وتسالمه فيحل سلام الدنيا كلها في قلبه، وتغاضبه فيقع في حرب هذه الحياة وتقع الحياة في حربه، وإذا ضاقت الجميلة به ساعة واحدة لم يبق له بالعمر استطاعة، وإذا كان الهرم بالسنين الطويلة هرم في هجرها بالدقيقة والساعة.
ويرى لو أن الجمال نفسه خلق امرأة لكانها، ولو جادل أحد في المحاسن لجعلتها المحاسن برهانها، فهي تقبل بوجهها الفتان كما تقبل السعادة بالأمل الوسيم، وتختال بمعانيها النسائية كما تهب روائح الأزهار في النسيم؛ رفافة على الحب كأنها خلقت في جنة الحب ريحانة، مسكرة للعاشقين كأن نهر الخمر في الجنة جعل فمها لهذا العاشق حانة، صافية يترقرق في حسنها ماء دلالها، وتشرق بالقمر الأزهر من وجهها سماء جمالها، ولا تشبه إلا نفسها كما لا يشبهها إلا ما تبدي المرآة من خيالها.
ويغلو فيفسر النظرة منها تفسير الفقيه المتكلم للآية، ويقف عند الابتسامة وقوف السابق إذا فاز عند الغاية، وينظر إليها في ثوبها ولكن كما ينظر القائد إلى مجد وطنه في الراية، ويسمع صمتها كأنه كلام بين نفسه وبينها، ويعي كلامها فلا تدري أأنطقت به فمها أم أنطقت به عينها؛ فهي بجملتها ليس فيها من الحسن إلا وحي وتنزيل، وهو بجملته ليس فيه من الحب إلا تفسير وتأويل، ثم هي وحدها القاعدة العامة في الجمال وهو وحده البرهان والدليل.
وتراه ينظر إليها ولكنه من سحر جمالها كأنه يتوهمها، ويعرفها ولكنه من سطوة جلالها كأنه لا يفهمها، ثم تعلو فما يشرق حسنها عليه إلا كالمعنى الأزلي من جانب في الغيب، ثم تعظم فلا يدرك ما فيها من الحقيقة السماوية إلا على طريقة أهل الأرض في إدراك الحقائق العظمى بالإيمان والريب. •••
تلك هي الحبيبة الجميلة لا تعرف إن كان الجمال في شخصها أو في الجزء المتصل منك بشخصها، أو في الذي هو متصل بك من شخصها، فهي جميلة من ناحيتك ومن ناحيتها ومما بينهما؛ وهذا هو الذي يجعلها فوق الجمال الإنساني بطبقتين لا تسمو امرأة إلى واحدة منهما؛ ويجعلك ترى ما فيها من الإبهام جمالا لا تفسير له وما فيهما من التفسير جمالا مبهما؛ فكأنها في كل ذلك دائرة مرسومة من الفكر لا يهديك البحث إلى موضع طرفيها، وهي محيطة بروحك من ثلاث جهات فلم يبق لك إلا الجهة التي تتصل روحك منها بيد الله، وهذا هو موضع التأليه في الجمال المعشوق؛ إذ لا يدعك الحب معه إلا بين شيئين اثنين: الحبيبة والخالق.
ألم تر إلى شعراء الدنيا وهم أنبياء الجمال الذي لا تتصل ملائكته بغيرهم ولا يفهم غيرهم ما يفهمون منها؛ كيف يشبهون الحسن الرائع بكل ما في الخليقة من مظاهر الروعة، فيتناولون من الآفاق والسحب والبروق والرعود ومن الشمس والقمر والنجوم والأفلاك، ومن الخلد والجنة والنار؛ ويأخذون من الجبال والبحار والأنهار ومن الرياض والأزهار، ثم من الطير والوحش ثم من المعادن وأفلاذ الأرض، ومن كل ما ختمت عليه يد الله بروعة أو طبعت عليه برهبة؛ ويجمعون ذلك ثم يفيضونه في أوصاف الجميلة وجمالها حتى لكأنها ذلك السر الذي قام به حسن الخليقة، وحتى كأنه الله لم يخلقها إلا ليكون كل شيء فيها تفسيرا لشيء ما في آية من آياته، وما ذلك بمبالغة من الشعراء ولكن أرواحهم الجميلة قد أحيط بها من هذا الجمال النسائي، فأينما أحسوا رأوا له صلة بإحساسهم وضرب في أفئدتهم عرق منه فانقدح له شعاع يطير إلى الفكر؛ لأنه بعض القوة الموجهة إليه من الروح المفكر.
إن الجميلات إنما هن كواكب الأرض يدرن في أفلاك القلوب؛ ولست ترى فلكيا يرصد نجوم السماء إلا ولعينيه منظار تكبر فيه الأشياء
2
أضعافا إلى أضعافها فيدنو بالبعيد ويجهر بالخفي، وعاشق الجميلة حين يهيم بها ويرصد منها نجم خياله في فلك أمانيه لا يلبث أن يرى الجمال قد جسم فيه الحس وبسط له ضوء الفكر، فإذا عينه في تكبير نجمة الأرض كذلك المنظار بعينه في تكبير نجمة السماء، وإذا ملء العين حبيبها.
فيا كبدي مما ألاقي من الهوى ... ... ... ... ...
صفحة غير معروفة