وإذا كنا في حال سعيدة حقا؛ فإنه لا ينبغي لنا أن ننصرف عن التفكير فيها.
تقضي حالنا بالتفكير، ضبطا في الأمور الخارجية، التي نكون على صلة لازمة بها، ومن الخطأ أن يذهب إلى إمكان صرف الإنسان عن التفكير في الحال الإنسانية، وذلك أن الإنسان، مهما كان الشيء الذي يعمل فيه ذهنه، يعمل هذا الذهن في الشيء المرتبط، في الحال البشرية ارتباطا ضروريا، ونعود فنقول: إن تفكير الإنسان في نفسه تفكيرا مجردا من الأمور الطبيعية يعني عدم التفكير في شيء، فليحترز من هذا.
وإنا، مع بعدنا من منع الإنسان من التفكير في حاله، لا نزوده بغير ملاذ حاله، ويخاطب العالم بالصيت والعلم، ويخاطب الأمير بكل ما له صلة بعظمته، ويخاطب كل إنسان باللذة. (38)
وللأكابر والأصاغر عين النوائب وعين الكروب وعين الآلام، بيد أن الأولين في أعلى الدولاب وأن الآخرين قريبون من المركز فيكونون - على هذا الوجه - أقل اهتزارا بعين الحركات.
من الخطأ أن يقال إن الأصاغر أقل اهتزارا من الأكابر، فعلى العكس ترى أن يأسهم أكثر شدة؛ لأنهم أقل وسائل، فانظر إلى مائة شخص يتذابحون بلندن تجد تسعين من المائة من العوام وواحدا من المائة من الخواص، فالمقارنة بالدولاب لبقة فاسدة. (39)
لا يعلم الناس أن يكونوا صالحين، وهم يعلمون كل ما بقي، ومع ذلك فإنهم لا يدعون بشيء ادعاءهم بذلك، وهكذا فإنهم لا يدعون من المعرفة بغير الشيء الوحيد الذي لا يتعلمونه مطلقا.
يعلم الناس أن يكونوا صالحين، ولولا هذا ما انتهى إلى الصلاح غير القليلين، فدعوا ابنكم يأخذ في صباه كل ما تصل يده إليه تجدوه من قطاع الطرق في الخامسة عشرة من سنيه، وامتدحوا قوله الكذب يصبح شاهدا كاذبا، وداروا ميله الجنسي يكن فاجرا لا ريب، فالناس يعلمون كل شيء، يعلمون الفضيلة والدين. (40)
ويا للمشروع السخيف الذي أخذ مونتن على نفسه أن يرسمه! وليس هذا أمرا عابرا وخلافا لمبادئه، كما يمكن أن يزل كل إنسان، بل وفق مبادئه الخاصة ووفق الرسم الأصلي الأول؛ وذلك لأن قول الحماقات اتفاقا وعن ضعف شر عادي، وأما قولها قصدا فأمر لا يطاق، كقول تلك.
يا للمشروع الفاتن الذي أخذ مونتن على نفسه أن يرسمه كما صنع! وذلك أنه رسم الطبيعة البشرية، ويا لمشروع نيكول وملبرانش وبسكال الهزيل في الاستخفاف بمونتن! (41)
وعندما أنعمت النظر في أمر الركون إلى كثير من الدجالين الذين يقولون إن لديهم أدوية، فيتصرفون حتى في حياة الإنسان غالبا ظهر لي أن علة هذا الحقيقية هو وجود أدوية صحيحة؛ وذلك لأن من غير الممكن وجود أباطيل كثيرة يركن إليها كثيرا من غير أن يوجد بينها ما هو صحيح، ولو حدث أن خلت منها، وكانت جميع الأمراض مستعصية لكان من المحال أن يعن للناس إمكان إعطائهم منها، وذلك إلى إمكان ركون آخرين كثيرين إلى من يتبجحون بحيازتهم لها، وكذلك فإن الرجل الذي يتبجح بأنه يحول دون الموت لا يصدقه أحد؛ وذلك لعدم وجود مثال على ذلك. ولكن بما أنه يوجد مقدار من الأدوية التي وجد أنها صحيحة بشهادة أعاظم الرجال، فإن ركون الناس قد ضمن بهذا، وذلك بما أن الأمر لا يمكن أن ينكر على العموم (ما دام يوجد من المعلومات الخاصة ما هو حقيقي)، فإن الجمهور، الذي لا يستطيع أن يميز أي هذه المعلولات هو الصحيح، يعتقدها كلها، وكذلك فإن الذي يحمل على اعتقاد كثير من معلولات القمر الفاسدة هو وجود ما هو صحيح منها، وذلك كمد البحر.
صفحة غير معروفة