعد رجوع العميد والشروع بأعمال النافعة الموقوفة. وفي العام القادم يرصد لها في الميزانية المبلغ اللازم لإيصالها إلى آخر الخط.
وهناك سعي آخر كان موفقا؛ فقد صدر أمر مدير البريد والبرق إلى مركز جبيل ليوصل البوسطة إلى عين كفاع يوما بعد يوم. وهذا يسرك أيضا.
المهندس تأخر عن الذهاب بطلب مني لأكون حاضرا؛ لأن مهمته تستغرق زهاء أسبوعين.
وختاما، أقبل يديكم وأدعو لكم.
عاليه
19 حزيران سنة 1936
نموذج من خط المؤلف سنة 1936.
ابن العمة العزيز
أعاد الله عليك أعيادا عديدة وأنت بحال راضية نفسا وجسدا، ومتعنا ببقائك الثمين طويلا؛ لننتفع بعلمك وفضلك.
فتقبل تهنئتي بعيدك، ودم لنا فخرا وذخرا.
ابن الخال العزيز
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن: كان في العزم أن نحتفل بعيدك في بيتك، إنما شباط الأعور الناقص عكس صفاء العيد بغيمه وشتاه وهواه، وأنت أدرى بما يخافه الشيوخ من هذا الشهر الخلاط اللباط الشباط، حتى لو اجتمع مار مارون ويوحنا مارون في دارك لما أمكنهم أن يزيحوني من حول الكانون في غرفتي؛ وذلك ما أدى أن يسبق القلم إليك القدم. إنما سبق الاثنين قلب أنت فيه يحملك إليك، وبقي ابن عمتك كالبيت بلا سكن. جعل الله أيامك كلها أعيادا.
تفضل بقبول عذري يا ابن الخال العزيز.
9 شباط
سيدي ابن العمة العزيز
أقدم لكم التهنئات الخالصة بعيد شفيعكم المجيد، وأتمنى أن نتبادل هذه العاطفة عشرات السنين. سلمت لنا وبقيت مفخرة لا تطاول. وختاما، أصافحكم على أمل اللقاء القريب.
ابن الخال العزيز
الخوري يوسف الحداد يهنئ ابن خاله مارون بك عبود بفوزه بشق الطريق، وأحمد الله بك على أنك خلصتنا من بين حانا ومانا، وأرحتنا من عرقوب وأبي براقش، ولم يعادل سروري بنجاحك سوى إعجاب ابن أخي حنا بسياستك ومقدرتك. إننا بحاجة إلى رجال يعرفون قدر الرجال، وإن شاء الله في مثل هذا الشهر 1936 نسمع صفير السيارات مطلة من صليب غلبون على عين كفاع الصغيرة التي تكبر بهمة بنيها البررة. وألف سلام وتحية على وجهها، وأحب أناسها إلي ابن الخال مارون بك عبود.
14 / 1 / 1935
ابن الخال الأديب النجيب، زادك الله شأنا
هنيئا لك العيد. دمت لنا عيدا ولك في كل عرس قرص، وقرصك عسل في مائدة الأدب «وسنتان في مدرسة الحكمة» قمر بين نجومه. قرأتك في الجريدة المكشوف تمر بالمغطى والمكشوف بين تلميح وتصريح، وتفصل لكل قد لباسه، وما كان أحلى ذكريات الصبا، والوصل بين الأب والأم ! لا زلت يا ابن الخال رائحة الزهرة، وشجو الموسيقى يشمك، ويسمعك أبو خمس وسبعين لم تفسد السنون ذوقه.
ابن عمتكم الخوري
عن جونيه، مكتب الكريم
8 شباط 1939
نموذج من خط الخوري يوسف الحداد.
ابن الخال الحبيب
1
السلام عليك، وعلى شق الطريق إلى عجوز ابن الخطاب
كتبت إلي تستفسرني عن جبران، وهل كان من تلاميذي في مدرسة الحكمة، ثم تشعرني بتوفيقك إلى شق الطريق ...
أما جبران فهاك عنه ما يعلق بذاكرة أستاذه: درس علي جبران سنة واحدة كنت له فيها لسانا وقلما، وكان أذنا تعي ما عناها، وقلبا تابعا لهوى متبوع، ونفسا وثابة، وعقلا متمردا، وعينا هازئة بكل ما تقع عليه مقلا من الإخوان يزرع حقله في عقله، وفي يوسف سعد الله الحويك، مجتزئا به بين سائر الرفاق، كثير الانتقاد، شديد التمسك برأيه، مفكرا قلما ترتسم الابتسامة على ثغره، طموحا تحت مهماز لا رفق معه، يجد ليجد، ناظرا في أفق بعيد.
وفي قص خبر اتصاله بي ما يفتح لدرسه منفذا يطل عليه، وكثيرا ما يقاس الحاضر على الماضي «والطبخة الطيبة تعرف من العصر.» اسمع: في أواخر تشرين أول سنة ... قرع علي باب غرفتي، وعلى كلمة «تفضل» دخل شاب ربعة ذو وجه حنطي مشرب حمرة، وعينين ناعستين ما بين أجفان ذابلة كزهرة تطل من أكمامها، ترسلان نظرات طويلة مثبتة، وله شعر مرسل يلامس أذنيه. - الاسم الكريم؟ وهل أصلح لخدمتك في شيء؟ - أنا جبران خليل جبران من بشراي. أنهيت دروسي في الإنكليزية، نائل شهادة الفلسفة، أتيت لبنان لأدرس آداب لغة وطني وأبدي فيها أفكاري، فكان نصيبي الصف الابتدائي. - ماذا تعرف من مبادئ العربية؟ - أحسن القراءة فقط. - أفلا تعلم أن السلم يرقى درجة درجة؟! - وهل يجهل الأستاذ أن الطائر لا ينتظر السلم في طيرانه؟ - إنني لم أرك قبل الساعة، فمن دلك علي؟ - عيني رأتك وقلبي دلني.
اقشعر بدني من الجوابين، وشعرت أن أمامي عقلية بارزة في فتى له حكمة الشيوخ، وذكرت للمتنبي: «ليس الحداثة من حلم بمانعة.» - والآن ماذا تريد مني؟ - رأيتك مرارا فسألت تلميذك يوسف الحويك من يكون هذا الخوري؟ فقال: هذا أستاذنا الحداد، وله رفق بتلاميذه وعطف، وكلمته مسموعة عند الرئيس، فجئتك في أمري. دعني أحضر عندك لا أسأل ولا أسال، وإني دافع مرتب المدرسة كله حالا، وأنا المسئول عن نفسي لا أمي ولا أبي، وإن لم أنل مطلوبي فتشت عن غير هذه المدرسة التي تتعلق بحرفية القانون ولا تفهم تلاميذها. - مهلا وأعود ... وما زلت بالرئيس حتى قال كلمته «التاريخية»: النتيجة يا حبيبي أنت المسئول، وأين راتب المدرسة؟ - حاضر ...
وعدت إلى جبران، وما رآني حتى أقمر ليله وابتدرني قائلا: انقضى غرضي يا أستاذي. - ومن أين عرفت؟ - من وجهك الضاحك وعينيك.
وثاني يوم كان جبران بين تلاميذي على مقعد التدريس، وقدامي على المكتب كتابة منه: قبل مرور ثلاثة أشهر لا تسألني عن شيء، وبعد ذلك سل ما تشاء ...
لم يكن جبران وقت إلقاء الأمثولة يفتح كتابه، بل كان أذنا وعينا، وتلك الأذن العطشى لا ترتوي، وتلك العين لا تشبع. وكان يختلف إلي حينا إثر حين يلقي علي الأسئلة ويستشيرني في انتقاء كتب المطالعة، فحولته على كليلة ودمنة، والأغاني، ومقدمة ابن خلدون، ونهج البلاغة، ورسائل بديع الزمان، والدرر لأديب إسحق، والمتنبي، والبهاء زهير، والتوراة ... ودرس الطبيعة وطبائع البشر وأخلاقهم وعاداتهم والتواريخ.
وكان يأتيني بمقالات من عندياته يستقل بها، فأرى منها جسما متناسق الأعضاء عليه مسحة من الجمال تحت ثوب من اللفظ لا يشاكل المعنى، فأمشي معه في ثقافته مشية من يرى تلميذه أكبر من تلميذ. وضعت له هذه القاعدة: فكر طويلا، واكتب قليلا؛ تكتسب كثيرا، إلى أن تفيض القريحة فيضا.
ومن أول مقال له أدركت ما هو جبران وقلت له: إنك صائر شاعرا مطبوعا، وكاتبا خياليا؛ فاتق الله. إلى الأمام.
وكان جبران ينمو في أسلوبه نمو الحورة، وينبثق انبثاق الحوض، ومعه تقوى الروح الوثابة العابثة المتمردة.
وفي آخر السنة تركت المدرسة ولم أعد أذكر إلى أين أتجه، إلى أن أهدى إلي كتابه وعليه العبارة: «أنت أولى بأولى بواكيري.» فكتبت إليه في بعض نقط فقطع الحبل ... وكل ما أقوله: لا تتعجل بنشر نقد جبران قبل أن تلم به من كل ناحية. وجبران كان يحذق فن التصوير وهو في المدرسة.
لا أقدر أن أبدي رأيي في جبران؛ لأني لم أطالع تآليفه كناقد، ولا جلد لي اليوم، بل أعتقد أنك بدرسك له الدقيق تجد الغث والسمين، وعسى نقدك أن يكون نظير عصا موسى وراء عصي سحرة مصر ... إن شاء الله الذي لا توفيق إلا منه.
ابن عمتك الخوري
9 آذار سنة 1936
الجمهورية اللبنانية، مجلس النواب
أخي مارون
أجدت أمس كما أجدت في بعض ما كتبته قبل أمس، شأن كل كاتب وناقد يصيب أحيانا ويخطئ أحيانا، وقد خرج الخطباء على الأثر من الحفلة فحييناهم، ولم تخرج معهم فنحييك.
أما جبران فقد أصبت فيما ذكرت عنه، ولكنك أطلت وطلبت ما أرجح أن المدرسة لا تجيبك إليه، ولا شك أنك تذكر أني كنت وإياك في جانب جبران وزيدان في لجنة المعارف فلم نفلح، ولا يعني انتصارنا لجبران انتقاصا من قدر المنفلوطي، فإن أسلوبه في الإنشاء «العربي» يفوق أسلوب جبران، ويجب أن نضم الرجل إلى ناشري لواء البلاغة والتهذيب في الشرق، فقولك: «إن اللجنة أبدلت المنفلوطي من جبران.» فيه تحقير للمنفلوطي، ولا أظنك تعني هذا، بل تعني وجوب وضع جبران في مصف الكتاب المصلحين في منهاج البكالوريا.
وأما حملتك على شعراء العصر في التهاني والترحاب والاستقبالات، فحملة مردودة؛ لأن كل شاعر مهما علت منزلته في مثل هذه المناسبات مضطر أن يقول كلمة شكر، ولا تكون كلمة الشكر آية من آيات الفن والخيال والتصور والابتكار.
وهناك أبيات كثيرة من غير هذا الباب فسرتها، يا أبا محمد، بغير ما يريد صاحبها، أو شرحتها باستهزاء، والمعنى فيها مقبول مأنوس، وليس بالصعب على كل ناقد أن يزدري قول أعظم شاعر متهكما، ويجعل ألفاظه مبتذلة ومعانيه مسروقة.
بقيت المحاسن يا مارون ... أين هي؟ فقد يكون للشاعر بيت في قصيدة يعادل قصائد، ويظهر أنك تريد أن تهدم البيوت على أربابها، فتقتل جميع ما فيها ، وكم هنالك من كنوز تضيع تحت الأنقاض! وليس هذا عمل النقاد المنصفين.
أحييك وأدعو لك.
أخوك المنذر
بيروت
4 / 5 / 1936
أخي وشيخي إبراهيم
لا أنسى يوم كنت تشجعني فتى - عفوا ما عنيت أنك أسن مني كثيرا - ولكني أذكر بلذة أياما كنت أمر بها على «مكتبك» فتبسم لي وأعدها نعمة، وإني لا أزال أحرص على رضاك الغالي جد الحرص.
قلت في كتابك الكريم المفتتح بهذا التعبير - فلا حيا الله ولا سلم الله: «أجدت أمس كما أجدت في بعض ما كتبته قبل أمس، شأن كل كاتب وكل ناقد يصيب أحيانا ويخطئ أحيانا، وقد خرج الخطباء على الأثر من الحفلة فحييناهم، ولم تخرج معهم فنحييك.»
لم أخرج مع الخطباء؛ لأن همتي قليلة فسبقوني، واكتفيت بتسليمي عليك سلام الأحباب بعد الغياب قبل أن صعدت المنبر، ولم يدر في خلدي قط أني غير حاصل على رضاك. أما الإصابة والإجادة فحسبنا منهما الإفادة، وإنهاض أدبنا المقعد ما نستطيع. أما الخطأ - والعصمة لا أدري لمن - فليتك تدل عليه ولك من الأدب أجر غير ممنون.
يا شيخنا
حمل إلي استياءك وبلغني رسالتك الشفهية، بل نصيحتك الأخوية من حملته إياها، فشكرا، وعذرا وإن كنت تأمر فتطاع، فأنا ماض في سبيلي؛ فادع لي بالتسهيل ... فإن تقدمت بهذا الأدب خطوة صغيرة بلغت أقصى الأماني، فأنا رجل قنعان.
أما قولك أني أصبت فيما ذكرت عن جبران؛ فلك الشكر على ذلك مني ومن نزيل وادي قاديشا ومجاور الأرز، وأما إني أطلت الكلام عنه وطلبت ما ترجح أن المدرسة لا تجيبني إليه، فجوابه: إننا في زمن «مطالبات»، أولستم كذلك في المجلس؟ فإن فعلت المدرسة أحسنت، وإلا فلا حرج عليها، الزاد زادها تأكل منه ما تشاء، وتطعم ما تشاء، كما قال معن بن زائدة للأعرابي.
ثم قلت لي: «تذكر أني كنت وإياك في جانب جبران وزيدان في لجنة المعارف فلم نفلح.» إني أذكر ذلك ولا أنساه، وقد أشرت بقولي: ولم يبق في جانب جبران إلا المتهمون في دينهم مثله؛ أي أنت وأنا ومن لف لفنا ...
أما إني قلت: «إن اللجنة أبدلت المنفلوطي من جبران.» فما هكذا قلت، بل: وهكذا أقر المنفلوطي في المنهاج ونفي جبران من وطنه الذي يردد كل يوم:
ملء عين الزمن
سيفنا والقلم
أرزه عزه
رمزه للخلود
أما إن أسلوب المنفلوطي يفوق أسلوب جبران؛ فإننا لا نتفق في هذا يا شيخ. إننا نريد غير هذا الكعك، إنما من العجين. وبكلمة أوضح: قد قرفنا خبز الملة ...
ثم تقول لي: «وأما حملتك على شعراء العصر في التهاني والترحاب والاستقبالات، فحملة مردودة؛ لأن كل شاعر مهما علت منزلته مضطر في مثل هذه المناسبات أن يقول كلمة شكر، ولا تكون كلمة الشكر آية من آيات الفن والخيال والتصوير والابتكار.»
أظن - وبعض الظن إثم - أن هنا «التخلص» يا أستاذ، فإن شئت رأيي في شعر الفرح والترح فإليكه: ليقل الناس الترحيب والتهاني والتعازي نثرا؛ فهو خير من هذا الشعر الدميم المقرف، وإن وفق الشاعر إلى إبداء عاطفته بفن وإبداع فليقل شعرا. أما متى قال شعرا مثل هذا الذي نقرأ فليطمره، ولا يدع الهرة أفطن منه، كما قال البديع للخوارزمي.
ثم قلت - وأراك تقول كثيرا اليوم: «وهنالك أبيات كثيرة من غير هذا الباب فسرتها، يا أبا محمد، بغير ما يريد صاحبها، أو شرحتها باستهزاء، والمعنى فيها مقبول مأنوس، وليس بالصعب على كل ناقد أن يزدري قول أعظم شاعر متهكما، ويجعل ألفاظه مبتذلة مسروقة.»
أما إني فسرتها بغير ما يريد صاحبها، فلا أظن. أما شرحها باستهزاء فهذا لا شك فيه، ولكن هل يتيسر لي هذا الاستهزاء إذا لم تكن الألفاظ والمعاني مبتذلة؟ أما السرقة فأظنني قبضت على مرتكبيها متلبسين بالجريمة. أما المعاني فأعترف لك أنني ما عدت أقنع منها «بالمقبول» ولا أغصب نفسي عليه.
اسمح لي أن أصارحك بما في نفسي يا سيدي الشيخ: يظهر أنها قصة الباذنجان ... لا قصة منفلوطي وجبران، وإنك لمروان كما قال علي لعثمان ... ليتك تفقأ هذه الدملة فتستريح.
ثم قلت: «بقيت المحاسن يا مارون ... أين هي؟ فقد يكون للشاعر بيت في قصيدة يعادل قصائد.»
أظن أنني أشرت إلى بعض المحاسن يا أستاذنا ، ولكن يظهر أن ما يسرك منها أكثر مما يسرني، وأنا لا أستطيع أن أرى إلا بعيني، وهي ضيقة - كما يقول الناس - ولا تكبر الأشياء.
وأخيرا قلت: «ويظهر أنك تريد أن تهدم البيوت على أربابها فتقتل جميع ما فيها، وكم هناك من كنوز تضيع بين الأنقاض! وليس هذا عمل النقاد المنصفين.»
لا يا شيخ - يقطع السم - ترو قليلا، هل النقد في عرفك هدم؟ وهل هدمنا حتى الآن غير أكواخ عششت فيها البراغيث والبق والخنافس؟ ما هدمنا بعد يا شيخ غير أكواخ خشبية جريا على قوانين «البلديات» الحديثة. ليتك تسمي من تعني لنجول جولة حول هذه «الرمم» فتوافقني على هدها رحمة بأولادنا، ولا يؤثر بقلبك الرقيق عويل أصحابها.
سيدي الشيخ
حييت ودعوت في ختامك، ولم تقبل وتصافح كعادتك. أما أنا فحالي معك لا تتغير، وهي دائما على حد قول شاعرنا العامي القديم:
لمن بشوفك بنفعطلك من بعيد
وبستحي سلم عليك بفرد إيد
وأخيرا، وكأني بالغضب قد ضيق صدرك الواسع، فطويت كتابك على البطاقة التي سطرت عليها ما يأتي: «إذا شئت يا أخي أن تنشر هذا الكتاب وتجيب عما فيه فلك ذلك.»
لبيك يا شيخ، والأمر لك. ها قد فعلت، وشرطي في الأمر ألا نقف، وأن تصرح في الآتي ولا تلمح ... والسلام عليك من أخيك.
مارون عبود
الجامعة الوطنية، عاليه
7 / 5 / 1936
صفحة غير معروفة