هذا وفق كل نظام، ومن المحال أيضا إمكان قيام مجتمع وبقائه بلا أنانية، كما أن من المحال أن تقع ولادة بلا ميل إلى الملاذ الحسية، وأن يفكر في الغذاء بلا شهوة طعام ... إلخ، فحبنا لأنفسنا هو الذي يساعد على حب الآخرين، ونحن نكون نافعين للجنس البشري بتبادل احتياجاتنا، وهذا هو أساس كل مصاحبة، وهذه هي الصلة الخالدة بين الناس، ولولا ذلك الحب ما اخترعت صنعة، ولا قام مجتمع مؤلف من عشرة أشخاص. وهذه الأنانية التي نالها كل حيوان من الطبيعة هي التي تنبهنا إلى احترام أنانية الآخرين، والقانون يوجه هذه الأنانية، والدين يكملها، والحق أنه كان يمكن الرب أن يصنع مخلوقات منتبهة لخير الآخرين، ففي هذه الحال يذهب التجار إلى الهند عن إحسان، وينشر البناء حجرا عن مراعاة لخاطر قريبه، بيد أن الله أقام الأشياء على وجه آخر، فلا نتهم الغريزة التي أنعم بها علينا، ولنستعملها كما أمرنا. (12)
وما كان «حس النبوءات الخفي» ليغوي، وما كان ليمكن غير شعب شهواني كذلك أن يغلط في ذلك؛ وذلك لأن النعم إذا ما أمل بها كثيرا، فما الذي يحول دون إدراك أولئك القوم للحقيقي منها إن لم يكن طمعهم الذي كان يعين هذا الميل إلى حطام الدنيا؟
هل كان يدرك أشد شعوب الأرض روحانية ذلك الأمر على وجه آخر على حسن نية؟ لقد كانوا عبيدا للرومان، وكانوا ينتظرون منقذا، يجعلهم منصورين، ويحمل على احترام أورشليم في جميع العالم، وكيف كان يمكنهم أن يبصروا - على نور عقلهم - هذا المنصور، هذا العاهل في يسوع الفقير المصلوب، وكيف كان يمكنهم أن يدركوا وجود أورشليم سماوية، تقوم مقام عاصمتهم مع أن الوصايا العشر لم تحدثهم عن خلود الروح فقط؟ وكيف يمكن شعبا شديد التمسك بشريعته أن يعرف - بلا نور عال - في النبوءات، التي لم تكن شرعا له، إلها خفيا في صورة يهودي مختون، قضى بدينه الجديد على الختان والسبت اللذين هما أساس الشريعة اليهودية المقدسة؟ وأخيرا لنعبد الله من غير أن نلج في ظلام أسراره. (13)
وقد نبئ بزمن أول ظهور ليسوع، ولم ينبأ بظهوره الثاني قط؛ وذلك لما وجب أن يكون الأول خفيا، ولما يجب أن يكون الثاني سنيا بالغا من الوضوح ما يعترف به حتى أعداؤه.
لقد نبئ بظهور يسوع الثاني بأوضح مما نبئ بالأول، ومن الواضح أن يكون مسيو بسكال قد نسي أن يسوع صرح قائلا في الفصل الحادي والعشرين من إنجيل مار لوقا: وإذا رأيتم أورشليم قد أحاطت بها الجنود، فاعلموا حينئذ أن خرابها قد اقترب ... وتدوس الأمم أورشليم، وتكون علامات في الشمس والقمر والنجوم وعلى الأرض كرب للأمم حيرة من عجيج البحر وجيشانه، وتزهق الناس من الخوف وانتظار ما يأتي على المسكونة، فإن قوات السماوات تتزعزع، وحينئذ يشاهدون ابن البشر آتيا على سحابة بقوة وجلال عظيمين.
أو ليس هذا إنباء جليا بالظهور الثاني؟ ولكن إذا كان هذا لم يقع بعد؛ فإنه ليس لنا أن نجرؤ على سؤال القدرة الربانية عنه. (14)
ويجب أن يكون المسيح عند اليهود الشهاوى أميرا زمنيا كبيرا، وقد جاء المسيح عند النصارى الشهاوى؛ ليعفينا من حب الرب، ويعطينا أسرار القربان التي تؤثر كلها بغيرنا، وليس الدين النصراني أو اليهودي هذا أو ذاك.
فهذه المادة كلام هجو أكثر من كونها تأملا نصرانيا، ويرى أن اليسوعيين هم الذين يحقد عليهم هنا، ولكن هل قال يسوعي إن يسوع «جاء ليعفينا من حب الرب؟» إن الجدال حول حب الرب هو جدال ألفاظ، شأن معظم المناقشات العلمية الأخرى التي أدت إلى ضغائن شديدة ومصائب فظيعة.
ويبدو نقص آخر في هذه المادة، وهو أن ما يفترض فيها من انتظار مسيح عد مسألة دين لدى اليهود، مع أن هذا كان فكرة مسرية منتشرة بين هؤلاء القوم، أجل، إن اليهود كانوا يرجون ظهور منقذ، بيد أنهم لم يؤمروا باعتقاد هذا على أنه مادة إيمان، وقد كان جميع دينهم مدونا في أسفار الشريعة، ولم يحدث قط أن عد اليهود الأنبياء مشترعين. (15)
ولا بد من فحص النبوءات لإدراكها؛ وذلك لأنه إذا ما اعتقد أنه ليس لها غير معنى واحد كان من الأكيد أن المسيح لا يظهر مطلقا، ولكنه إذا كان لها معنيان؛ فإنه سيظهر في شخص يسوع لا ريب.
صفحة غير معروفة