الذكرى
بعد ما كنت وكنا؟1
الرسالة الأولى
الرسالة الثانية
الرسالة الثالثة
الرسالة الرابعة
الرسالة الخامسة
الرسالة السادسة
الرسالة السابعة
الرسالة الثامنة
الرسالة التاسعة
الرسالة العاشرة
الرسالة الحادية عشرة
الرسالة الثانية عشرة
الرسالة الثالثة عشرة
الرسالة الرابعة عشرة
الرسالة الخامسة عشرة
خاتمة الكتاب
تنبيه
الذكرى
بعد ما كنت وكنا؟1
الرسالة الأولى
الرسالة الثانية
الرسالة الثالثة
الرسالة الرابعة
الرسالة الخامسة
الرسالة السادسة
الرسالة السابعة
الرسالة الثامنة
الرسالة التاسعة
الرسالة العاشرة
الرسالة الحادية عشرة
الرسالة الثانية عشرة
الرسالة الثالثة عشرة
الرسالة الرابعة عشرة
الرسالة الخامسة عشرة
خاتمة الكتاب
تنبيه
رسائل الأحزان
رسائل الأحزان
في فلسفة الجمال والحب
تأليف
مصطفى صادق الرافعي
المقدمة
بقلم مصطفى صادق الرافعي
بسم الله الرحمن الرحيم
كان لي صديق خلطته بنفسي زمنا طويلا، وكنت أعرفه معرفة الرأي كأنه شيء في عقلي، ومعرفة القلب كأنه شيء في دمي، ثم وقع فيما شاء الله من أمور دنياه حتى نسيني، وطار على وجهه حتى غاب عن بصري، والتفت عليه مذاهبه فما يقع إلي من ناحيته خبر؛ وامتد بيني وبينه حول كامل خلا من شخصه وامتلأ من الفكر فيه، كأنه العام الأول من تاريخ حفرة بين القبور العزيزة التي لا تنسى.
وطلعت الشمس يوما في غيم يناير من سنة 1924 فأحسست قلبي من الذعر كالطائر ينفض ندى جناحيه في أشعتها، ولم تكد ترتفع وتتلألأ حتى وافى البريد يحمل إلي خطه وإذا فيه:
يا عزيزي الحبيب!
فقدتني زمنا إن يكن في قلبك منه وخزة ففي قلبي منه كحز السيف؛ لم أنسك نسيان الجحود وإن كنت لم أذكرك ذكرى الوفاء فأبعث إليك بخبر يترجم عني؛ إذ كنت في سجن وأنا الساعة منطلق منه، لا تجزع ولا تحسبنه سجن الحكومة ... إن هو إلا سجن عينين ذابلتين كان قلبي المسكين يتمزع في أشعة ألحاظهما كما يكون المقضي عليه إذا أحاطت به السيوف، وجعل بريقها يتخاطف معاني الحياة من روحه قبل أن يخطف هذه الروح، بل سجن فكري الذي ابتليت به وبخياله معا فلا يزال واحد منهما يبالغ في إدراك الجمال والآخر يبالغ في تقديره؛ حتى تكاد تطلع نفسي من نواحيها
1
لكثرة ما يسرفان عليها كما يريد الأطفال أن يملأوا القدح ليستفيض لا ليمتلئ، وليرسل الماء لا ليمسكه؛ فلو أنهم صبوا فيه ملء بحر بأمواجه لجرى البحر من حافة قدح صغير.
ما أحسبني قط رأيت امرأة جميلة كما هي في نفسها وتركتها كما هي في نفسها، بل هناك نفسي، وآه من نفسي، وما أسرع ما يمتزج في هذه النفس بعض الإنسانية المحبة ببعض الإنسانية المحبوبة فإذا أنا بشيء إلهي قد خرج لي من الإنسانيتين، هو هذا الشعر؛ هو هذا البلاء؛ هو هذا الحب.
فررت منك ومن سواك يا عزيزي مصيف
2
إلى امرأة كالتي جعلت آدم يفر حتى من الجنة ومن الملائكة؛ وقد يكون اتصال رجل واحد بامرأة واحدة كافيا أحيانا لتكوين عالم كامل يسبح في فلك وحده، عالم مسحور، في فلك مسحور، لا يخضع إلا لجاذبية السحر، ولا يعرف إلا تهاويل السحر.
على أنك لم تفقد مني في هذه السنة إلا بضعة كتب وكلاما كنا نترسل به وليس فيه إلا الحبر؛ فسأرد عليك من ذلك كتب سنوات وأعوضك برسائلي كلاما فيه دمع العين ودم القلب، فقدتني صديقا يهز يديك بتحيته والآن أعود إليك شاعرا يهز قلبك بأنينه، فقدتني شخصا وسأرجع إليك كتابا.
أما أنت فاكتب لي رجع كل رسالة تأتيك من قبلي واذكر لي موقعها من نفسك، وكيف كان دبيبها أو طيرانها عندك؛ فإني راميك بأسهم لا قاصرات عن قلبك تنزل دونه ولا زائدات تمر عليه وتتجاوز، بل مسددات يقعن فيه.
وأرجو عافاك الله أن لا تتطلع في قلمي بنقد أو اعتراض أو تعقيب، بل دعني وما أكتبه كما أكتبه؛ فإن لكل شيء طرفين، وأن طرفي الجمال هما الحب والبغض؛ ورسائلي هذه ستأتيك بالجمال من طرفيه فلقد والله أحببت حتى أبغضت، ولقد والله يضجر العمل السامي إذا أصاب غير موضعه كما يضجر العمل السافل إذا نزل في موضعه.
ومتى انقطع هذا المدد المتلاحق من كتبي فاجمع الرسائل وقدم لها كلمة بقلمك، ثم اطبعها وسمها «رسائل الأحزان»؛ إنها كانت عواطف ثارت وقتا ما ليحدث منها تاريخ وسكنت بعد ذلك ليحدث منها شعر وكتابة.
فإن نجتمع بعد نظرنا فيها معا وقرأتها عيناك لقلبي، وإن ارتاح الله لي برحمته
3
رفت عليها روحي فأسمع صوتك في الغيب يرسل إلى هذه الروح تحية من أنغام قلبها الميت.
صديقك (...)
21 يناير سنة 1924 •••
وجعلت رسائل الصديق تترادف إلي مسهبة ضافية تقطر فيها نفسه كما ترسل السحابة المنتشرة قطرات انعقدت وانحلت، ثم جعلت نفسه تنطوي على نأي حبيبته واشتد عليه أمرها ثم أسهل وانقاد، واعتادها هاجرة فراث قليلا
4
ثم كف؛ ومرت الظبية تطفو
5
ووهبها للبر الواسع ... وانقلب عنها بعد أن ملأت نفسه كما يقول في بعض رسائله «بمثل البحر ملحا ومرارة» ...
أما هذا الصديق فأعرفه أسلوبا من الكبر ولكن على نفسه، ومن الشذوذ ولكن في نفسه، كأنما فتحت أفواه عروقه جنينا وملأتها الوراثة من دم ملك كان في أجداده، مستصعب شديد المراس فهو أبدا في حياته كالملك الذي حالت السيوف والأسنة والقوانين بينه وبين تاجه فجعلت له حياتين يفصل الموت بينهما، اجتمع من تاريخه إنسان بلغ الزمن تحت عينيه نيفا وأربعين سنة، فهو تاريخ أحزان قد استفاضت مسائله في فصول وأبواب جف القلم منها على نيف وأربعين جزءا كلماتها في حوادثها، وأن السطر منها ليرعد في صحيفته من الغيظ، وأن الكلمة لتبكي بكاء يرى، وأن الحرف ليئن أنينا يسمع، وأن تاريخه كله لينتفض؛ لأنه مصيبة ملكية مصورة في ملك. •••
لقد سبق الكتاب وجف القلم الأزلي على علم الله فما أتينا إلى هذه الدنيا إلا ليمثل كل واحد منا فصلا من معاني الشقاء الإنساني في تلك الثياب التي هي ملك لصاحب المسرح، لا نخلعها ونلبسها بل يخلعنا بعضها ليلبسنا بعضها الآخر، فلسنا نبتدع، ولكن يلقى علينا وما نحن بمخترعين ولكننا نحتذي، والرواية موضوعة تامة قبل ممثليها، وضعها ذلك القلم الأعلى الذي كتب مقادير كل شيء كان أو يكون حتى تمحى من صفحة الأرض هذه الأحرف السوداء المتحركة والساكنة
6 ...
والمشكلة الإنسانية الكبرى أن كل إنسان يريد أن يكون بطل الرواية ومثلها البكر حتى ذلك الشخص الذي جيء به لتنزل عليه اللعنة في سياقها، غير أن الرواية مفصلة من قبل، ويأتي فصل اللعنة كما هو بأطرافه وحواشيه وأسبابه ونتائجه فينصب على ممثله جملة واحدة على وجه لا يحس ولا يرى ولا يدفع كما يلبسه النوم فإذا هو يفتل فيه فتلا، وإذا رجل على أعين الناس باللعنة حال وباللعنة مرتحل.
النوم والقدر والموت كالشيء الواحد أو ثلاثتها أجزاء لشيء واحد؛ فالنوم غفلة تخرج الحي هنيئة من الحياة وهو فيها على حالة أخرى، والموت غفلة تخرجه من الحياة كلها إلى حالة أخرى، والقدر منزلة بين المنزلتين يقع هينا على أهل السعادة بأسلوب النوم، ويجيء لأهل الشقاء عنيفا في أسلوب الموت، ولن يجلب شيئا أو يدفع عن نفسه شيئا من هذه الثلاثة إلا الذي لم يخلق على الأرض، ذلك الذي يستطيع أن يفتح عينيه على الليل والنهار فلا ينام، أو يحفظ نفسه على الصغر والكبر فلا يموت، أو يضرب بيديه على مدار الفلك فيمسكه ما شاء أو يرسله. •••
جئنا إلى هذه الحياة غير مخيرين ونذهب غير مخيرين إن طوعا وإن كرها؛ فمد يدك بالرضا والمتابعة للأقدار أو انزعها إن شئت فإنك على الطاعة ما أنت على الكره، وعلى الرضا ما أنت على الغضب؛ ولن تعرف في مذاهب القدر إذا أنت أقبلت أو أدبرت أي وجهيك هو الوجه، فقد تكون مقبلا والمنفعة من ورائك أو مدبرا والمنفعة أمامك، والقدر مع ذلك يرمي بك في الجهتين أيهما شاء.
وحري بمن يوقن أنه لم يولد بذاته أن لا يشك في أنه لم يولد لذاته؛ وإنما هي الغاية المقدورة المتعينة فلا الخلق يتركونك لنفسك ولا الخالق تارك نفسك لك. •••
كذلك كان صديقي وما هو إلا إنسان من الناس، وقد بلغ من العمر أربعة عقود، ولكنه يحس منذ الصغر أنه رجل هرم أو كما يقول بعض الفلاسفة
7
في تعليل ذكاء الأذكياء أنهم يتذكرون ما يرونه ولا يتعلمونه؛ لأن فيهم نفوسا خرجت من الدنيا كاملة ثم رجعت لتزداد كمالا وتلك خرافة؛ ولكن من نقص هذا الإنسان أنه لا يستطيع التعبير عن أكبر الحقائق وأدقها إلا بأسلوب خرافي ...
قال لي هذا الصديق يوما: إني بلغت أربعة عقود، ولكنها فيما عانيت كأنما تضاعفت إلى أربعين عقدا؛ وقد انتهيت من دهري إلى السن التي ينقلب فيها الآدمي من وفرة القوة ليثا، ويرجع من قوة الحكمة نبيا، ويعود من تمام العقل إنسانا، غير أن هذه الأربعين بما تعاورت علي قد هدم في بعضها بعضا؛ فإن أكن بناء فذلك صرح ممرد عمل فيه أربعون معولا فما أبقت حجرا على حجر؛ وإن أكن حومة فقد اعترك فيها للأقدار أربعون جيشا فما تؤرخ بنصر ولا هزيمة، يا ويلتا من هذه الدنيا، إن مصيبة كل رجل فيها حين يصير رجلا أنه كان فيها طفلا وما علم أنه كان طفلا.
تلك حياة الصديق وكانت ليلا طويلا انبسط عليه فنن من الظلام كأنه مورق بالسحب والغمائم السوداء لا ينقشع بعضها عن بعض حتى كأن صباحه مات فيها أربعين سنة، ثم انبعث آخرا من وجه فتاة أحبها فأشرق له من غرتها واستضاء عليه في وجهها، وطلعت شمس حبه من خديها حمراء في لون الورد؛ إذ امتزجت أشعتها بظلماته.
ويؤخذ من رسائله أن صاحبته كانت من قوة الجاذبية كأنها كوكب جذب منه كوكبا آخر، ومن فتنة الحسن كأنها رسالة إلهية إلى هذه الأرض، بل إليه وحده في هذه الأرض، أدارته هذه الحياة طويلا وأدارتها ليجيء موضعه إلى جانبها، فكأنما أدارت منه فلكا عاتيا لا يتزحزح إلا بعد دفعه أربعين سنة كاملة ...
رجل وامرأة كأنما كانا ذرتين متجاورتين في طينة الخلق الأزلية وخرجتا من يد الله معا، هي بروعتها ودلالها وسحرها وهو بأحزانه وقوته وفلسفته، فكان منهما شيء إلى شيء، كما توضع زجاجة الحبر الأسود إلى جانب يتيمة من الألماس أجيد نحتها وصقلها وتكسر على جوانبها شعاع الشمس؛ فإذا هي من كل جهة ثغر يتلألأ، وإذا بالزجاجة ولو على المجاز «ألماس أسود».
كانا في الحب جزأين من تاريخ واحد نشر منه ما نشر وطوى ما طواه، على أنها كانت له فيما أرى كملك الوحي للأنبياء، ورأى في وجهها من النور والصفاء ما جعلها بين عينيه وبين فلك المعاني السامية كمرآة المرصد السماوي؛ فكل ما في رسائله من البيان والإشراق هو نفسها، وكل ما فيها من ظلمات الحزن هو نفسه. •••
هدمت الأقدار هذا الصديق حتى انحط كل ما فيه من العزم والقوة فجاءت «هي» تبنيه وتشد منه وترمم بعض نواحيه المتداعية، وتقيمه بسحرها بناء جديدا وتحفت به عنايتها زمنا حتى صلح على ذلك شيئا فأيسرت روحه من فقرها إلى الجمال والحب، ويقول صديقي: «إنه ليس على الأرض من يشعر كيف ولدته أمه، ولكني رأيت بنفسي كيف ولدت تلك الحبيبة نفسي؛ مرت بيديها على أركاني المتهدمة وأعانتها الأقدار على إقامتي وبنائي، غير أن هذه الأقدار لم تدعها تبنيني إلا لتعود هي نفسها بعد ذلك فتهدمني مرة أخرى».
يصف حبيبته في هذه الرسائل كأنه مسحور بها فيجيء بكلام علوي مشرق كتسبيح الملائكة يمازجه أحيانا شيء يحار فيه الفهم؛ لأن أحدنا إنما يرسل فكره وراء قلمه، أما هو فيرسل نفسه وراء فكره ويستمد قلمه منهما، فمنزلته أن يكتب ثلاث كلمات ومنزلتنا أن نفهم كلمتين، والإنسان منا كاتب مفكر؛ أما هو فقد زاد بصاحبته فكان كاتبا مفكرا وملهما.
ومما لا أكاد أفهمه أنه يكتب كتابة محب أحياه الحب ومبغض قتله البغض؛ فإني لأعلم أن كل شيء حبيب ممن نحبه حتى البغض إذا كان يدل على حبه ولو دلالة خفية، بيد أن صاحبي يجفو جفاء شديدا فلعلها أنفة غلبت بها النفس على القلب فحولت الحب إلى جفاء والجفاء إلى غيظ والغيظ إلى مقت، وإنما المقت أول البغض وآخره. •••
يا صديقي المسكين لا يحزنك فإن آخر الحب آخر لأشياء كثيرة ... وإن من بين النساء نساء أولهن كالشباب وآخرهن من أشياء كالهرم والضجر والضعف والموت.
ويا جمال النساء إن كان في الأشياء ما هو أحسن وأجمل فإن في الأشياء ما هو أنفع وأجدى، وقد تكون الجدوى والمنفعة من الجمال في بغضه أحيانا أكثر مما تكون في حبه.
ويا رحمة الله من فوق سبع سماواته لقد علمتنا بما نجده فيسرنا، وما ننساه فلا يضرنا، أن لا نيأس منك أبدا ولو كنا من الهم تحت سبع أراضيه.
الذكرى
ما أشد على قلبي المتألم أن لا يأخذ بصري من الناس إلا من يتدحرج في نفسي ليهوي منها أو يتقلب في أجفاني
1
ليثقل على عيني؛ وأحاول أن أرى تلك الطلعة الفاتنة التي انطوى عليها القلب فانبث نورها في حواشيه المظلمة، وأن أملأ عيني من قمر هذا الشعاع الذي جعل السماء في جانب من صدري؛ فإذا ما شئت من الوجوه إلا وجه الحب، وإذا في مطلع البدر من رقعة سوداء لا تبلغ مد ذراع، ويغشى الكون كله منها ما يغشى، فاللهم أوسع لقلبي سعة
2
يلوذ بها.
العالم لكل الناس، غير أن لكل إنسان عالما هو خالصة نفسه؛
3
وعلى أن هذه الدنيا مترامية إلى كل جهة تتدلى عليها السماء، فإن أراضيها الخمس بما رحبت لا تقوم عندي بتلك الجدران الأربعة التي رأيت فيها من أحببتها؛ رأيت من هذه صورة قلبي فلا عجب أن تكون تلك الجدران صورة ضلوعي، وما أدري أذلك سحر أم تلبيس أم تخييل؛
4
أم هو الحب؟
إذا كنت شاعرا فأضللت نفسك فنشدتها طويلا، وقلبت عليها آفاق النفوس وأفلاك القلوب فإنك لن تصيبها إلا في نفس امرأة جميلة يجعلها مهندس الكون مركزا للدائرة التي تنفسح بأقطار نفسك ذاهبة بكل قطر إلى جهة من أماني الحياة.
وإذا كنت حكيما فسألت نفسك سؤال الفلاسفة: من أنا؟ ووجدت في نفسك ذلك السر الخفي يقول عنك: من هو؟ فإنه لن يظهر لك معنى «أنا وهو» إلا إذا وضع الحب بينهما «هي» ...
وإذا كنت رجلا من عامة الأرض اندمج في جلدة من الثرى
5
فإن نفسك لن تحس جوهرها الإلهي إلا في نفس حبيبة، وإن كانت من عامة السماء ... فالحب يجعل الناس أعلاهم وأسفلهم صاعدين أبدا من أسفل إلى أعلى. •••
إني أخط في هذه الصفحات صورة من الزمن الفاني تصور خطفة البرق التي خطرت في سماء العمر من ابتسامة ملتهبة كانت سيالة بكهربائها؛ وإن في القلم لشيئا إلهيا يدفع الموت والنسيان عن المعاني التي تكتب إلى أجل طويل، كأن القلم ينتزعها من الإنسان الذي هو قطعة من الفناء ليبعد الفناء عنها، هي «رسائل الأحزان» لا لأنها من الحزن جاءت، ولكن لأنها إلى الحزن انتهت، ثم لأنها من لسان كان سلما يترجم عن قلب كان حربا، ثم لأن هذا التاريخ الغزلي كان ينبع كالحياة، وكان كالحياة ماضيا إلى قبره ليس بيني وبين الهوى شأن ولا عداوة، ولكنها تركت في ثلاثا: قلب أخلص لها وأوغرته
6
عليها، وبقايا آلام كأنها أشلاء
7
من فريسة تشير إلى تاريخ من الموت والألم والتمزيق، وتركت مع هذين اسمها الذي أحفظها فيه بجملتها، وقد يحسم الداء
8
ولكن اسمه يبقى داء ما بقي، فهذه الأسماء أكثر ما أنت واجدها إما زيادة على أصحابها في الحب أو زيادة في البغض أو زيادة في الألم؛ إذ هي عند أشخاصها تطلق على أشخاصها، ولكنها في الناس تنبه إلى المعاني والحوادث والصفات المجسمة التي تنتشر عليها النفس أو تنقبض ويتحرك لها الدم حبا أو بغضا ورغبة أو رهبة وعطفا أو غلظة، وأحيانا ... إهمالا أو ازدراء.
والحبيب قد يتحول إلى كلمة أو قبلة أو معنى من المعاني إذا أراد محبه أن ينقله معه إلى أي مكان وهو باق في مكانه؛ الكلمة والقبلة والمعنى، هذه هي الجهات الثلاث التي تنفذ منها النفس إلى أحبابها حين يخفيهم الغمام الفاصل بين الحياة والحياة إذا ابتعدوا أو هجروا أو الغمام الضارب بين الحياة والموت إذا لحقوا بالأبد، أما الجهة الرابعة فحين تفتح للمحب يلقى جسمه ويصعد بروحه ويختفي هو فيها، ولعمري إني لأريد أن أنساها ثلاث مرات لا مرة واحدة، ولكنها في ذكراي كأنها ثلاث نساء؛ واحدة في الرضا وثانية في الغضب وثالثة بين ذلك؛ واحدة في كلمة وأخرى في قبلة وثالثة في معنى من المعاني ... •••
السعادة تنصرف عنا في أكثر الأحيان ليكون تلهفنا عليها واهتياجنا لها سعادة على وجه آخر، وكأنما أوشكت
9
لنا من هذه الجهة وهي ذاهبة؛ وإذا لم يكن الإنسان بأشد حاجة إلى الطعام في وقت منه إلى الجوع في وقت غيره فكذلك هو في غذاء روحه وعواطفه، يفقد السعادة وقتا كالجوع ووقتا كالصوم، وإن هذا لهو بعض أسرار الحكمة الإلهية في الشقاء الإنساني، ولكنه كذلك من أسباب سوء الفهم في الإنسان، ولقد ذهبت هي كالسعادة فلا أطمع أن يتنفس قلبها على قلبي أو يتنهد صدرها لصدري، غير أن الشاعر الروحاني الذي يسعد بالحب إذا أرضى الحب نفسه يكون أسعد بالهجر إذا أرضى نفسه كذلك، ومع الحب عالم كثيف ينشئ في كل يوم ألما، ومع الهجر عالم مجرد يحدث في كل يوم سلوة.
فلنترك المادة للمادة يتحطم البغض والغيظ فيهما، وتخلص الروح إلى الروح كنور في المشرق ينبعث إلى نور في المغرب؛ وإذا ابتعد نجم عن نجم استطاع كلاهما أن يلمح للآخر لمحة متبسمة من بعيد، يجعلها البعد شعاعا صافيا، وإن كانت في ذات نفسها شعلة من جحيم يتضرم.
إن هذه الذكرى حياة أبثها مني في نسيانها فما أهنأني أن يجيئني من نسيانها شيء تبثه هي في حياتي.
بعد ما كنت وكنا؟1
يا رياض الغزال في سرجك الفي
نان يهفو بنا النحول غصونا
2
ما الذي يجعل المحب سعيدا
غير من غادر المحب حزينا
ليتني في ثراك نبع ويأتي
يتراءى الغزال في النبع حينا
ليتني في رباك ظل ظليل
ليلوذ الغزال بي ويلينا •••
بعد ما كنت يا غزال وكنا
ما الذي تحسب الهوى أن يكونا؟
الرسالة الأولى
سأكتب هذه الكلمات المرتعشة، وسأبسط رعدة قلبي في ألفاظها ومعانيها؛ أكتب عن (...) ذلك الاسم الذي كان سنة كاملة من عمر هذا القلب، على حين أن السعادة قد تكون لحظات من هذا العمر الذي لا يعد بالسنين ولكن بالعواطف؛ فلا يسعني إلا أن أرد خواطري إلى القلب لتنصبغ في الدم قبل أن تنصبغ في الحبر، ثم تخرج إلى الدنيا من هناك بين ما يخفق وما يزفر وما يئن، «من هناك»! آه، من ترى في الناس يعرف معنى هذه الكلمة، ويتسع فكره لهذا الظرف المكاني
1
الذي أشير إليه؟ إن العقل ليمد أكنافه
2
على السموات فيسعها خيالا، كما ترى بعينيك في ماء الغدير شبكة السماء كلها محبوكة من خيوط الضوء، مفصلة بعقد النجوم، ولكن هناك؛ في القلب؛ عند ملتقى سر الحياة بسر محييها؛ وهناك؛ في القلب، عند النقطة التي يتقطع فيها الطرف
3
بينك وبين من تحب، حين تريد الجميلة أن تقول لك أول مرة أحبك؛ ولا تقولها، هناك؛ في القلب؛ وعند موضع الهوى الذي ينشعب فيه خيط من نظرك وخيط من نظرك فيلتبسان
4
فتكون منهما عقدة من أصعب وأشد عقد الحياة، هناك؟ هذا معنى «هناك». •••
سأكتب أشياء وأضمر على أخرى لا أبوح بها، وما دام لكل امرئ باطن لا يشركه فيه إلا الغيب وحده ففي كل إنسان تعرفه إنسان لا تعرفه، وليست على المعاني والخواطر سمات
5
تميز بعضها من بعض كبياض الأبيض وسواد الأسود؛ فأنا وحدي أعرف سبب الزلزلة التي أصفها، والناس بعد كأولئك الخياليين القدماء الذين كانوا يقولون متى اهتزت أثقال الأرض:
6
إن إله المصارعة ينبض قلبه الآن ... وأعرف سبب البركان المنفجر، وكانت خرافة الأقدمين عندما تتمزع الأرض من الغيظ وتلعنهم بألفاظ من النار: أن إله الحدادة ينفخ في الكير ... أنا وحدي أعرف ما أندمج عليه،
7
وما يكنه قلبي المتألم الذي أصبح يضطرب اضطراب الورقة اليابسة في شجرتها نافرة تتململ إن عفت عنها نسمة لا تعفو النسمات كلها، فسآتيك في رسائلي بالكلام الصحيح والكلام المريض، ويتشعب عليك من خبري أمور وأمور فلا تحاول أن تهتك سر هذا القلب، وإذا صح أن الإنسان انطوى فيه العالم الأكبر فقد صح أن السماء انطوت في قلب الإنسان، ما أبعدك عن السماء! انظر انظر فإن السماء تقول لك أيضا إنها معنى «هناك». •••
لم تحيرني المتناقضات ولا المتشابهات ولا ضقت بأسباب الفكر فيها فإن ذلك الحب جعل في عقلين لا عقلا واحدا؛ أحدهما يقرني في هذه الدنيا والآخر ينقلني إلى ثانية؛ دنيا الناس جميعا ودنيا امرأة واحدة؛ دنيا السموات والأرض ودنيا قلبي.
في العقل الأول تنحل كل المشكلات، وفي الثاني تتعقد كل «البسائط» ... أحدهما قوي فلو اجتمعت عقول أعدائه في عاصفة واحدة لكان وحدة عاصفة تلف بها لفا، والآخر ضعيف ضعيف تمرضه الابتسامة الواحدة مرضا طويلا، ذلك يكسر النفس كسرا ويرضها رض الهشيم
8
ويزعها من جمجاتها؛ وهذا؟ كان الله له لا يشبه إلا الفضاء ما نسب إلى شيء ولا حسب في شيء ... الأول جبار يلد المحنة ويميتها، فهو عقل ما ينقطع له من الحيلة مدد؛ والثاني خوار
9
يمتحن بالنظرة الفاترة المتهالكة دلالا فتحمل هذه المحنة وتلد في طريقها إليه فلا تصل حتى تكون محنتين ... وأنا بين هذين العقلين كأني عالم عجيب حقائقه هي خرافاته، وما مثلي إلا مثل النهر الطامي يتدفق إلى البحر وقد فار فائره؛ فلو سألت أحفى مسألة،
10
واستعنت بالفنون والأدوات جميعا لتعرف ما هو ذلك الموضع المعين الذي يصل بين منبعه ومصبه لكان الجهل والعلم في ذلك سواء؛ إذ الموضع في النهر هو كل موضع فيه على طول ما يجري ويمتد.
كذلك حيرة الحياة والحب يجاب عنهما بجواب واحد هو نفسه حيرة أخرى؛ ولكني اكتب الآن وقد تركت الحب وتركني، خرجت من المعركة فنشبت نفسي في معركة أخرى لا أدري أهي قائمة بين الحب والبغض أم بين الحب والحب؟
أرأيت قط ذئبا قد افترس شاة وجعل يفرفرها
11
بأظافره وأنيابه، وهي تنتفض يائسة هالكة؟ إن تكن رأيته فذلك ذئب رحيم لو أنت كنت عاشقا فرجعت لك من تهواها مما تحب إلى ما تكره فرأيت البغض وما يصنع بقلبك، إنما الذئب ناب وظفر وسورة وحش
12
يعتري أكيلته فيسطو بها فيذهلها عن نفسها، ثم لا يزيد بعد ذلك على طبيب جاهل في «عملية جراحية» ... أما البغض فذئب الدم؛ يساورك سورة الحمى فإذا هو شعلة طائرة في عروقك لا تدع منك موضعا إلا مسته، ولا تمس منك موضعا إلا نقعت فيه
13
مثل ناب الأفعى من وهج الحب وسمه وغيظه وألمه، فما تدري في أي ناحية عذابك من هذا البغض ولا من أي الآلام هو؟
ولن تظهر قدرة الجمال وما فيه من القوة الأزلية إلا إذا حملك على بغضه بعد أن يحملك على حبه فيقتلك مرتين كل مرة بسلاح، وكل مرة على أسلوب، وكل مرة بنوع من الألم، وذلك ضرب من العذاب لا تملكه قوة في الأرض لا في الملوك ولا في الجبابرة، ولكن تملكه بعض النساء الضعيفات، ويعذبن به حتى الملوك والجبابرة.
مهما يبلغ الألم في عذاب إنسان فلن يجاوز حالة معينة، ثم يغمى على المتألم ويستريح ولو دقت في عظامه المسامير؛ كالماء مهما توقد عليه فلن يعدو درجة معروفة في غليانه ثم يثبت عندها ولو أضرمت عليه من النار التي وقودها الناس والحجارة، غير أن ألم الحب الشديد حين يكرهك على بغضه نوع منفرد في كل آلام بني آدم كانفراد «ذئب الدم» في جميع ما خلق الله من المعاني الوحشية. •••
لم أر وصفا كهذا أفظع ولا أبعث على الرعب؛ لأنه إنما هو موصوفه ... فسأخفف عليك فيما يلي هذه الرسالة، ولا أذكر لك ثمت إلا ما يكون كوصف الجنة تزخرفت له ما بين خوافق السموات والأرض،
14
ولكن دعني أقل لك إني أبغض من أحبها، على أنك لو رأيتها لرأيت نفسها تلوح في وجهها، جميلة كجماله رقيقة كرقته محبوبة كحبه، ولكني مع ذلك أبغضها والله بغض المحرور لما يتلذع
15
من أشعة الشمس، وبغض العين الرمداء لما يتلألأ من إشراق الضحى؛ فلا يداخلك في ذلك ريب ولا شك، وسيبقى سبب هذا البغض من سر الحب الذي لا يعرف، إن بعض الأسرار فيه ضربة العنق
16
فلا يباح به وبعضها يكون فيه ألم النفس الكبيرة فلا يباح به كذلك: ولكن اعلم أنها هي هي وأنه أنا هو، هي الكبرياء كلها لا تستعذرها من شيء فتعذر، ولا تسمح بشيء إلا التوت به،
17
وأنا كبرياء الكبرياء ما خلقت ألا محكم المعاقد لا أتثلم ولا أتحطم، وتقلبني في يدك ما تقلب عضلة الحديد فلا تراها من كل جهة إلا حديدا، هي يمين حلف الدهر بها ليكذبن كذبة بيضاء مغشاة يغر بريقها ويلتمع ماؤها لمع السراب؛ فتبصر فيها الروح معنى الري لتلتهب منها بالظمأ القاتل يفيضها على رمل ذهبي صبغته الشمس ... وأنا؟ أنا كلمة قد استوى ظاهرها وباطنها فإما أن تصدق كلها، وإما أن تكذب كلها، كلمة ليس فيها جزء محبوب وجزء مكروه فلا تحتمل أبدا معنيين، هي كالسيل تنحل به السحب؛ وأنا قمة من الصخر الصلد تغسلها السيول ولا تشققها.
ثم هي من وراء ذلك كله فيها روح بلبل يفر بأغانيه من ظل إلى ظل في رياض الجمال؛ وأما أنا ففي روح نسر يترامى بصفيره من جبل إلى جبل في قفار الحب، حاول العصفور الصغير الظريف أن يطوي النسر في جناحيه وهو لا يبلغ فصبة في ريشة في جناح هذا النسر، ولكنه ... آه ولكنه طواه في غير جناحيه. •••
أين العقل في الحب والبغض وبخاصة إذا أفرطت عليك أسبابهما؟ أما إن كل طريق لينفد فيه الإنسان على بصيرة إلا هذين؛ فإن أحدهما إذا احتواك لم يفلتك وأصبحت فيه كالذي يطاف به الدنيا ويداه في قيد، فمهما سوغ
18
من الحركة والاضطراب ومهما انفسحت له الآفاق فإن قدر ذراع من وثاق حريته الذي يشد يديه هو قياس دنياه في طولها وعرضها ما بلغت، فأنا على ما كنت أشعر من أن لي عقلين كنت أراني في ذلك الحب كأني بلا عقل، بل كأني مجنون من ناحيتين ... ويسرف علي بغضها أحيانا، فأتلهب عليها في زفرات كمعمعة الحريق
19
حين ينطبق مثل الفك من جهنم على مدينة قائمة فيمضغ جدرانها مضغ الخبز اليابس، ثم يسرف علي حبها أحيانا فينحط قلبي في مثل غمرات الموت وسكراته يتطوح من غمرة إلى غمرة، فأنا بين نقمة تفجأ وبين عافية تتحول، وكأنه لا عمل لي إلا أن أصعد مئة درجة لأهبط مئة درجة ... أما ماذا يرد علي الصعود والنزول فسل قصبة الزئبق
20
ولا تسلني، إنه سيال يترجرج في القلب بين شيء مني وشيء منها؛ وكانت عروقي كأنما ينصب فيها أحيانا دم قتيل فيهجم بالموت (الأحمر) على حياتي يريد أن يغولها.
إن تلك الفتاة لتغضب الملائكة الذين لا يغضبون؛ وقد خلق النساء لامتحان جنون الرجال وخلق الرجال لامتحان عقول النساء؛ وخلقت هي وحدها لجلب الجنون لا لامتحانه ... •••
أراني سأبتدئ أيامي من آخرها فإني لا أقصها عليك وهي تولد بل وهي تموت بعد أن تركتني كالقنبلة فرغ الحب من حشوها وتريد أن تنفجر، لم اكتب لك؛ إذ كان هواها ناشئا يرتع ويلعب، وإذ كان ينكسر انكسار فرخ الطائر حين يهدل جناحيه
21
لتمسحه أمه بجناحيها، ولا كتبت إذ كان هواها الجد أشد الجد، وإذ كان كالريح المرسلة لا تقف ولا تنكسر إلا إذا تدلى من السماء جدار يبلغ الأرض أو رفع من الأرض حائط يبلغ السماء، ولا حين كان الهوى يركض بي ركض المجنون الذي يجري وكأنه يجري وراء عقله الذاهب على غير طريق ولا جادة ولا علم،
22
فلا عقله يقف له ولا هو يدرك عقله، ولكني سأكتب وقد ركد الهوى؛ وقد ماسحت قلبي حتى الآن من غضبه؛ وقد اجتمع إلي رأيي الذاهب، ولا تحسبن أني سأخط لك قصة فيها اليوم والشهر والسنة، وفيها الزمان والمكان، وذلك السخف الذي يطولون ويعرضوه به إذ يستنهجون سبيل الحادثة من حيث تبتدئ إلى حيث تنحدر، فإن هذا مما يحسن في تاريخ صخرة تتدحرج، أما أنا فسأقدم إليك تاريخ لؤلؤة فريدة، هم يغطونك بقبة الليل تلمع في بعض جوانبها نور كوكب يظهر ويغيب، أما أنا أضعك في ساعة من السحر بين نسيمها وجمالها ورقتها ذيول الليل فيها، ثم ينشق لك الأبيض ذو الحواشي.
23 •••
ودعني أذكر البغض مرة أخرى قبل أن أنساه إن اللين في القوة الرائعة أقوى من القوة نفسها؛ لأنه يظهر لك موضع الرحمة فيها، والتواضع في الجمال أحسن من الجمال؛ لأنه ينفي الغرور عنه؛ وكل شيء من القوة لا مكان فيه لشيء من الرحمة فهو مما وضع الله على الناس من قوانين الهلاك.
اجمع يا عزيزي إن استطعت سربا من الوحوش الضارية وصففها لونا إلى لون، وصنفها شيئا إلى شيء فإنك سترى في «جلودها» مكتبة ضخمة من هذه القوانين ... والوباء الذي يحلق الناس حلق الشعر فيتساقطون ألوفا ألوفا بجرة من يد الموت، والزلزال الذي يرجهم في سربال الأرض رج الحصى ينفيه من هنا وهنا، والمصائب التي تبسط العقوبة على النعم في سطوة كهدير الموجة العاتية حين تصارع العاصفة، والجميلة المغرورة التي تراها في أخلاقها من طراز كدماغ السكير الفارغ مزينا بخيالات الخمر وسورتها، كل تلك من «قوانين العقوبات» في العالم الذي خلق متهمين وقضاة ولا من يحامي ...
هذه التي سأقص عليك منها فلسفة الجمال والحب، قوة من القوى لم يجعل الله القسوة فيها إلا لعلمه بها؛ وما ابتساماتها الفاتنة إلا كسجن من البلور الصافي يختنق من يحبس فيه وهو يتلألأ ... وكنت أراها أحيانا في جمالها وتأثير جمالها كأنها طاووس من طواويس الجنة على ريشة فيه لون من ألوان النار.
نصيحتي لكل من أبغض من حب أن لا يحتفل بأن صاحبته غاظته، وأن يكبر نفسه عن أن يغيظ امرأة، إنه متى أرخى هذين الطرفين سقطت هي بعيدا عن قلبه فإنها معلقة إلى قلبه في هذين الخيطين من نفسه.
ما من قفل بلا مفتاح وإلا فما هو بقفل؛ والإهمال والازدراء وسمو النفس ثلاثة مفاتيح لقفل واحد هو قفل الغيظ.
الرسالة الثانية
لقد هولت علي في كتابك حتى أخرجتني عن غيظي إلى غيظ آخر، تقول: «ويحك أراك أخرجت القمر من دراته وجئت به على أعين الناس؛ وإلا فمن تلك التي لمست الفلك الأعلى حين لمست قلبها فكأنما اجترأت على القدر فيها حلف ليتيحنك فتنة
1
تدعك وما يلوي منك شيء على شيء، ومن عساها تكون هذه التي ليس فيها إلا ما في الطاووس الميت من ريشه الجميل، وهي مع ذلك رضاك
2
في الحب وفي البغض سواء»، ثم تقول: «ولعلها رفعتك إلى الشمس والقمر والنجوم؛ لأنهم عشيرتها وأهلها ... فأنت تخاطبني في رسالتك الأولى وكأنك مرتفق
3
تحت جناح جبريل أو متكئ على بساط الريح، فتصف ما لا عهد لنا به من كلام مفوف كأنه غرف الجنة تفويفها لبنة من ذهب وأخرى من فضة، وتفويف كلامك جملة من الحب وجملة من البغض، وتنعت غراما كأنما فصل لك ثوبه من سحابة يمر فيها مقراض البرق، ففي كل ناحية منه فتق من النار»، وتسألني: كيف أجعل نفسي كالميت فلا أكتب إليك إلا يوم تحين الوصية ... ولا أخبرك إلا وقد حلت عقدة القلبين وانفسخت ألفة ما بينهما؟ •••
فيا ويحك ألا تعلم أن مرجل الباخرة حين ينقلب ماؤه لهبا أبيض فوق اللهب الأحمر؛ ينفث نفثة المارد الممدود بسلاسله في قاع الجحيم، فيرمي بسهام من الذر المحرق لو كان في جهنم رهج يثور لما كان إلا دقاق ترابها،
4
أم تراك لم تدرك من رسالتي أني أسع من بغض من أحببت فوق ما يملأني، و،ن هذا البغض وجه آخر من الحب كالجرح ظاهره له ألم وباطنه له ألم، وما يمسه من ظاهره غير ما ينكت فيه من باطنه، أم حسبت أني أزين لك صور الكلام وأزخرفها بألوان لا تلتمس إلا لرونقها وانسجامها وحسن تآلفها فمنها الأسود؛ لأنه أسود، ومنها الأحمر؛ لأنه أحمر، ومنها لون قلبها؛ لأنه لون قلبها ...؟
كلا ثم كلا فلا تنهدم علي
5
بمثل ما كتبت، واعلم أنه هو ما وصفت لك، وأن السحابة التي تراها تدمع حينا لا يبعد أن تراها قد تلففت على صاعقتها ثم اجتمعت أرحاؤها وبواسقها
6
ثم ارتجت ثم ... تنفجر.
ولم أكتب إليك من قبل؛ لأني أحب بلا غاية أباهيك بها، ولا غرض أستعينك عليه، ولا سر أستودعك إياه، وهل رأيت الحب ينكشف إلا في واحدة من هذه الثلاث، وهل انكشف قط إلا تتابعت عليه أمور وأمور، وامتلأت منه الأنفس بالظنون والغفلات؟
لقد أحببت فتاة كأنها قصيدة غزلية في ديوان شعر لا خطبة سياسية في حفلة ... فما ثم إلا معنى دقيق لطيف خلاب ساحر؛ كل قولي له: أريد أن أفهمك قوله لي تأمل تفهم.
إن ألذ المعاني في هذا الجمال ما جعل ينبو في يديك كلما ألقيتهما عليه كيلا تستمكن منه؛ ففي كل نبوة يظهر لك منه جانب وأنت معه في ارتفاع وانخفاض أبدا، ولا تزال تجري ويجري، أما أنت فتشتد جهدا في سبيله، وأما هو ففي سبيل منبعه من الجمال الأعلى الذي أفاضه موجة منه، فكأنك ذاهب إلى الجنة حيا، لا يمر بك إلا في روح، وريحان على طريق من لذة النفس لا تنتهي؛ إذ هي من حيث لا نعرف إلى حيث لا نعرف، وتغدو كأنك في تلك اللذات الروحية طفل لا يكل ما دام في عمر الحب، والحب الروحي الصحيح إنما هو كالطفولة لا تعرف وجه الفتى إلا شبيها بوجه الفتاة فليس فيه تذكير وتأنيث، بل حالة متشابهة كاخضرار الشجر تبعث عليها الحياة حين لا يجيء الحسن فيها إلا من جهة القلب، وما أرى الشجرة حين تخضر إلا قد نبتت فيها كلمة من قدرة الله ذات حروف كثيرة؛ ولا الزهرة حين تتعطر إلا قد لاح في جمالها معنى بديع من حكمة الكلمة الإلهية، ولا الإنسان حين يعشق عشقا صحيحا كما تروح الشجرة وتنفطر،
7
إلا قد صار قلبه كتابا من تلك الحكمة النقية الجميلة المعطرة.
كذلك يكون هذا الحب عند الذين خلقوا للشعر والحكمة إذا هم اتصلوا به فإنه لا يهبط إليهم من السماء إلا ليملأ أوعيتهم؛ وفي هؤلاء خاصة يكون الحب الإنساني هو السرب
8
الذي يتخذونه سبيلهم إلى غور ما
9
في الأمواج الإلهية العظمى التي لا تنتهي أعماقها؛ فيغوصون ويخرجون وفي أيديهم أفلاذ الحكمة ولآلئها؛ ومن شفتي المرأة الجميلتين يخرجون للناس كلام السموات.
أما الآخرون ... فتلك عقول كادها بارئها.
10
عقول الناموس الأصغر العامل في حرث الأرض
11 ... يضم أحدهم يديه على الجمال فيتلقفه فيجعل أصابعه أعواد القفص لهذا الطائر ويقول له: لطالما التمستك في جو السموات، وطالما كنت وكنت فهاهنا فاستقر، ولا يراه بعد قليل إلا كما اغترف غرفة من الموجة؛ كانت حركة تفور فأصبحت سكونا هامدا، وكانت ملء البحر فصارت ملء الكف، وكانت موجة فصارت ... آه فصارت بصقة ... •••
أقول لك أحببتها لا كهذا الحب الذي تراه وتسمع به في رواية تبتدئ وتنتهي في جزأين من رجل وامرأة؛ ولا كالحب الذي يؤلفه الكتاب والشعراء حين يجمعون عشرين معنى في كلمة، أو يرسلون عشرين كلمة لمعنى ... ولا كالحب الذي يباع ويشرى فتأخذ منه بالدينار أكثر مما تأخذ بالدرهم ... ولا كالذي تجيئه وأنت من الإشراق والنور كزجاجة الخمر فيعيدك وأنت من الظلمة والسواد كزجاجة الحبر ... أحببتها ولا كالحب نفسه، منذا الذي قال: «من يهلك نفسه من أجلي يجدها»؟ أظنه المسيح، وقد كانت هي تتمثل بها كثيرا؛
12
ولكن هذه الكلمة بعد كلمة الحياة الأزلية التي تقول للناس حين يشكون فيها: موتوا لتعرفوا، كلمة الجمال الأعلى الذي يقول للشمس حين تصفر: أغربي لتصبحي بيضاء حية في النهار، كلمة الحب الصحيح الذي يقول للمبتلى به: تعذب لتعرف كيف تتخيل السعادة وتتمناها، كذلك تراني لا أحب إلا لثلاث: لأعرف وأحس وأتخيل؛ ولا أهلك بالحب إلا لثلاث: لأوجد في نفسي وأبقى في نفسي وأضم نفسا إلى نفسي. •••
أفهمت أيها الصديق أم أزيدك؟ هأنا أهبط عليك من الفلك الذي تقول إني لمسته حين لمست قلبها، فاعلم أني لا أحب فيها شيئا معينا أستطيع أن أشير إليه بهذا أو هذه أو ذلك أو تلك؛ حتى ولا «بهؤلاء» كلها ... إنما أحبها؛ لأنها هي هي كما هي هي، فإن في كل عاشق معنى مجهولا لا يحده علم ولا تصفه معرفة، وهو كالمصباح المنطفئ ينتظر من يضيئه ليضيء فلا ينقصه إلا من فيه قدحة النور
13
أو شرارة النار، وفي كل امرأة جميلة واحدة من هذين، ولكن الشأن في تحرك القلب حتى يدني مصباحه لتعلق به الشعلة فيتقد وما يحركه لذلك إلا القدر، وما أحكم الناس؛ إذ يقولون في بعض حوادث الحريق أنها «وقعت قضاء وقدرا» فكل حريق القلوب لا يقع إلا هكذا ...
ومتى قدحت الجميلة على قلب رجل أضاءته فيضيئها نوره بأمان من الحسن لا يراها ولا يدركها، ولا يصدق بها إلا صاحب هذا القلب، فلو أن الشمس دامت تصب أشعتها على طلعة هذه المرأة ألف سنة تحياها جميلة شابة لا تضعف ولا ترق سنها
14
لما كشفت لأعين الناس شيئا من تلك المعاني السحرية التي يكشفها ضوء قلب عاشقها لعينيه؛ وما ضوء قلبه إلا منها فلن تكون فيه إلا ما أحبت أن تكون فيه.
بيد أن مصائب المحبين إنما تأتي من انقلاب المصباح فيستطير حريقا لا ضوءا، وترى النار تعتلج في القلب وذؤابتها تتلوى في الرأس ويصبح العاشق مرنحا،
15
بما اعتراه من الوهن والضعف كأنه في جملته وفيما لبسه من الهم والسواد ما تراه من بقية بيت محروق. •••
رأيتها مرة في مرآتها وكانت قد وقفت إليها تسوي خصلة من شعرها الأسود الفاحم المتدلي عناقيد عناقيد، ولم يكن بها ذلك كما علمت بعد؛ وإنما أرادت أن تطيل نظرها في من حيث لا أستطيع أن أقول إنها هي التي تنظر؛ فإن ذلك الذي ينظر كان خيالها ... فلما انتصبت إلى المرآة خيل إلي أني أرى ملكا من الملائكة قد تمثل في هيئتها وأقبل يمشي في سحابة قائمة من الضوء؛ أو أن يد الله في لمح النظرة قد رسمت هذا الجمال على تلك الصحيفة يتموج في ألوانه الزاهية؛ أو هي قد أرادت أن تبعث إلي بكتاب يحتويها كلها، ولا يكون في يدي منه شيء فأرتني مرآتها.
ألا فاعلم أن هذه التي في المرأة، وهذه التي أمام المرأة، وهذه التي هي في قلبي؛ ثلاثة في واحدة، لو هممت أن أضع يدي عليها فرت من يدي لتختبئ في مرآتها، وتفر من المرآة لتختبئ في قلبي، فكأنما كنت أعشق مخلوقة من مخلوقات الأحلام لا تدرك بجميع أجزائها، وإذا أدركت بقيت وهما لا تناله يد، وهي كالملائكة قادرة على التشكل إلا أنها تتشكل في الذهن فبينا تراها شخصا جميلا إذا هي فكرة جميلة تتعطف عليها حواشي النفس، وبذلك تستطيع أن تشعرني أنها في، وإن كان بيننا من الهجر بعد المشرقين؛ وأن تنزل بالسلام على قلبي وإن كانت هي نفسها الحرب؛ وأن تجعلني أحبها وإن كان بغضها يأكل من جوانحي.
تراها مع أي أحوالها كالسعادة تخيلها هو هي .
ولولا ذلك ما احتملت غضبها وإن لها لغضبا تجمح فيه فتملأ جو النفس بمثل الغبار الذي يثيره الجواد الكريم إذا انجرد للسبق وترك أعناق الخيل تتقطع عليه ولا تلحقه، فتراه يغضب ويتميز ويحاول أن يسبق جلده، وأن يخطف أرض الله كلها في حوافره، تغضب على أسلوب من هذا الطراز أو من طراز البحر الزاخر حين ينقلع في أيدي الأعاصير، أو من طراز الأرض حين تتخلع في أيدي الزلازل، وأحيانا من الطراز الرقيق حين تتجاهل في غضبها محبا هي بعض تاريخه فتدعه يشعر أن فيه مكانا مجهولا، وأن من قلبه قطعة منزوعة، ومرة من الطراز العسير حين تلوي وتعقد حتى تتركني وكأني ما أجد في الدنيا مكانا هي فيه.
وكل هذه الأساليب شروح وتفاسير؛ أما المعنى الذي تدور عليه فهو هذا: داء الحب نقدا والدواء عند السين وسوف ... عند هذه الجميلة التي هي أكذب ما في الصدق عند محبها، وأصدق ما في الكذب على محبها.
الرسالة الثالثة
حيلة مرآتها
حسناء، خالقها أتم جمالها
سألته معجزة الهوى فأنالها
لما حباها الله جل جلاله
بالحسن منفردا أجل جلالها
تضني المحب كأنما أجفانها
ألقت عليه فتورها وملالها
هيفاء قد حسب النسيم قرامها
غصنا فإن خطر التسجيل أمالها
سيالة الأعطاف أين ترنحت
تطلق لكهربة الهوى سيالها
طلبوا لها شبها ويضيء ضياءها
لهوى النواظر أو يدل دلالها
أما السما فجلت عليهم بدرها
والأرض قد عرضت لذاك غزالها
لكنها نظرت فأخجلت الظبا
وتلفتت للبدر فاستحيى لها
هم يطلبون مثالها فليرقبوا
مرآتها يجدوا هناك مثالها •••
مرآة فاتته النفوس وصفحة
تتلو بها أرواحنا آمالها
لما عجزنا أن نفصل وصفها
جمعت لنا مرآتها إجمالها
واها لمرآة البخيلة لو رثت
يوما فأهدت في الجفاء خيالها
تلألأ الضحكت في جنباتها
فتخال ضوء الشمس هز صقالها
1
من ثغرها؛ من منبع النور الذي
نبعت به ضحكاتها فأسالها
تتنقل اللحظات في أنحائها
قتالها مستتبع قتالها
جرحت بها وبهدبها وكذا الهوى
أبدا يعد من السيوف ظلالها
حورية شهدت لها جنيتها
وجمال عينيها شهادتها لها
وكأنما المرآة من أفق السما
وكأنها ملك يلوح خلالها •••
وقفت لها يوما فألقت نظرة
حيرى تشابه وعدها ومطالها
نظرت بلحظ نافذ لو أنه
لقي الإرادة نفسها لاغتالها
نظرات حواء التي أوهت بها
عزمات آدم يوم ضل ضلالها
فرأت على المرآة وجها، ظنه
ملك الجمال يحاول استقبالها
راع المليحة منه فرط جماله
أم راعها أن لا يكون جمالها؟
فرت بنظرتها إليه تطيلها
ورنا بنظرته لها فأطالها
لحظان لو رجفا عليك تراجفت
كرة الفؤاد فزلزلت زلزالها •••
نظرت لها حسنا إذا ما احتل في
دول النهى سلب النهى استقلالها
ورأت لسحر جفونها ما راعها
ورأت لفتك لحاظها ما هالها
فتذكرت شمس الجمال متيما
تركته من فرط النحول «هلالها»
ما زال يشكو «الصد» حتى بغضت
في نفسه «صاد» الحروف «ودالها»
ورأت صفا المرآة يشبه قلبه
مهما تحمله يكن حمالها
فتنهدت أسفا عليه وأنشأت
عبرات رحمتها تجول مجالها
جزعت له يعنى العناية كلها
وترية كل ثوابه إهمالها
حالان خيرهما وشرهما سوى
ومن المنافع ما يجر وبالها
جهد المقامر أن يحاول حيلة
ولكم أضرت حيلة محتالها
والعمر آمال وما جلب الشقا
إلا ابتغاء الطامعين محالها
إن الذي أعطى النفوس عقولها
جعل القناعة للنفوس عقالها •••
جرت الخواطر بالمليحة لحظة
شغلت بأحزان المتيم بالها
فبدا عليها بعض ما قد ناله
وبدا على المرآة ما قد نالها
ورأت لها وجها تغشاه الأسى
والحسن قد منع الأسى أمثالها
كادت القول «رضيت عنه» فأمسكت
ومضت على عجل لتخفي حالها
أواه لو مرآتها نجحت ... ولو
فمها تبسم عند ذاك «وقالها»
الرسالة الرابعة
ما أحلاه كلاما وأنداه على كبدي هذا الذي تقوله في كتابك: «لو كانت تلك الفتاة الساحرة شجرة يابسة قد تحاتت،
1
وكان النساء كلهن شجرا أخضر لأورقت عليك وأثمرت، فإن فيك وفيها القوة والسبب، ومن مثل هذه القوة وهذا السبب تخرج معجزات الحب»، آه لو صح ذلك، إن بعض الرجال يكون في صفاته كذبا على الرجال فهذه والله كذب على النساء، ولو جاز لقلت: إنها ولدت خطأ في هذا الجلد؛ بل ما وضعها الله فيه إلا لعلمه بها، وليجعل منها علما لمن شاء أن يدرس بروح الرجل المحب أو المبغض جمالا شاذا في روح امرأة تحتمل الحب والبغض معا، لم يكن في وفيها القوة والسبب بل القوة والقوة، وما كنا إلا كدولتين متحالفتين تمنع قوتهما أن تعتدي واحدة على واحدة، ويشق ذلك عليهما فتعبران عن لفظ القوة بلفظ أرق وأجمل وهو المحالفة؛ ثم يرق هذا اللفظ فتخرج منه الصداقة، ثم ترق هذه فيجيء منها الحب، ولا حب هناك ولا صداقة ولا محالفة، بل هي أساليب سياسية في لغة القوة حين تخشى وحين تطمع.
لقد أذكرتني بالشجرة اليابسة يوما جميلا وكلاما أجمل منه فإنا باعث به إليك، وإن كان قد بعد به العهد؛ إذ وقع أول معرفتي بها في قرية ... بلبنان، هناك زهر أصفر يلوح للعين كوجوه الدنانير يسمونه «الوزال» وهو طيب الرائحة، ولكنه خبيث النبتة لا يكون إلا في مثل الرماح من الشوك، وكان لها ولع شديد بهذا الزهر لطبع من أشواكها وأشواكه فقد نلت من كليهما ... وسنحت لها على زهرة منه فراسة زاهية مصبوغة فوثبت إليها واشتدت وراءها، وكانت الفراشة تفوتها وتستطرد لها، وتعبث بها عبثا بين أن تلوح وتختبئ، ثم رجعت «الفراشة الكبيرة» بعدما انقطعت وقد تزاحمت الأنفاس على صدرها، وجعل قلبها يغيظني بدقاته غيظا شديدا؛ إذ كان يخفق من البهر والإعياء لا من شيء آخر ... وتساقطت تحت شجرة من التين فلما أراحت وثابت إليها نفسها قالت: فراشة لا تبلغ عقدة إصبع من ثوبي وتعنيني هذا العناء كله ثم أرتد عنها خائبة؟ قلت: بل خائبة خيبة المفلس يعدو يومه وراء «الدينار الطائر» فلا يدركه، فاجتذبتها إلي كلمة «الدينار الطائر»، ومن خصائصها أنها لا تعجب بشيء إعجابها بدقة التعبير الشعري، وسأستوفي لك هذا في رسالة أخرى، إنها تريد أن تجمع إلى صفاء وجهها وإشراق خديها وخلابتها وسحرها؛ صفاء اللفظ وإشراق المعنى وحسن المعرض، وجمال العبارة، وهذا هو الحب عندها؛ تحبك كما تحب كلمة تكتبها أو معنى تتخيله، فإذا سئمتك لم تكن عندها إلا الثالثة ... إلا صحيفة تمزقها ... •••
ورفعت رأسها إلى الخيمة الخضراء ثم قالت: هذه شجرة تين، قلت: وماذا في أنها شجرة تين؟ قالت: ألا تعرف تينة الإنجيل؟ قلت: وإن في الإنجيل لتينة ليست كغيرها؟ قالت: كان من خبرها
2
أن المسيح مر في جماعته وهو جائع فرآها من بعيد فينانة خضراء تهتز كأنها تدعوه ولم يكن إبان هذه الفاكهة؛ فعدل إليها لعله يجد فيها شيئا يطعمه فلم يجد غير ورقها الذي لا يؤكل، فقال لها: خسئت لا يأكلن منك أحد ثمرا بعد اليوم، وانحدروا إلى أورشليم؛ ولما أصبحوا انقلبوا فمروا بشجرة التين فإذا هي خاوية قد نزعت ثوب نضرتها والتفت في كفن من اليبس وماتت واقفة، فرماها بطرس بعينيه وقال: انظر يا سيد إن هذه التينة التي مردت عليك فلعنتها قد ماتت وثراها حي بعد.
قلت: هذه لعمري هي المعجزة، تموت الشجرة وثراها حي، وتجري اللعنة في أعوادها فتتشرب ماءها وتتركها يبسا لا تصلح إلا للحريق، وتنقلب الشجرة الخضراء في ليلة من خشب الله إلى خشب الناس، ولكن ما ذنب الشجرة المسكينة إذا لم يكن موعد فاكهتها ويريدها المسيح على غير طبيعتها؟ قالت: فإن الذنب في إخضرارها كأنها ذات ثمر، قلت: أوليس للثمر وقت قد مضى وهل الشجرة إلا شجرة؟ أم تحسبينها تدير الشمس وتقلب الفصول لتعقد الماء ثمرا حلوا؟ ألا إن الشمس تدور ثم يحين الفصل ثم ينعقد الماء ثم يحلو التين فينضج فيؤكل، قالت: إنك لتجيء بالدواهي فماذا تقول أنت؟
أقول: اعلمي أن فيلسوفا يونانيا كان قبل المسيح،
3
وكان يرى أن تلك الشجرة ومثلها مما سفل وعلا من قدم الكون إلى ذؤابته إنما هي الإرادة البشرية بعينها إلا أنها لم تكتمل لعلة ما، فكأن العالم عند هذا الفيلسوف إنسان غير سوي ذهب طوله في عرضه فلم يعرف شيء من شيء، وكأن الإنسان هو العالم الذي نما وتم، فالشجرة إن لم تكن من الإرادة كما يقول هذا الفيلسوف فهي من الحياة، وقد التقى منها ومن المسيح إنسان حي وشيء حي؛ والتقيا على خلاف انقلبت فيه إلى حياة ذات إرادة، وإرادة ذات كبرياء، وكبرياء في رعونة يختال بها جذع خشبي غائر في الأرض على جذع روحاني باسق في السماء؛ وتتيه عشبة الطين على زهرة الفلك الأعلى، والكبرياء كانت من شرها أول ما تمرد به الشيطان على الله،
4
وأول ما لعن الله به الشيطان، وحسبها من الشر أنها ذهبت بجميع حسنات شيخ الملائكة (كان
5 ...) فهوى بعدها من لعنة الله في أعماق لا تنتهي، ولا يزال فيها طائرا إلى أسفل ... وما برحت هذه الكبرياء ثقيلة على الأرواح الصافية الكريمة ولو كانت ممن تحق له، ولو كانت من شجرة تحييها الشمس ويقوم على حفظها ناموس الكون، والمسيح لم يفر إلى ظلها من حر بل إلى ثمرها من جوع؛ فلما أتاها بجوعه تلقته بزهوها، قال لها بلسان قلبه العظيم: هأناذا، فقالت له: وهأناذه أخرى غير التي تريد، ظل جائعا وظلت خضراء تتموج لعينيه شبعا وريا ما تستحي ولا تتواضع بجفاف ورقة منها تسقط عذرا عند قدميه، كانت في غير حالته القائمة بروحه، وكان في غير حالتها القائمة بروحها؛ فكل ذنبها في روحه هو وفي حالته هو وفي حسه هو؛ فاشمأز منها فيبست ولعنها فماتت ورآها ظلاما فأطفأ سنتها إلى الأبد، هكذا يفعل الروح الأقوى بالروح الأضعف حين يختلفان، والمتكبر دائما هو الأضعف وإن ظهر أنه الأقوى؛ فلو صدمته روح عاتية بما فيها من بغضه وازدرائه لوقعت منه موقع أظلاف الفيل من النملة الضعيفة؛ فإن فوق كبرياء المخلوق ناموسا ثابتا من كبرياء الخالق ما لجأ إليه مكسور القلب بكاسر قلبه إلا وضعه والله ثمت موضع حبة القمح تحت حجر الطاحون الضخم لا يبقي ولا يذر. •••
وكنت اتكلم وكأني مرتفق تحت جناح جبريل كما قلت وإن الكلام لينفذ إلى دمها مع أنفاسها؛ فما أتيت على آخره حتى رأيتها قد اصفرت وارتاعت وقالت: ويلي منك فهل أنت مسيح جديد؟ إني لأسمع ألفاظك هذه وكأني أسمعها من يوم بعيد لم يأت بعد ولكنه آت؛ لأنه يتكلم ويقول بكلامه أنا موجود وإن كنت بعيدا عنك، فأردت أن أخفف عنها فرفعت طرفي إلى خيمتنا وقلت: اسمعي يا شجرة التين ... فانفجرت ضاحكة وقالت كم قلت لي أنت دويهية، وزعمت أن هذا يسمونه تصغير التعظيم فأنت دويهتان، فضحكت وقلت: أولست معي ...
لقد حل ذلك اليوم الذي سمعته يتكلم في الغيب، وآه من تلك الدويهية ومن كبريائها وفلسفتها، آه من فتاة تقول لك فيما تقول: إن أمي ولدت نفسي ونفسي هي ولدتني؛ فلا ترج أن تصيب في طباع أنثى وإلا ضل ضلالك أيها الحبيب ... قلت فماذا بقي من معنى أيها الحبيب إذن؟
فضحكت من عبوسها - وهي حين تتفلسف تظللها سحب من الفكر فتراها قد غامت فيها، ولا يبقى لك أمل إلا في وميض من ابتسامتها يتمزق ثم يسرع فيلتئم - أتدري ماذا كان جوابها؟ قالت: خلقنا لهذا الحب من قبل يومنا؛ ولعل يومنا إذا جاء كان يوم بغض منك أو مني، قلت: فمعنى «أيها الحبيب» في فلسفتك أيها البغيض ...؟
قالت: كلا كلا لا أدري، ولكني أتكلم بلغة النطق؛ وفي ناموس الفهم الإنساني لغة غيرها وفي ناموس الأقدار لغة غير اللغتين، فإنك لتراني ولكني أرى في أخرى، والأخرى ترى فيها ثالثة، هذا أشعر به ولا أدري كيف أصفه فإن عبرت عنه بلغة النطق انقلب كلامي عن جهته فصار من كلام الموسوسين والممرورين والمجانين، أنا أحسن الكلام مع السماء وأنت تحسن الفهم عن السماء، فحاجتي إليك هي أن تتكلم في روحي وحاجتك إلي هي أن أتكلم في قلبك.
أتستطيع أن تلبسني جلدك وتخيطه علي و... فقلت مهلا مهلا أنك أنت الآن لا تتكلمين ولا التي فيك بل تلك الثالثة ... وإذا كان استهلال كلامها سلخ جلدي ... وهنا وضعت يدها على فمها وجعل يغت ضحكها ويتكسر على صلابة قلبها تكسر قطع البلور الثمين في غير نظام ولا مهل.
ولما سكنت مما غشيها قالت: أنت برهمي؟ قلت: وهذه شر من الأولى فهل خطر لك أني أعبد بقرة؟ قالت: وهذه شر من الاثنتين فقد انتقمت مني بلطف ... ولكن ألا تعرف أن الحب في رأي أكثر الناس كزواج البراهمة، إذا اقترن الرجل منهم بامرأة فقد أعدها للحرق إن بقيت بعده وللموت إن بقي بعدها؟ قلت: أعرف هذا في عقد البراهمة وحسب فلا تنز بك الفلسفة نزوتها فلسنا في النار ولا في دخانها، قالت: وما تقول في نار تعرفها؟ ولفظت هذه العبارة بصوت خرج يرتجف كأنه جاذب قلبها وفر إلي فرارا؛ وأنزلت في مقطعها نبرة استفهام حلو رقيق يمازجه شيء من التوبيخ في منتهى الظرف.
فأطرقت شيئا وقلت: اسمعي؛ ما أنت محاطة بست جهات بل بست علامات استفهام؛ وإن فلسفتك هذه جعلتك ما لا أدري ألغزا في إنسانة أم إنسانة في لغز؛ وعلى أيهما فإن العمر يذهب في فهمك وأحتاج بعد إلى عمر جديد في حبك، ولن تبعثني فلسفتك من قبري يوما إذا سويت بجسدي الحفرة، لقد وضعك حسنك في طريقي موضع البدر يرى ويحب ولا تناله يد ولا تعلق بنوره ظلمة نفس، لكن كبرياءك نصبتك نصبة الجبل الشامخ كأنه ما خلق ذلك الخلق المنتثر الوعر إلا لتدق به قلوب المصعدين فيه، وتهتز أجراسها اهتزازا عنيفا متصلا في حبال الأنفاس والزفرات، كوني من شئت أو ما شئت؛ خلقا مما يكبر في صدرك أو مما يكبر في صدري، كوني ثلاثا من النساء كما قلت أو ثلاثة من الملائكة، ولكن لا تكوني ثلاثة آلام، انفحي نفح العطر الذي يلمس بالروح واظهري مظهر الضوء الذي يلمس بالعين، ولكن دعيني في جوك وفي نورك، اصعدي إلى سمائك العالية ولكن ألبسيني قبل ذلك جناحين، كوني ما أرادت نفسك ولكن أشعري نفسك هذه أني إنسان. •••
أي حب هذا؟ لقد امتحنت منها بفتاة أبحث عنها في النساء فلا أجدها، وأبحث عنها في نفسها فلا أجدها؛ وكل تاريخ هواها كالرحلة في أغفال الأرض ومجاهلها؛
6
يأخذ الرحالة رجليه بالمشي على قبر في عرض الصحراء، ويكون له من الحذر في كل بادرة عقل؛ ولا يزال يلفظه مجهل إلى مجهل، ولا يزال يتتابع في تلك الأرض التي تغول سالكيها
7
حتى يقطع إلى معروفها منكراتها جميعا ...
الرسالة الخامسة
أيام لبنان
فجر الهوى من ثغرها البسام
متطاير اللمحات فوق ظلامي
رفت علي ظلاله وتنفست
بندى الشباب على فؤادي الظامي
ذهبت هموم حرت في أسمائها
وأتت هموم ما لهن أسامي
في حبها والحب في بأسائه
أهنا لأهليه من الإنعام
حسناء صورها الهوى في صورة
كادت تعيد عبادة الأصنام
في منظر الأقمار ألمح وجهها
وتحس في لمس النسيم غرامي
ولكهرباء الحب من لحظاتها
سيالها المتدافع المترامي
ينساب في مجرى دمي متلهبا
فكأنه تيار بحر ضرام
يا كهرباء الحب رفقا إنما
هذي «الأنابيب» الضعاف عظامي •••
ذهب المنام ومن يذكره الهوى
قمرا فلا يلقى الدجي بمنام
يا ليل أنت صحيفة ملء الفضا
ء وما بها سطر من الأحلام
في كل نجم من نجومك بسمة
وقفت تشير إلى الهوى بسلام
وكأن أفقك والنجوم سطوره
تاريخ ما أسلفت من أيامي
متألق الجنبات مشبوب الضيا
خضل الندى صافي الشمائل سامي
يا ليل أين الفجر أين زمامه
أيام يمسكه الهوى بزمام
أيام «لبنان» وكانت ساعة
غفرت ذنوب الدهر في أعوام
غفل الزمان هناك من غفلاته
ففررت للذات من آلامي
وقطعت من ثوب الشباب عصابة
وربطت من جرح الحياة الدامي
ومضيت أصعد ذروة في ذروة
كالنجم مشتملا علي غمامي
في كل منزلة وكل ثنية
يضع الهوى قمرا يضيء أمامي
وعلوت حتى عن أماني الحيا
ة وغبت حتى غبت عن أوهامي
وسموت في أفق يذوب نسيمه
شغفا إذا ما اهتز غصن قوام
أفق يطل على الحياة وهمها
إطلال مغفرة على الآثام
لبنان فن في الطبيعة قائمة
دقت محاسنه على الأفهام
متكبر حتى على إكبارها
متعظم حتى على الإعظام
قمم تغطى بالسماء كأنها
في الكون أمثلة على الإبهاء
شم فوارع علمت أبناءها
عند الحوادث كيف رفع الهام
ومدارج تنبيك منحدراتها
أن الحياة مذاهب ومرامي
تركت بنيها أينما حكمت بهم
نفذوا على الأسباب كالأحكام
وترى هنالك كل شيء ناطقا
أن لا يعيش هنا سوى المقدام
جبل تمنع في الطبيعة عزة
ومهابة كالناب في الضرغام
يتقلب التاريخ من أبنائه
في الغر بين فوارس وكرام
فالنور لم يبرح على أرجائه
من مبسم أو من فرند حسام
جبل إذا وصفوا الرواسي لم يكن
أبدا لصدر الأرض غير وسام •••
يا نفحة الجنات من تلك الربي
كم ذا يطول تلهفي وهيامي
يبني وبينك بحر دمع يرتمي
من عين مهجور وبر خصام
لهفي على ريح الشآم ونظرة
من أرضها لهوى هنالك نامي
أرض بنوها الصيد كيف تواثبوا
عنت الحياة لهم بكل مرام
حملوا النبوة وهي روح بلادهم
ومضوا بوحي العزم والإقدام
فهم بأي الأرض حل نزيلهم
قوم قضت لهم السما بمقام
أرض كساها الوحي جوا عاطرا
وبنى لها أفقا من الأنغام
الله زينها بكل بديعة
باحت بأسرار من الإلهام
فهنا يريك الحسن صفحة شاعر
وهنا يريك صحيفة الرسام
والحسن مختلف المواطن في الوارى
لكنما حسن الطبيعة «شامي»
الرسالة السادسة
تقول أيها العزيز: «فصفها لي على حقها
1
وصفها على هواك بما يزخرف الهوى من كذبه، وانقلها إلي من مرآتها نقلا، ووافني عنها برسالة كليلة من ليالي القمر في الصيف تتنفس كل ساعة منها برائحة الفجر»، آه ما كان لي ولهذا البلاء الجميل ... فإن عهدي بهذه النفس أنها مصممة حكيمة إذا فزعت تفزع إلى ضرس حديد، وإذا همت أمضت عزيمتها فما يند منها شيء إلا ضبطته
2
وأحكمته؛ وأن عهدي بهذا العقل أنه نافذ دهي ذو حرب وسلم في أساليب الحكمة والسياسة، ولكن الإنسان يبتلى ثم يبتلى ليعرف أن كل ما فيه إن هو إلا وديعة الغيب فيه؛ فما شاء الله نفع وإن كان سببا من الضر، وما شاء الله ضر وإن لم يكن إلا نفعا؛ والأسباب كالعمر لا يملك الإنسان استمراره لحظة واحدة وقد يستمر على ذلك ما يستمر.
إن وصفها لهم جديد وإنها الآن في نفسي غير من كانت، فالكتابة عنها ضرب من العنت كالترجمة من لغة إلى لغة فلولا كان ذلك والهوى متفق؟ ولكن يا شمس السماء مجي من ريقك على هذا القلم حتى ينسج وشيه وزخرفه، واجمعي في هذه الصحيفة نور الابتسام وماء الدمع ، وأخرجي منهما ما يخرج النبات من الضوء والماء زهرا وثمرا وورقا أخضر ... وحطبا يابسا بعد ... •••
أما إنها فتنة خلقت امرأة فإذا نظرت إليك نظرتها الفاترة فإنما تقول لقلبك إذا لم تأت إلي فأنا آتية إليك؛ خلقت مقدرة تقديرا كأن كل شيء فيها وضع قبل خلقه في ميزان الجمال ووزن هناك بأهواء القلوب ومحابها، وكأنها بعد أن تم تكوينها أرسلت الملائكة في دمها نقطة عطر فهي تنفح على القلوب برائحة الجنة، وهي أبدا تشعر أن في دمها شيئا لا يوصف ولا يسمى، ولكنه يجذب ويفتن فلا نراها إلا على حالة من هذين حتى ليظنها كل من حادثها أنها تحبه وما بها إلا أنها تفتنه.
رشيقة جذابة تأخذك أخذ السحر؛ لأن عطر قلبها ينفذ إلى قلبك من الهواء؛ فإذا تنفست أمامها فقد عشقتها.
وتراها ساكنة وادعة أمام عينيك، ولكن قلبك يشعر أنها تهتز فيه وتضطرب فلا يزال قلقا نافرا يتململ.
أما أنوثتها فأسلوب في الجمال على حدة؛ فإذا لقيتها لا تلبث أن ترى عينيك تبحثان في عينيها عن سر هذا الأسلوب البديع فلا تعثر فيهما بالسر ولكن بالحب، وإذا كنت ذكيا فأضافت إلى ما فيها من بواعث الهوى إعجابها بك فقد أحكمت لك العقدة التي لا حل لها.
ومهما تكن من رجل باذخ فإنك بإزائها ترى كيف ينقاد جزء من الطبيعة لجزء من الطبيعة فلا براءة لك ولا مخرج من حبها؛ ومهما تكن من جبل شامخ فإنك تتهافت تحت أشعة عينيها كما تتدحرج جبال الثلج في القطب إذا زاحها عما حولها شعاع رقيق من أشعة الشمس تتنهد فيه نسمة ضعيفة.
وهي في لونها ذات بياض أسمر محمر وضيء يغترق العين حسنا، وكأن ائتلاف الألوان الثلاثة فيها جملة مركبة من لغة النور والهواء والحرارة، معناها الجمال القوي الصحيح، هيفاء ملتفة لم يهبط جسمها ولم يرب
3
تملأ قلبك كما تملأ ثوبها، وتتمايل أعطافها فلو خلق غصن البان امرأة لمشى يتهادى في مثل مشيتها، وتنظر نظرة الغزال المذعور ألهم أنه جميل ظريف فلا يزال مستوفزا يتوجس
4
في كل حركة صائدا يطلبه ... وتنفجر لعينيك في حركاتها وكلماتها كما يتفجر أمام الظمآن ينبوع الماء العذب، وما رأيتها مرة إلا أحسست نفسي تصورها تصويرا كأن الشمس والقمر قد صنعاها في الحسن صنعة جديدة، وتنتحل هذه الظبية أحيانا كبرياء الأسد فيكون ذلك منها في باب الدلال مخاشنة بين طبعي وطبعها تبث بها في الحب قوة تبلغ قوة الافتراس في أسد جريح.
تريد الهوى وتعرفه وتنفخ في ناره وتذكي ضرامها بما لا يخمد ولا ينطفئ، ولكن ... ولكن لترى من كل ذلك كيف أحترق.
تلك هي أيها العزيز؛ من أي الجهات اعتبرتها لا ترى أوصافها تنتهي إلا كما تنتهي أطراف الواحة الخضراء في رمال كالأقيانوس الجاف تقحمك المتالف،
5
وتبث لك مصايد الموت في كل جهة، ولا يخرجك منها إلا أن يكون عمرك أوسع منها؛ ومع ذلك فلا تخرج إلا حيا نصفه موت أو ميتا نصفه حياة، إن عاشقها المسكين في كل ما يناله من حبها ليمشي إلى الجدب بخطوات خضر تعد عليه واحدة واحدة؛ فههنا نبع يروي وهناك روضة تتنفس، وثم سرحة تفيء بظلها؛ وما شئت من متاع أحسن ما تنظر، ومن روح أجمل ما تبتغي، ومن نعمة أبدع ما تتحفى بك النعمة؛ ثم تنتهي من الواحة؛ لأنك كنت تندفع ولا تحس ويسار بك ولا تدري؛ وتنتهي بعد الفضاء الجميل الأخضر إلى ذلك الفضاء المخيف الأبيض بياض عظام الموتى ... فضاء الصحراء المهلكة التي تقول لك أول ما تتلقاك: ليس من يحس بك ههنا فحيث شئت فمت ...
كانت والله قدرا مقدورا لو علمت كيف تنتهي لاتقيت كيف بدأت، ولكني جئتها وأنا أقدر أن أراها كما هي وأدعها كما هي، فإذا القدر مخبوء فيها، وإذا هو قد طلع علي في ألحاظها، وإذا أنا أراها فلا أدعها، وكان طريقي إليها بين رؤيتها وتركها، أبدأ وأعود؛ فلما تخطيت أولها لم أر لها آخرا، ولما بدأت عدلت بي إلى الناحية التي كنت أجهلها فلم أدر كيف أعود. •••
وهي شاعرة تغمر أفقا واسعا بأشعة خيالها، ولو أن نجمة سألت الله أن يخلقها امرأة فتنزل على الشعراء بوحي السماء وخيال السماء وأسرار السماء لكانتها، غير أنها لا تحسن عربية الكتابة الفصحى فإذا كتبت وقليلا ما تكتب
6
اختبطت في مثل البحر اللجي ففرت إلى الساحل ورقصت هناك على رشاش الموج، وهي تألم لذلك النقص فيها وما أظرف ما تراه في سببه؛ إذ تقول: إن المصري والسوري ومن يشبههما قد بلغوا من ضعف القومية التاريخية بحيث يريد أكثرهم الكمال لشخصه لا لتاريخه، ولنفسه لا لأمته؛ فينسل أحدهم من تاريخه ويغامر في آداب أمة حية كالفرنسية والإنجليزية، ويستفرغ فيها كل همه فيدرك في خمس سنوات ما لا يأتيه به التاريخ المصري أو السوري في خمسين سنة لو بقي في أمته وادعا يترقب نضج تاريخها، والشرقي إذا خرج من الشرق أحس أنه ترك وراءه بلاد القبور والمدافن والجثث المحنطة، واستقبل بلادا أصبحت الطبيعة فيها أسرع من أهلها في العمل للحياة والأحياء فهم يخدمون نواميس الكون لتخدمهم على الأرض لا في السماء، وكانت إذا انتهت إلى مثل هذا قلت لها: إنك لتتكلفين أن تجعلي للانهاية حدودا أربعة ... بل أربعة ذات قياس ومساحة وإلا فابتلي أوروبا بمثل ما بلي الشرق منها أربعين سنة في جد السياسة وهزلها فإنك والله لا ترين منهم يومئذ إلا الزنوج البيض ... وكانت تقول ما أعجزني في أجناس الكتب إلا كتب اللغة العربية؛ لقد أحضرت شيخا يدارسني كتابا منها فكانا كتابين ... الذي أراه هو الذي أسمعه والذي أسمعه هو الذي أراه، ثم تغرق في الضحك وتقول في كلام ظريف كأنه يضحك ضحكا آخر: فأنا والله في حاجة لإتقان هذه اللغة إلى عمامة وعشرين سنة في الأزهر ... •••
قلت لك: إنها شاعرة تملأ سماء من السموات فتكاد لا ترى فيها من جهات الأرض شيئا
7
كأنما تركت المادة الإنسانية في أبويها وخرجت من ذلك الحطب والورق ... مخرج الزهرة الناعمة، بنية من اللون وجسما من العطر ونسيجا متماسكا من الشعاع، خرجت عاطفة مولودة تكبر وتنمو لتبلغ في العواطف سن شباب القلب؛ لا يتصل بروحها شيء إلا نبت واخضر ثم نور وأزهر
8
كأن طبيعة الجمال خبأت في قلبها سر الربيع، وهي الصافية كرقة النسيم والناعمة كملمس الماء والضاحية كطلعة الشمس؛ فإن غضبت بدلت النسيم قيظا والماء ظمأ والشمس الطالعة غيما يلف نهار الحب في ملاءة ليل أسود.
ولا يستخرج عجبها شيء كما يعجبها الكلام المفتن المشرق المضيء بروح الشعر فهو حلاها وجواهرها، وما لسوق حبها من دنانير غير المعاني الذهبية فإنها لا تبايعك صفقة يد بيد، ولكن خفقة قلب على قلب.
وما عسى أن أقول في فلسفتها واهتدائها إلى موضع السر من الأشياء ونزولها وراء الحجة إلى الأعماق البعيدة التي تغوص الحجة فيها واستبانة المشكل باللمح، وتقليب المعاني في أصابعها كأنها ملقنة ما تحاوله؛ وأخذها في سبيل البرهان حين تجادل مأخذا لا يقام له، وإظهار خيالها البديع في معان لامعة كأنما تتدلى عليها الشمس، فلو كنا نقول بالرجعة
9
لقلت: إن (أرسطو) قد رجع بفكره الجبار إلى هذه الدنيا ليمارس حياة الأنوثة ويتم امرأة كما تم من قبل رجلا فينتظم كمال الجنسين في نفسه.
على أن فلسفتها هذه قد جعلت من بعض قواها ذلك الجمود الذي تستعين به على الحب «جمود إحساس الكتب ...» حتى ملأت نفسي بمثل البحر ملحا ومرارة.
الجمال هبة الله فليس لامرأة فيه عمل، ولكن العجيب أن أكثر ما يكون من عمل المرأة إنما يكون في إفساد هذه الموهبة كأن الجمال غريب حتى عن صاحبته، تفسدها بالجهل إذا كانت جاهلة، وتفسدها بالعلم إذا كانت عالمة، وتفسدها بلا شيء إن كانت هي لا شيء ... •••
على أنها كانت تزعم أنها تبغض الفلسفة وأهلها وتقول: ينبغي أن تتحول الفلسفة إلى شعر كالتراب نعالجه ليستوي مخضرا فإذا هو لم ينبت فاردم به المستنقعات واملأ منه الحفر وافتح فيه القبور، والفلسفة وإن كانت من ضرورات الحياة والأحياء ولكنها عند بعض الناس أعجب شيء، وعند آخرين شيء عجيب، وعند الشعراء لا شيء عجيب ... أعرف العلم والمنطق ولكن الطباع غير العقول فمن كان في سن العقل استطاع أن يحمل في فلك رأسه السموات السبع والأرض ومن فيهن وذلك هو الفيلسوف في سمته وهيبته ووقاره كأن فيه مكتبة كبيرة أو كأن فيه ثقلا خاصا ...؛ ومن كان في سن الطبع فلا يعرف إلا ما يميل إليه طبعه، فإن يكن هناك منطق وعلم فهما في كيفية إيجاد الميل في نفسه، ثم في استخراج اللذاذة الروحية لنفسه من هذا الميل، ثم في تهيئة الاستمتاع من هذه الروحانية بكل ما فيها لكل ما فيه.
هذا هو رأيها ولكن لا تنس أنه رأيها الفلسفي ... وأنه لن يكون لها رأيا إلا إذا كان لها بديا
10
فلسفة قد جعلت من طباعها «جمود إحساس الكتب»؛ وههنا المصيبة فإنها إن عمدت إلى غيظك اختبأت نفسها في كتبها وأوراقها، ورأت هذه الكتب والأوراق دنيا غير الدنيا لها أشخاص غير الأشخاص، أما بين الكتب والأوراق فهي تحمل في رأسها السموات السبع والأرض فكيف تشعر بك إذا أنت وحدك وقعت من السموات السبع والأرض ...؟
ولكن هل أنت إلا أنت وحدك؟
الرسالة السابعة
نالت مني رسالتك يا عزيزي وما كنت ظالما ولقد ظلمت، جاءتني سطورك جملا جملا فانصبت على قلبي انصبابا فغشيته من حروفها بموج أسود كالظلم، لك الله أن تحسبني هالكا وتقول: إن روحي محمومة بتلك الفتاة، وإني في حاجة منك إلى علاج مر؛ إلى بضع نصائح من الكينا ...
فأما إني محموم بها فلا وما أبعدت؛ ولكن هي كانت أشبه بالهذيان في الحب، وإن الدهر ليحم مرارا عدة متى ركبته الأقدار الملتهبة؛ فإذا هو حم جاء من هذيانه نابغة يهذي في رجل أو امرأة، وكان من علامة نبوغ تلك الفتاة أن فيها من برد الدنيا وسخونتها ... فيها والله برد شديد ويكفي أنه برد الفلسفة ...
قالوا: جلت الحقيقة أن تكون البشرية محلا لتلقيها؛ وأقول: جلت مرة أخرى أن تكون المرأة هي هذا المحل؛ فما للمرأة الجميلة والفلسفة؟ أللهم لا تبتل بها من النساء إلا كل ذات وجه غضن
1
لا يضره ولا يضر أحدا أن تزيد فيه كربه أو عقدة أو مسألة حسابية ...
ولكن ما أجمل الحقيقة ترسل أشعتها وألوانها في قلب الجميلة فتمتهد لها فيه أرضا من الشعاع، ثم تهبط من السماء الكبرى إلى هذه السماء الصغرى جمالا في جمال وحقيقة على حقيقة وشعرا على شعر، ومعنى يوحى به إلى من هي تفسير له، تلك حقيقة الجمال الذي لا يفهم إلا بمثال عليه من امرأة؛ وإن من النساء تفسيرا بديعا لهذه الحقيقة، ومنهن تفسير ناقص، وبعضهن مغالطة في التفسير، وبعضهن مسخ، وبعضهن كالتضريب والشطب لا يفسر شيئا ولا يصحح شيئا، ولكن يمحو ويطمس ... •••
سآتيك بها الآن من جهة الشعر وقد وصلت جناحها بجناحي بعد مقدمها إلى مصر بأيام وخرجنا متنديين
2
ذات صباح في طريق تبعثرت فيه الشمس على الندى وعلينا، كانت هي صبحا في ذلك الصبح، وقد وافت كعادتها متكسرة وللفتور مس فيها؛ فتورها النسائي
3
البديع الذي ينبئك في لطف أي لطف أن عواطفها تبعدك عنها، ولكن بشرط أن لا تبتعد؛ فتور في الجسم تظهره الأنوثة التي نراها لنطلع منه على سر الأنوثة التي لا نراها، وفتور في اللحظات تدل به على أن في قلبها منك شيئا تحب أن لا يظهر لك وتحب كذلك أن لا يخفى عليك ...
ومشينا بين الجمال المنظور وبين الجمال المعقول وهي تجمعهما في شخصها ومعانيها، على حين أن الطبيعة لا تكاد ترضيك من هذه الجهة إلا إذا عرضت لك ألف شيء جميل، ثم فئنا إلى روضة على شاطئ النيل يسافر النظر في أرجائها وتتموج للعين كأنها بحر أخضر تهتز عليه هنا وهناك أمواج ملونة من الزهر.
وقلت فلأكن آدم هذه الجنة اليوم، قالت: ثم تخرج منها كما خرج ... قلت: فإن الخروج لا يأزف إلا عند غروب الشمس «كقانون المجلس البلدي» ... فضحكت وحضرتها النفس الثالثة
4
ثم مدت عينيها الذابلتين في شواطئ ذلك البحر الأخضر وقالت: ألا تظن يا آدم الصغير أن إدراك الجمال الطبيعي في الأرض هو بقية فينا من نفسية آدم الكبير لدن كان في السماء وقد ورثناها عنه، قلت: لا أظن ظنا بل أنا مستيقن فإننا طردنا من الجنة ولكنا استرقنا منها قدر ما وسع خيالنا؛ فإدراك الجمال في أي أشكاله وبأي طرقه إنما هو متاع الروح الإنسانية على طريقها الأولى في عهدها الأول، إن هذا الجمال لم يخلق إلا للحس والتخيل فهو كلام بين السماء وباطن الإنسان، قالت: فأنت الساعة تكلمك السماء؟ قلت وتقول لي ... قالت: يا وحي ماذا تقول لك السماء؟ قلت: فإنها تقول ما لك منصرفا عني بملك من ملائكتي ونسيت حتى الشمس فلم تنظر إليها، قالت: وجوابك؟ قلت: جوابي هو أن بعض الأسرار الإلهية يبحث في العلم عنها، وبعضها يكون من الجلال والإشراق والسمو بحيث يبحث فيها هي عن العلم؛ فالسر الكامن في هاتين العينين وفي هذا التكوين وفي هذه الطلعة هو الذي أبحث فيه عن علم قلبي، قالت: أنت شاعر يعد قلبك شيئا عجيبا، وكثيرا ما أحاول الابتعاد عن ألفاظك، قلت: ولمه؟ أيكون فيها أحيانا صوت شفة يمسك؟ فسكتت وجعلت تنكت الأرض، ومضيت أقول: إن الجمل يستروح الماء
5
مسيرة ميل، وإن بعض الحيوان يحمل إليه الهواء رائحة ما يخشاه أو يحبه فكيف لا تحمل إلي ألفاظك عطر خديك وشفتيك فتستحيل ألفاظي كلها قبلات؟ إن السائل المسكين حين يدعو لمن يحسن إليه يقبل يده بألفاظ الدعاء؛ لأن كلماته لا ترتفع إلى السماء إلا بعد أن تمس هذه اليد الكريمة المحسنة من كل لفظة دعاء بقبلة شكر؛ والمحب حين ينظر في وجه من يهوى نظرات كالألفاظ وحين يتكلم بألفاظ كالنظرات ... وهنا لمست كتفي وانتهضت وقد أشارت إلى زهرة حمراء كوجه المستحيي ثم مشت إليها فاقتطفتها ورجعت؛ فعملت أن الكلام كان سقطة منى فتداركته وأردت أن أقلبه عن جهته، ولكنها تنهدت ثم قالت: ما أحببتك شخصا بل شعرا ولا إنسانا بل فكرا، ولولا أسباب القدر التي باعدت ذات بيننا ... وأخذ كلامها يرق ثم يرق حتى خرج من معانيه كلام لا يتلقى إلا بالشفاه، وخيل إلي أن نسيم الروضة يرتمي عليها ليتخطف تنهدها فجعلت أتخطف هذا النسيم وكأني لا أتنفسه، بل أشربه شربا. •••
في تلك الساعة ذكرت هي الشعر وقالت: إنه يخرجنا الآن من حدود العمر الأرضي؛ فإن في هذا العمر ساعات لا تحسب منه إما لأنها أبدع وأجمل فلا يلائمها، وإما لأنها أقبح وأسخف فلا تلائمه؛ أفتراها أقبح وأسخف ...؟ قلت: يا شاعرتي العزيزة إن اللغة أيضا تخرج من حدود الأرض أحيانا فهي في مثل هذه الساعة في مثل هذه الروضة في مثل هذه الجميلة لا تؤدي إلا معنى الجمال والحب، أما الأقبح والأسخف فلا يدخلان هنا إلا بعد أن نخرج نحن ويدخل غيرنا ...
قالت: يا لك من «عقل جميل» كما يسمي الفرنسيون ظرفاءهم، ثم تناولت من المثبنة
6
في يدها أنبوب قلمها الرصاصي المصنوع من الذهب وأخرجت دفترا صغيرا، وغمست سن القلم في ثناياها وفكرت لحظة ثم غمسته ثانية، ثم كتبت في طرة الصفحة هذه الكلمة «الشعر»، ونظرت إلي باسمة وقالت: خذ هذا القلم واكتب كلمة صغيرة في الشعر؛ لأنقلها إلى الفرنسية في مقالة لي ...
آه لو أن الكهرباء اجتذبت القلم من يدها ما كانت أسرع مني في اختطافه، وجعلت أغمسه في شفتي مرة بعد مرة بعد مرة ولا اكتب شيئا، وهي تضحك وتقول: ما لك لا تكتب؟ فأقول: هكذا اعتدت في المدرسة وكنت بليدا ...
ثم كتبت ولكن بعد أن خالط فمي طعم الرصاص من كثرة ما غمست القلم ... وكتبت وأنا أشعر بأنفاسها وعطرها ومعاني لحظها يتحولن في نفسي إلى كلمات:
ما هي العاطفة المهتاجة في نفس الإنسان اهتياجا لا يريه الحياة أبدا إلا أكبر أو أصغر مما هي؟
ما هو المعنى الساحر الذي يأتي من القلب والفكر معا، ثم لا يأتي إلا ليحدث شيئا من الخلق في هذه الطبيعة؟
ما هو ذلك الأثر الإلهي الكامن في بعض النفوس مستكنا يتوثب بها، ويحاول دائما أن يعلو إلى السماء؛ لأنه غريب في الأرض؟
وما هو الشعر؟
هذه الأسئلة الأربعة يختلف بعضها عن بعض وينزع كل منها إلى منزع، ولا جواب عليها بالتعيين والتحديد في عالم الحس؛ لأن مردها إلى النفس والنفس تعرف ولا تنطق؛ وشعورها إدراك مخبوء فيها وهي نفسها مخبوءة عنا، ولكن العجيب أن كل سؤال من هذه الأربعة هو جواب للثلاثة الباقيات؛ فالعاطفة هي ذلك المعنى وهي ذلك الأثر وهي الشعر، والشعر هو العاطفة بعينها، وهو الأثر وهو المعنى؛ وهلم جرا. •••
سبحانك يا من لا يقال لغيره سبحانك، خلقت الإنسان سؤالا عن نفسه وخلقت نفسه سؤالا عنه وخلقت الاثنين سؤالا عنك، وما دام هذا الإنسان لا يحيط به إلا المجهول فلا يحيط به من كل جهة إلا سؤال من الأسئلة؛ ولا عجب إذن أن يكون له من بعض المسائل جواب عن بعضها.
هذه هي الطريقة الإلهية في دقائق الأمور، تجيب الإنسان الضعيف عن سؤال بسؤال آخر.
ولقد أكثروا في تعريف الشعر وجاءوا فيه بكل ألوان القول، ولكن كثرة الأجوبة جعلته كأنه لا جواب عليه، بالغوا في تقريبه إلى الروح فأجروا في حده كل عناصر الجمال والفضيلة ودلوا بالخيال على حقيقته؛ إذ رأوا أنه لا يدل على حقيقته إلا الروح وحدها وهي غامضة فهو غامض وتفسيره في مئة تفسير.
الشعر وراء النفس والنفس وراء الطبيعة والطبيعة من ورائها الغيب؛ فلو جمع ما قيل في الشعر لرأيته يصلح في أكثر معانيه أن يقال في النفس، ثم لرأيته مفهوما من جهتنا وغير مفهوم من جهته، وما الشعر إلا أول المعاني المبهمة والدرجة الأولى من سلم السماء الذاهبة إلى عرش الله؛ وهو كذلك أول ما في الإنسان من الإنسانية.
في هذا الكون مادة عامة يسبح الكون فيها وتنبعث من قوة الله وإرادته وهي دائمة التركيب والتحليل إيجادا وفناء، وما أرى الشعر إلا تأثير هذه المادة في بعض النفوس العالية الكبيرة التي تصلح أن يسبح خيال الكون فيها.
بهذه المادة تمتزج نفس الشاعر بكل ما تراه؛ ومن هذا الامتزاج يتكون الشعر، فإذا أردت أن تتحقق ذلك فانظر إلى نفس الشاعر العظيم تمتزج بالجمال الرائع في نفس الجميلة، وبالحب في نفس الحبيبة، وبالطبيعة في المعنى الطبيعي؛ وانظر إليها حين تتصل بأسباب اللذات والآلام، حين تثيرها اللحظة والابتسامة، ويهيجها الصد والإعراض، ويحزنها المحزن ويسرها السار؛ حين تخترق بالفكر حجاب هذه الإنسانية وتثب بالعاطفة فوق الطباق العليا، وتستمد من الشعلة الأزلية لونا من ذلك الضرام الذي اشتعل في أصل الخلقة كل كوكب يتلهب. •••
ما أشقى نفس الشاعر؛ فإنها لسموها تجهل ما هي من هذا العالم فلا تزال تمتزج في أرضنا بكل ما يحزنها ويسرها لتعرف ما هي؛ ولن يكون الشعر العالي أبدا إلا التقاء بين نفس سامية وحقيقة سامية، ومن ثم كان الشاعر العظيم يحب ويبغض ويضحك ويبكي ويرضى ويغضب؛ ولا يحس من كل ذلك وما إليه إلا أن السماء تحكم من داخله على الأرض.
وعلة شقائه هي نفسها علة سروره بشعره وإن نثر هذا الشعر من عينيه بكاء ودموعا، وإن انفجر به أحزانا وآلاما قاتلة.
كل النوابغ لا يرضيهم إلا أن يرتفعوا فإن من كان له جناحان للطيران لا يسر إلا إذا طار؛ وما جناحا الطائر إلا كتابان من الله يملكه في أحدهما على الشرق وفي الآخر على الغرب؛ بيد أن الشاعر لا يرضيه أن يرتفع عن الأرض وحدها فإن خياله لا يقع إلا ساجدا عند عرش الله؛ وذلك سبب آخر من أسباب شقائه في الدنيا، فأيما شر مس كبرياء روحه وأمسك من جناحيها رأيت أثره في نفسه الرقيقة وكأنما صدمه الصدمة ترمي به من فوق السماء إلى الأرض في سقطة واحدة.
يا للعجائب أن سرور الشاعر الملهم سرور نفسه وحدها، ولكن حزنه حزن العالم كله. •••
قيل في أحد القديسين: إنه ما وجد السبيل إلى الكمال الإنساني الأعلى ولا استطاع أن يكمل حتى كانت له نفس شاعر عظيم في جسم فقير بائس محزون، فضرب الله بتلك النفس على هذا الجسم، وبهذا الجسم على تلك النفس واستضاء منهما القمر الإنساني في ليل حالك من سواد أحزانه وهمومه.
فواها لك يا شعر الشعراء؛ أنت النقص كله مع لذات الدنيا وأنت الكمال كله مع آلامها. «انتهى» •••
واستوعبت هذه الكلمة يا عزيزي في دفترها الجميل عشر صفحات، فعدتها واحدة واحدة ونظرت إلي أظرف ما رأيتها ثم شكرتني وقالت: آه ماذا قالت؟ لقد كنت أكتب وهي تدير فكرها في اختراع بديع لمكافأتي.
فكر أنت أيها الصديق، أحسبك تسمع الآن صوت النقد اللؤلؤي الثمين؛ صوت عشر قبلات.
كلا كلا لقد كذب عليك الحسن وكذب عليك القمر، قالت ... لم يبق إلا عشر دقائق ... وانفتلت ضاحكة ونهضت لا تلوي. •••
وملء شعاع هذا السيف قتل
وملء جمال هذا الحسن ذل
ولولا سطوة الأقدار فيما
يحب الناس كان الناس ملوا
فإن كثروا يقلوا كي يعودوا
كثارا، ثم إن كثروا يقلو
مسائل ما لها حل ولكن
إذا نسيت ففي النسيان حل
وسأنسى يا عزيزي سأنسى
الرسالة الثامنة
وادي هواك كأن مطلع شمسه
يلقي على يأسي شعاع أماني
وكأن هذا البدر في ظلمائه
يد راحم مسحت على أحزاني
وكأن أنجم أفقه في ليلها
ذكرى وعودك لحن في نسياني
يا ظبية الوادي الذي نبت الهوى
بثراه بين الزهر والريحان
واديك من طول التدلل قد بدا
شبه القدود به على الأغصان
وكأن طيب نسيمه قد مس من
شفتيك موضع قبلة وأتاني
هو جنة كل النعيم بأرضها
إلا رضاك؛ فذاك من نيراني
دان وما يدنو؛ بعيد ما نأى
يا شد ما يضني البعيد الداني •••
أنا من علمت فتى كأن مهزه
في الروع مسنون الغرار يماني
كل الحوادث حمرهن وسودها
في صفحة الأيام من ألواني
نفسي من الملإ العلى وسجيتي
تأبى علي مذلة الإنسان
ولقد أراع إذا لحاظك لامست
قلبي كأني في هواك اثنان •••
ألحسن ألوان يمازج بعضها
بعضا لتصوير الهوى الفتان
وأرى الجوى والسحر والإيمان قد
مزجت فمنها هذه العينان
وآه لو رأيت عينيها أيها الصديق تغزلان غزل السحر خيوطا خيوطا تلتمع واحدا من شعاع الحرير في واحد من شعاع الشمس، آه لو يتبين لك مكتومها في بعض نظراتها الساجية الطويلة التي تغفل فيها عن كل حذر، وترسل فيها كل خواطر الحب، وتمدها إليك وكأنها تقول: خذ هذه النظرة وانظرني أنت بها لتطلع على ما في قلبي، ثم ترخيها بفتور لين كأنما تصارحك أنها سئمت مقاومة فكرها، وتريد أن تميل إلى صدرك ولو بلحظة من عينيها ... كل شيء فيها من نتائج فكرها إلا تلك النظرات فإنها وحدها نتائج قلبها.
تنكر علي أيها العزيز وصفي إياها بالفلسفة ونعتها بالذكاء النادر والشعر العجيب وتقول: «إن هذا من سحرها فيك، وإنها لو بلغت مبلغا مما وصفت أو دونه لتوكدت بينك وبينها علائق من تحت النفس ومن فوق القلب، ولكنك تصفها بما لا يتصور في وهم ولا يهجس في ظن إلا وهمك أنت وظنك أنت لأنك أنت ...».
فوالله ما كان أمرها على ما رجمت،
1
وإنها لأبلغ ذات لسان وأبرع ذات فكر وأروع ذات نفس؛ ولو كنا سليلي أبوة
2
ما شهدت لها بأكثر من هذا حرفا، ولو كان دمي من أعدائها ما نقصتها من هذا حرفا؛ وعلم الله ما أبغض فيها إلا هذه التي أشهد لها ... ولو أن الله مكنها من لغة كتابه الكريم لغص منها في هذا الشرق العربي كل كاتب وكاتبة غصة لا تساغ ولا تتنفس.
وإني لأكتب إليك رسائلي هذه والقلب ينفض في أضعافها
3
ما لو قرأته أورد عليك من أضواء المعاني في جمالها وحبها وأوصافها ما يملأ نهارا بين صبحه ومغربه يبدؤه بشمس ويختمه بقمر. •••
لقد كنت إذا جاش بي حبها وثار منه ثائره فحاولت أن تربط على قلبي وتثبت هذا الفؤاد القلق؛ جاءت بكلام نضر تنبت منه السلوة في الحب القفر الذي لا ينبت شيئا؛ وجعلت الملائكة تنزل في العش الذي بناه الشيطان لنفسه في القلب وعشش فيه؛ فلو أن كل حبيبة مثلها وكل محب مثلي لكان الحب تغييرا في الإنسانية، ولما احتاج الناس إلى قوانين وملوك، ولكن إلى حبيبات وإلى حب.
إن الرذيلة واحدة ويتعدد أهلها فمهما كثروا ألوفا وملايين فهم واحد في المعنى؛ إذ يتلو كل منهم تلو صاحبه ويقتاس به فكأنهم صور متكررة؛ لأنهم في الرتبة المنحطة كالنبات تخرج الحبة منه ألف حبة مثلها لا تمتاز واحدة من واحدة؛ ولكن كل من قام بفضيلة فهو فضيلة قائمة بنفسها، فمهما قل الفضلاء فهم كثيرون؛ لأنهم في الرتبة العليا ولأنهم وحدهم الناس، فلو صح الحب وأضاءه أهله وصبروا على ما يجز في الصدور منه وتوجروا العلاج المر
4
إلى ساعة الشفاء لكان كل متحابين عالما قائما من اثنين لإنشاء عالم لا يعد من صفات الفضائل وأنواعها.
كانت تقول لي: إن القلوب الضعيفة هي التي تصدأ في فكرة واحدة تلح عليها حتى تتأكل صدأ ثم تتفتت؛ فإذا حدثت عليها الحادثة انكسرت ولم تقم لها، وبقيت زمنا طويلا في الهموم حتى تتعب الحوادث والأقدار المختلفة في أيام تتصرم بعد أيام إلى أن تجمع حطام القلب قلبا متحطما.
ولكن القلوب القوية الصارمة ذات الصدور الجريئة الواسعة تكونها القوى المختلفة من العمل والفكر وعدم المبالاة على هيئة تجعلها مرنة في صلابة فهي تلتوي ولا تنكسر، وما أسرع ما ترجع كما كانت إذا لوتها الخيبة أو نجمت لها قاصمة من الحوادث التي هي مطارق القلوب لا تضرب إلا عليها ولا تحطم إلا فيها.
أقول لك «عدم المبالاة» فافهم عني فإني أريد أن تحفظ هذه الكلمة وتعيها من بوادي هذا الحب إلى تواليه إلى أعقابه،
5
إن عدم المبالاة يكون في بعض الأحيان وفي بعض الأمور هو كل ما تكلفنا به الطاقة البشرية من المبالاة ...
ثم تقول: إنما أنت مني في باب من أبواب الفكر فإياك لا تتسلط عليك حاسة من حواسك، فإن لهذه الحواس ضراوة السباع وكلبها؛
6
والعاطفة تجعل الإنسان أشكل بالملائكة والحاسة تجعله أقرب للشياطين، والحب كالخمر كلاهما نشوة وكلاهما دواء فلا تجاوز حد الطب فيما ترى ولا حد الشعر فيما تفهم، وإلا كنت كالمدمن لا يكفيه إلا ملء جوفه حرة وظمأ ومرضا وجنونا، وإذا هو ملأه توهم أنه يسع بحرا من الخمر، ولا يزال يطمع في الانتشاء، ولا يزال يسرف على نفسه حتى يذهب عقله وينكفئ، وما به قدره على شيء ولا على أن يتوهم شيئا، اجعل الحب تعللا ودع مكارهه في ناحية، وميز بين ما يجب أن يبقى خيالا وما يجوز أن يكون واقعا، فإن أردت أن تخرج من كل صورة في خيالك صورة من الواقع أشقيت نفسك، واستفرغت كل همك وقواك في باطل وعبث ليس مثلهما باطل ولا عبث، دع المعاني في ألفاظها إن لم تؤاتك الأسباب وعلل الأقدار على خلقها أعمالا فإنك إن داريتها ولم تجئك بالمسرة التي تريدها جاءتك بغيرها، وخرج منها على العلات شيء ما يكون منه أمر ما ... وكن في قوة عواطفك وإحكامها وضبطها كالمصارع الجبار الذي لا يوضع جنبه
7
فإنه كما تعلم تعرك بكل جهة من جهاته أنواعا من أقوى القوة ممثلة في أجسام من أعنف العنف؛ فصدره الذي لا يعطف وظهره الذي لا يضغط وأطرافه التي لا تهن ولا تكل، وكل لوح فيه إنما هو رجل تام الخلقة وثيق التركيب؛ لأن كل ما فيه قوة بالغة في قوة بالغة، ولأن الرجل لم يجتمع كذلك إلا من المكارة والغمرات التي خاضها وثبت عليها حتى كأنما خرج بها من وزن رجل إلى وزن جبل.
ثم تقول؛ دع الدماغ يحلم نائما أو منتبها، ولكن متى انعدل الليل راجعا إلى مآبه واستدار النصف المضيء من الكرة فلا تجعل حلم الرأس الذي هو أداة الخيال سببا في عذاب الحواس التي هي أدوات الواقع، واقطع من نفسك أسباب المطمعة الخيالية تجد كل شيء قارا في موضعه لا ينحرف ولا يضطرب ولا يتململ؛ وتذهب أحلام النوم في النوم، وتأتي حقائق اليقظة مع اليقظة وكنا في انتظارها فلا يفجأنا منها شيء، إنك ربما تأتي في أحلامك ما لا يسوغه عذر، وترى وتسمع ما لا وجود له، وتجد منزعا من أمور ليس فيها منزع، وتموج بك العوالم كلها وأنت ساكن في نومك مستثقل حتى على الحركة الضعيفة، وحسبك بعض هذا في الدلالة على أن الدماغ لا يسكن إلى نزواته عاقل؛ لأنه مصنع المستحيلات كما هو مصنع الممكنات. •••
آه يا عزيزي لو رأيت كيف تختلط المعاني بأنفاس شفتيها، وكيف تقبل عليك ألفاظها وفيها من اللطف واللين والرقة وألوان النفس أكثر مما في خدي عذراء سافرة بين عشاقها لا يفارقها الحياء من الألحاظ ولا تفارقها الألحاظ، إنها لتميت داء الصدر من الوساوس والشهوات إذا هي كلمتك بتلك اللغة القلبية التي تمحق حواسك محقا إن كنت رجلا كريم النفس، وإذا هي استسلمت بكلماتها إليك ولكن في حماية ضميرك، تسمعك صوت ضعفها ملتجئا إلى قوتك وكأنها تقول لك: إن نصف كلامي هو هذا والنصف الآخر هو ثقتي بشرفك.
في المرأة الجميلة أشياء كثيرة تقتل الرجل قتلا وتخلجه عن كل ما في دنياه كما تخلجه المنية عن الدنيا؛ وليس فيها شيء واحد ينقذه منها إذا أحبها، بل تأتيه الفتنة من كل ما يعلن وما يضمر ومن كل ما يرى وما يسمع، ومن كل ما يريد وما لا يريد؛ وتأتيه كالريح لو جهد جهده ما أمسك من مجراها ولا أرسل، ولكن في الرجل شيئا ينقذ المرأة منه وإن هلك بحبها وإن هدمت عيناها من حافاته وجوانبه فيه الرجولة إذا كان شهما، وفيه الضمير إذا كان شريفا، وفيه الدم إذا كان كريما، فوالذي نفسي بيده لا تعوذ المرأة بشيء من ذلك ساعة تجن عواطفه وينفر طائر حلمه من صدره إلا عاذت والله بمعاذ يحميها ويعصمها ويمد على طهارتها جناح ملك من الملائكة.
الرجولة والضمير والدم الكريم: ثلاثة إذا اجتمعن في عاشق هلك بثلاث: بتسليط الحبيبة عليه وهو الهلاك الأصغر؛ ثم فتنته بها فتنة لا تهدأ وهو الهلاك الأوسط؛ ثم إنقاذها منه وهو الهلاك الأكبر ... ألا إن شرف الهلاك خير من نذالة الحياة.
الرسالة التاسعة
القلب الكريم المتألم
إن رسائلي إليك أيها العزيز لتنتزع مني دواعي هذا الصدر المحزون
1
فإنها كفيضة الملآن،
2
ولكني أراها لا تذهب بهم أستريح إليه، إلا رجعت بهم ألتوي عليه؛ وقد يكون بعض العزاء عن المصيبة تفننا من المصيبة نفسها؛ كدمعة من يرثي لك من النكبة يجيئك بها تعزية ولها على نفسك الأبية غمز مؤلم قد يكون أشد من ابتسامة العدو الذي يشمت بك.
أكتب إليك في أحزاني اضطرارا أيها الصديق فأنت الجسم الثاني لروحي وقد هدم ذلك الحب صورتي الأولى فسكنت منك لصورتي الثانية، وما أعجب رحمة الله؛ إذ تحيل كل هم في هذا الإنسان الضعيف إلى قوة تبعثه على التماس العطف والرقة من كل النواحي الإنسانية؛ كأن في النفس بجانب كل شيطان ملكا إن لم يستطع تحويل الشر إلى خير أخرج منه نزعة من نزعات الخير.
واها لهذا القلب الذي أحمله فإنما هو عقل فيلسوف خلق على شكل القلوب؛ فهو يأتيني من كل شيء بشيء غيره حتى تلك التي أحبها جاءني منها بهذه التي أبغضها وبقي مع ذلك يتفلسف في حبها ... ولكنه قلب جليل سامي النزعة قار كالصبر مجتمع كالإيمان؛ يقول لكل حاسة أو عاطفة أرادت أن تتهضم في أو تستذل: يا سرحة الوادي لا يزال هناك جبل لا ينحني لعاصفتك.
قلب لا أدري أوهبني الله له أم وهبه لي فهو مثار الألم ومهبط الرحمة جميعا، ولقد ورد في أثر من الآثار إن العبد إذا دعا لأنسان قد اشتد بلاؤه فقال: اللهم ارحمه؛ يقول الله: كيف أرحمه من شيء به أرحمه، وكيف يرحمني الله من هذا القلب وقد رحمني به في ذات نفسي؟
إنما علة البلاء من ناحيتنا نحن، ثم من هذه الجهة الفانية جهة الجسم الذي يستيقن أنه يعيش ليموت، وهو مع ذلك يقبل المقدمات وحدها ويحاول دائما أن يفر من نتائجها كأن النتيجة ليست في المقدمة والآخرة ليست في الأولى؛ أما تلك الناحية الخالدة ناحية الروح فهي كما قيل في شجرة الصندل: تعطر الفأس التي تضربها وتحطم فيها.
هذا القلب هو سر الجمال الإنساني؛ لأن فيه بركة النفس وزينتها وسكنها؛ فالبركة تنبت من الخلق الطيب والزينة تخرج من الفكر الجميل والسكن يثبت بالإيمان واليقين؛ وما جمال النفس الإنسانية إلا خلق وفكرة وفضيلة مؤمنة. •••
ما زلت منذ وعيت كأنما أفرغ في قلبي هذا قلوب الناس بتوجعي لهم وحناني عليهم، وكأنما أعيش في هذه الأرض عيش من وضع رجلا في الدنيا ورجلا في الآخرة؛ أحفظ الله في خلقه؛ لأني أحفظ في نفسي الرحمة لهم وإن كان فيهم من يشبه في التلفف على دواهيه بابا مقفلا على مغارة مظلمة في ليل دامس ... وأتقى طائلة قلوبهم،
3
وألبسهم على تفصيلهم قصارا أو طوالا كما خرجوا من شقي المقص المجتمعين من الليل والنهار تحت مسمار الشمس؛ وأصدرهم من نفسي مصدرا واحدا؛ لأني أعلم أن ميزان الله الذي يشيل ويرجح بالخفيف والثقيل ليس في يدي فلا استخف ولا استثقل، وأعرف أن الفضيلة ليست شيئا في نفسها، وإنما هي بالاعتبار فلا أدري إن كانت عند الله في فلان الذي يحقر الناس أو فلان الذي يحقره الناس، وليس من طبعي أن أتصفح على الخلق
4
فإن من وضع نفسه هذا الموضع هلك بالناس ولا يحيون به، وتعقدوا في صدره كما يتعقد الماء العذب بالغصص المؤلمة، ورموه بذنوبهم من حيث لا يمحص عنهم شيئا،
5
وقد خلقهم من علمهم كيف يجيئون وكيف يذهبون؛ وما تقذف بطون الأمهات في هذه الأرض إلا تواريخ كتبت في الأزل كما قدر الله ولما قضاة فمن استقام فعلى الخط الذي امتد له، ومن زاغ فللدائرة التي انحرف به محيطها المائل من طرفيه إن سفل وإن علا.
لقد أقمت من نفسي لهذا الخلق جبلا، وإن هذا الجبل ليتدحرج عليه الصخر الصلد ويلصق به الحصي المسنون، وينغرز فيه الشوك الدامي، وتنبت منه الفروع المرة وترسو بين أطباقه العروق الضاربة؛ ولكنه على ذلك جبل وهو بذلك أتم روعة ورهبة، ولكل شيء مما عددت معنى في نفسي، ولكلها مجتمعة وحدها معنى آخر، ولجميعها مبعثرة يتخطى المعنيين في الجبل معنى ثالث.
فما أضيق بالناس ولا أتبرم،
6
ولي أبدا مع الضعفاء والأقوياء سفح ظليل مخضر وقمة عالية
7
متمردة؛ وإني على ما وصفت لأرى في أعماق هذا الطود الراسي بركانا يتزلزل به كلما اضطرم جاحمه؛ ذائبا في الأغوار البعيدة تمسكه الأرض إمساك العزيمة وتشد عليه شدة الصبر على أنه لجج من النار؛ فترى الطود الشامخ قائما على الأرض كأنه أرض مستقلة وفي جوفه ما يحطمه مما يمور ويضطرب،
8
وكأني إذ لا أحاسب الناس أحاسب نفسي بكل ذنوبهم إلي فأفجر عروق دمي عليهم، وكأن ذلك الكمال الإنساني الذي لا يزال بعيدا عني يحاول أن يقتلعني من أساسي لأثب إليه في أقاصي علوه.
إن النملة من النمل لتخاف على قريتها من قدم الطفل الرضيع ما نخاف نحن على كرة الأرض من أكبر نجوم السماء متى خشينا أن يتنفس عليها فيرسلها زفرة في صدر الأبد، وكم بين قرية النمل وبين كرة الأرض؛ وأين وطأة الرضيع من صدمة النجم؟ ولكن كل شيء فإنما هو باعتباره في نفسه وباعتباره لنفسه؛ ألا وإن الزلزلة التي يضرب بها ذلك الجبل القائم من نفسي إنما هي رقة الحب. •••
وإن تعجب فعجب ما ترى أن هذا القلب الإنساني لا يصبح هشيمة
9
في جنبي صاحبه يأخذ الناس منه ويدعون كيف شاءوا إلا إذا أنبت الله صاحبه المسكين من نبعة باسقة في مغرس طيب،
10
وأخرجه في صيغة كريمة وأودع في أعصابه ميراثا ساميا من الدم، ولقد تجد هذا الرجل الكريم ملء ذكائه دهاء ونكرا
11
ونفاذا في أعضل الأمور ينقع في الحوادث فكره كما ينقع الثعبان نابه المسموم، وقد تجده في بدنه شديد الفحلة معصوبا عصبا كأنه من عضلاته في لفائف الحديد؛
12
ولكنك تجد قلبه شيئا غير هذا كله، لا يسرع إلا في هدمه ولا يتركه يدور كما يدور غيره على الخطوط والأضلاع الطويلة من زوايا الحياة، بل ينفذ به إلى الهموم من أقطارها على استقامة؛ فما أسرع ما يتهدم وتتقصف سنه بعضها على بعض،
13
وربما كان في الأربعين فلا ترى إلا أن العمر يخيط في ثوب همه بأربعين إبرة.
بهذا القلب رأيتني كلما كبرت صغرت الدنيا في عيني، وكلما تقدمت دانيت أطرافها العليا فأصبحت أشعر حقا أن هذا العمر إنما هو سلم إلى السماء لا إلى غيرها؛ ومن هذا القلب اعتادت بعض سفن الأقدار أن تجد فيه حلقة ثابتة متينة تشد إليها حبالها إذا هي أرست على شاطئ الدهر بأحمالها، فالناس يتناولون منها خفافا وثقالا، ولكن الحلقة المعذبة لا عمل لها إلا أن تهتز وترتج من الألم والشدة والعنف.
وفي هذا القلب أعرف موضع كل شيء إلا نفسي ، فما أدري أهو من الضعة بحيث صارت فوق أن تنزل فيه، أم هو من السمو بحيث صار نفسا وحدها؟
ولكنه على الحالين أشقاني بهذه النفس وطوح بي وبها في مهاوي الأحزان إلى قرار بعيد. •••
في قلب كل إنسان معنى من الأزل؛ لأنه كان ذرة في يد الله، بيد أن هذه الذرة تمحق في بعض الناس أنواعا من المحق، فتصيب الرجل وأنه لعظيم جليل، ولكنه في ميزان الله لا يعدل مثقال ذرة من حسنة من رجل حقير؛ وتربو في بعض الناس وتتنفخ فإذا هي في وزن الجبل الراسخ بأعضاده
14
المترامي بنواحيه؛ فيا قلبي المسكين ما أنت منهما؟ لقد تعذبت بك طويلا وتقلدت منك بليتي فما تغمز بعللك ونزعاتك إلا في صميم الروح غمزا كوخز الإبر، ولا تضرب عروقي التي تستقي منك إلا على ألم تأتيني به؛ إذ كنت لا ترميني إلا بشر ما تجد من هموم الناس؛ وإذ ترى أن درس الشر والآلام إنما هو عنصر الفلسفة الأسمى، وإنما هو الفضيلة المنحلة لمن يريد أن يعلم ويرى كيف تتألف أجزاء الفضيلة في باطنها، فأنت تنتشط
15
الحزن من كل شيء وتأتيني به لأتحزن وأتألم فألمس بالحزن والألم مصراعي باب السماء، وأنت تبسط على رواق المعاني المظلمة من الآلام والأحزان لأرى في ظلماتها أشعة روحي المضيئة بالإيمان والرضا.
رضيت يا قلبي المسكين أن تجتمع من حطامي المتناثرة وأن تكون سويا تاما، وأكون أنا الجسم الحيواني أشلاء وبقايا؛
16
فإني رأيت شر أهل الدنيا ذلك الذي هو أهنأهم بمتاعها حتى كأنه في شهواته ولذاته لم يجتمع إلا من حطام قلبه المتبدد، الشهوات واللذات تبني عالما والآلام والأحزان تبني عالما آخر، وهما يتجاوران كما يلتصق حائط الليل بحائط النهار؛ وأنت يا قلبي المتألم لا تشرف على العالم الأول إلا ما يشرف النظر العالي من البعيد البعيد؛ لأنك طود باذخ رسخت جذوره في العالم الثاني.
إن الإبرة الممغنطة
17
التي تهدي السفن باتجاهها لهي القلب الذي تحمل فيه السفينة روح الأرض؛ والقلب الإنساني هو كتلك الإبرة غير أنه يحمل روح السماء، ولولا حاسة الاتجاه الإلهي فيه لتمزقت علينا جهات الأرض
18
في أنفسنا فضللنا فيها وارتبكنا في فتوقها الواسعة حتى لا يهتدي إنسان إلى الجهة الإنسانية، ولكنا نتغافل عن هذه الحاسة فيه، وترى أكثر الناس لا يقبلون بأنفسهم إلا على جهة أجسامهم ويطوي أحدهم الدهر الفسيح من عمره وما ارتفع قليلا ولا كثيرا، بل يكون كالطير في قفصه يتخبط بين أرض وسماء، وما بين سمائه وأرضه إلا علو ذراع ... وإن أشد ما كانت الحياة وأشد ما هي كائنة على من لا يجد لذة قلبه فيها؛ وأصعب ما تكون الإنسانية على من يعظم بحيوانيته وحسب؛
19
فتراه وكأن مئة حمار ركبت منه في حمار واحد ولكنه حمار عظيم ...
وما رأيت قلبي يلتمس لذة من بعد إيمانه إلا في ثلاث: الفكر الإنساني الذي يهبط في أدمغة الفلاسفة والشعراء من أعلى السموات أو ينبع من أغوار النفس؛ والفكر الطبيعي الذي يملأ السماء والأرض نورا وألوانا وجمالا؛ والفكر الروحي الذي يتلألأ لخيالي في عيني الحبيبة الجميلة.
الرسالة العاشرة
لقد وصفتها لك أيها العزيز وملأت رسائلي منها؛ غير أني والله ما أدري أوصفتها أم وصفت بها، وكتبت منها أم كتبت عنها، فإنما ذلك مطلب دونه أن تجعل وصف الجمر يلذع لذع الجمر؛ ومهما أكتب فإنها باقية في نفسي لا تنقص على قدر ما تزيد ... إن فيها شيئين هما الفكر والجمال، وفي شيئان هما الخيال والحب، وهذه الأربعة تنشئها في نفسي خلقا بديعا لم أره لامرأة قط، ففيها وحدها زيادة عن النساء؛ لأن فيها وحدها نفسي.
أما سمعت بذلك الأعرابي الذي قيل له ما بلغ من حبك لفلانة؟ فقال: والله إني لأرى الشمس على حائطها أحسن منها على حيطان جيرانها ... قد والله صدق وبرت يمينه فإن في كلماته الشعرية لأثرا من عينيه؛ إذ يرى الشمس على حائطها كالشمس على البلور الصافي لا على الحجر والمدر؛ فهناك أشعة أخرى من تلك التي وراء الحائط تنفذ إلى قلب هذا المسكين، فإذا هي سطعت لخياله في نور الشمس أضافت إلى النور ألوانا مختلفة من ذلك المعنى الجميل الحي فلا تكون الشمس في عينيه أحسن مما هي وقتئذ ولو أنها طلعت على حائط من اللؤلؤ.
ليس الجمال ما يعلم الكاتب أو يدرسه الفيلسوف، ولا هو مذهب من مذاهب التلفيق في الجمل والألفاظ، ولا هو كما صنع علماء الرياضيات الذين جعلوا الفلك كله بألوانه وجماله وما فيه من غموض الأبد مسألة حسابية ... والأرض بما انبسط عليها من جمال الطبيعة مسألة هندسية ... كأن الأزل كله خطوط وزوايا وأرقام؛ وتركوا جانبا حركة الفكر الأعظم القائم بالإرادة الأزلية؛ وهي التي تطالع العقل من كل شيء بمعنى والخيال بمعنى آخر ثم تكون هي في حقيقتها المجهولة معنى ثالثا، ولكنك مع ذلك واجد في الأرض من يتسكع ويحمل الشمعة ليفتش في ضوئها عن النجم العظيم ... •••
لو أني سئلت تسمية لعلم الجمال لسميته «علم تجديد النفس» فإن الجميل الذي لا يجدد بمعانيه حواسك وعواطفك ويعيدها غضة طرية كما فطرت من قبل؛ لا يسمى جميلا إلا على هذا المجاز الذي سمى به أحد القواد كتابه في الصناع الفقراء: «غزو الخبز» ... لا تسل عن الجمال من يحسن الفكر والإبانة عن فكره، ولكن سل عاشقا يحسن الشعور والتعبير عن شعوره؛ فذلك هو الشاعر من جهاته الأربع: جهة قلبه وفكره وحوادثه وحبيبته، وذلك هو تاريخ الجمال الذي يتكرر على الأرض أبدا، وإلى منقطع الحياة في صورة واحدة كالحياة نفسها.
ألا ما أتعب الإنسان بحياته وموته؛ إن هذه الحياة مصيبة كتبت على الأرواح لإيجاد عيوبها في عالم العيوب؛ والموت مصيبة كتبت عليها لنقل هذه العيوب معها إلى العالم الآخر؛ فما عسى أن يكون الجمال والحب إلا تخفيفا من مصيبتين أو ... أو زيادة فيهما؟
سأحدثك عن هذا الجمال كما أوحته إلي عواطفي التي ما تزال تدأب لا تأتلي كالنحل على الأزهار والألوان، وكما رأيته في تلك الحقائق الساحرة التي كانت تفيض بمعانيها على الجميلة فتكسبها غرابة الجمال وتمثلها لعيني في ثلاثة ألوان: لون من وجهها ولون من دمها ولون من قلبي، سأنثر لك الجميلة وأسرار جمالها وتأثير جمالها نثرا ألفني والله قبل أن أؤلفه؛ وما صعد إلى فكري وانحدر من قلمي إلا بعد أن وفدت عليه الجمرات الحمر فغلى في القلب وتبخر واندفع وطار إليك في كلام كالندى على الورق الأخضر. •••
إن في نفس هذا الإنسان أعماقا بعيدة تنحدر أغوارها من مهوى إلى مهوى إلى ما لا نعلم؛ لأن النفس ما برحت جزءا من الأزل كبعض النور من النور، ينفصل عنه وهو مستقر فيه.
وقد نثر الله في أعماق الفضاء هذه المصابيح المتقدة التي اهتدى في ضوئها الفكر الإنساني إلى شيء من الإدراك الأسمى؛ من ذلك النور الذي يشتعل ويتوهج في أقطار السموات كلها، وكما ترى في أعماق الفضاء ترى في أغوار النفس؛ فلا بد لهذه مما لا بد منه لتلك من معاني النور الإلهي؛ فالكوكب يضيء في أعماق الفضاء، والوجه الجميل يضيء في أعماق النفس.
ألم تر إلى المحب الذي أدنفه الحب كيف يشعر أنه متصل بالنور الأزلي من الحسن الذي يعشقه؛ وكيف يرى في أطواء نفسه أخفى الوساوس وأدقها كأنها مكشوفة لعينه على الضوء؛ وكيف يظل أبدا في حبه كأنما يبحث في الأرض عما ليس في الأرض، ويحاول أن يجد في قلبه ما لا يخلق في القلب، وكأنه وحده الذي يعلم من نفسه أن فوق كل طبقة طبقة أعلى، وتحت كل عمق عمقا أسفل، فلا يقنع بشيء لا من عاليها ولا من سافلها؟ وانظر كيف يجعله حبه العظيم يرى العالم كله صغيرا حقيرا؛ وإذا اتفقت له ساعة من حبيبته رآها عجيبة كأنها ليست من الحياة أو ليست إلا بالحياة؛ فهل وسعت نفسه من الحب شيئا لا سبيل لأن يقاس معنى العالم به؛ أم صارت أعماقها تطاول أعماق الفضاء؛ فهو بالحب كائن فيما حوله وما حوله كائن فيه؟ •••
لا أرى سر الجمال إلا أنه شيء حقيقي من تلك القوة السماوية التي نسميها الجاذبية؛ فكأن الله حين يبدع الجميل يرسل في دمه مع الذرة الإنسانية ذرة من مادة الكواكب هي سر عشقه وجاذبيته ، وهي بعينها معنى تلك القوة التي لا يزال الجميل يخضع بها كما يخضع الفلك المدار، ويتسلط على عاشقه كما تتسلط الأقدار، ويبث في الدم الإنساني مع مادة الدم مادة من النار.
وما أساليب الدلال أو ما نراه دلالا في الجميل المعشوق إلا اضطراب تلك الذرة من سكونها؛ فإنها متى تحركت للجاذبية جعلت الجميل يتلألأ من كل جهاته وانبعثت في كل ناحية منه نورا فوضعت لكل شيء فيه معنى من المعاني الخيالية؛ إذ هي معنى كل شيء فيه.
ولو أنك سألت عاشقا أن يصادم من يحب ويتسع لهجرها ونبذها ويتجافى عن هواها لكانت عاقبة ذلك في نفسه ويقينه ما يعلم من العاقبة في مصادمة الأرض لكوكب من الكواكب؛ إذ يتحطم ولا يغني شيئا في تعطيل قوة الجذب المنصبة من قمره الجميل على كرة قلبه الضعيفة.
وكما نجد للكواكب في نظام السماء نعرف نحوا من ذلك لكواكب الجمال في نظام النفس، فليس كل ظريف جميل يجذب حسنه في كل دائرة على ما شاء وشاء الهوى، وإلا فسدت الأرض وأصبح الجنسان فيها كحجري الطاحون لا عمل للأعلى إلا أن يطحن على الأسفل ... بل إن لكل جميل فلكا لا تعدوه قوة جذبه فإذا هي تخطته إلى فلك غيره بطل عملها أو عملت على ضعف أو وقعت ثم موقع صوت القنبلة، يخرج منها وليس فيه شيء منها، ذلك بأن الله قد سلط على هذه الأرواح السماوية مواد مختلفة من ثقل الأرض لا تبرح تدافع تلك المادة من جاذبية السماء فإما أبطلتها وإما كسرت من حدتها وإما أضعفتها وإما طمست عليها؛ ما لم تكن النفسان العاشقة والمعشوقة من فلك واحد في القدر الجاري عليهما.
فلو أن أرق من غمز الحب على قلبه من الشعراء الذين يجعلون الكلمة الواحدة كلاما طويلا، يحدثك يوما عن تلك الجميلة التي كلف بها واختبلته بحبها
1
فأرسلته على وجهه في كل مذهب من مذاهب الهوى؛ ثم يتفتح لك في صفتها بكل ما تخيل حسه وأحس خياله فيفرغها في القالب الذي لم يخلق الله فيه امرأة قط، ويصبها لعينيك ممثلة من النور السماوي المحض تضيء كل قطرة منه وجه ملك من الملائكة، ثم يجري كلامه فيها شعرا خالدا مطردا كنهر الكوثر في رياض الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت، ثم يتفق لك بعد أن تراها وتجلس إليها وتطارحها ولست من فلكها الذي تعمل فيه جاذبيتها، إذن لرأيته قد غار من أوصافها في بئر من الكذب وتعلق في الحديث عن جمالها بخيوط من الباطل، ونزل من الحقيقة التي كان يذكرها لك منزلة المفلس يظل متسكعا فارغا يتبع نفسه هواها ويتمنى الأماني ولا حقيقة، ولرأيته كالعنكبوت تقضي الأيام الطويلة في نصب أشراكها وحبائلها لأجمل ظبية في عينها ... ثم لا تكون ظبيتها إلا ذبابة، وترد عليه سواد أمره وبياضه كذبا وزورا وتتهم ذوقه وتهجن طبعه وتتقي عليه أن يكون قد تخبطه مس من الشيطان؛ وأنت على ذلك مستيقن أنك تكلمه فيها بأصح لفظ وأوضح معنى وأصدق نصيحة، وأنك تلقي في أذنه براهين المنطق وحجج الفلاسفة، وتصحح له خطأه في رائحة الزهرة بالزهرة نفسها تقول له: ها هي ذه في رياها ونسيمها فأين ما زعمت لها؟ على أنه هو في كل ذلك لا يراك إلا كالأقطع الذي يقدر قياس الباع الطويل ببقايا ذراعيه، والمقعد الذي يضبط قياس الخطوة الفسيحة بمد رجليه؛ والأعمى الذي يفاضل بين لونين؛ ويكذب في رأيه ذا العينين، ويراك مجنونا فاسد العقل أو سخيفا فاسد الذوق أو أحمق فاسد الرأي: وما بك ولا به بأس غير أنك تنظر مدبرا وينظر مقبلا، وتهزأ بتيار البحر؛ لأن قدميك في الشاطئ ويرهبه هو؛ لأنه مندفع فيه منخلع القلب من فورانه وهديره، وأنت تروي فيما وصفت له بلسانك عن عينك عن هذه المرأة؛ وهو يروي فيما صور لك بالسند الطويل: بلسانه عن عينه عن خياله عن آماله عن قلبه عن روحه عن القدر المحتوم عن هذه الحبيبة، وأنت في نفسك كأنما تنظر من الأرض إلى النجم فلا تراه بعلم ولا يقين؛ وهو في نفسه إنما ينظر من فلك النجم إلى النجم ذاته فإذا الكوكب ما هو، وإذا فضاء واسع من النار وجو عميق من المغناطيس ومظهر من القدرة العظمى جماله في هيبته وهيبته في قوته وقوته في جماله، فهو شيء واحد بعضه من بعض. •••
وإذا رحم الله إنسانا من هذا الحب ومن التعلق بالجمال كدر طينته وأغلظ على نفسه بمواد ثقيلة من هموم الحياة وأكدار العيش؛ أو أفرط عليه بآمال النفس وأطماع الحاسة فيشغله بكل ذلك أو بعضه، ويحوطه منه بمثل أكياس الرمل التي يتحصن وراءها المقاتلة فلا تنفذها الطائرات الحمر،
2
بل تنطفئ فيها، ويجعل له من دون العيون الذابلة وألحاظها صدرا مصفحا بما يتساقط في داخله من جوانب نفسه، وما يتصدع من أركان قلبه بين الكمد والهم أو الأمل والطمع أو الجهد والتعب أو الثقل والغلظة أو غيرها من هزاهز العيش ودواهيه؛ فتذهب سطوة الجمال في سطوة المادة؛ وتخضع الإنسان قوة بإفلاته من قوة أخرى، ويهدم من أعلاه ليشد بناؤه من أسفله.
وما من أحد في الأرض يستقيم طبعه على الجمع بين هم الحب وهم الحياة، فإن قام بواحد زاغ من الآخر، لا يبالي به؛ إذ هما حقيقتان متدافعتان كتياري الكهرباء، لو أمكن شيء من المستحيل لما أمكن أن يطردا في سلك واحد أطرادهما في السلكين، فإن لم تكن محامل هذا الجسد
3
خفيفة على النفس من جهات الفكر والهم، وإلا انصبغ الذوق فالتبست ألوانه وخالط بعضها بعضا، وضعفت موهبة التمييز بين المعاني المضيئة، وصار الإنسان هما كافيا لنفسه وعادت النفس هما كافيا لصاحبها فليس بينهما على ذلك موضع لما ليس منهما، وتحول مادة ذلك الهم بغلظتها وجفائها بين السر المعشوق في الجمال والسر العاشق في الروح فلا يدرك منهما شيء شيئا.
فهذا الجمال إن شئت قدرة لا قوة فيها، وإن شئت قوة لا قدرة لها؛ ولو أن الله جعله مجموعا من القوة والقدرة معا لأبطل سنن الطبيعة الإنسانية، ولصار لكل إنسان كون وحده في القلب الذي يرف ليخفق على قلبه؛ ووطن على حياله في الجسم الذي يحن لينضم إلى جسمه؛ ودين على حدة يهبط الوحي فيه نظرات من عينين إلى عينين، وقانون مستقل لا تكون مواده إلا قبلات من شفتين على شفتين، واعلم أن أشقى المخلوقات هم أولئك التعساء الذين يشذون في تاريخ الناس أحيانا، وينفردون دونهم بجنون الحب كما حدثوا عن «مجنون ليلى»
4
إذ يتسلط عليهم الجمال بضرب ممتزج من القوة والقدرة يغمر الطاقة الإنسانية، ثم تجيء أقدار غريبة بين الرحمة والقسوة فتجذب الحب إلى الحب، ولكنها تدفع المحب عن الحبيب، فلا يزال الجمال يسوقهم سوقا عنيفا من ناره إلى باب جنته، ثم يردهم عن باب الجنة إلى النار حتى يصبح الواحد منهم بين العناصر والنواميس المنتظمة في هذا الكون الإنساني كأنه عنصر مجنون أو ناموس مختل. •••
إن هذا الإنسان وعاء من الأوعية لا يملؤه إلا الأفكار والنزعات، ومتى احتل الفكر وتمدد، ثم ضرب فتمكن، ثم غار بجذوره وانشعب بفروعه صبغ الأشياء كلها في عيني صاحبه بألوان منه حتى كأنه لا ينبعث في أشعة النظر إلا ليلبس كل ما تنظره العين، فلا يرى المرء فيما يرى إلا صورا من فكره كما تنبعث أخيله السيما
5
في أنوارها على حائطها؛ فإذا هو تاريخ وحكاية وعمل وحياة، وإذا هو هي على أنه حائط، ولم يخلق الله فيما أعرف غير الحب فكرا يتمكن من الإنسان ويضرب الضربات الثقيلة فيستطير في قلبه استطارة الصدع الشادخ في لوح الزجاج، يشقه على مد ما تتصل إليه حركته، ويثلمه على غير قاعدة من هنا وههنا، ويدعه فلولا تتشظى
6
وما هذا الحب إلا فكر الجمال وأثر عمله في النفس؛ إذ كان الجمال الفاتن لا يخلق على ذلك الأسلوب الذي هو عليه إلا ليستحوز على التخيل والحس معا؛ فهو نوع من جور الطبيعة على الإنسان يجيء من اتصال أحسن ما ظهر في شخص بأحسن ما كمن في شخص آخر؛ وهو كذلك نوع من استثارة هذه الطبيعة لكل ما في أعماق النفس الإنسانية ببعض ما في أعماقها هي، فالعاشق مقتتل
7
بأسلحة طبيعية منها كل نظرة من حبيبه وكل كلمة وكل حركة وكل ما مسه أو اتصل به منه؛ وذلك لأن قوة طبيعية عجيبة تنفثها رهبة الكون وتحصرها بين نفسه ونفس حبيبته لتجعل منهما طريقي سلبها وإيجابها؛ هذه القوة هي الفكر؛ هي ذلك الحب، هي الكهرباء المتألفة من نفسين، ومثل ذلك بعينه في الضرب على قلب الإنسان ما يتملك هذا القلب من هموم الدنيا وشدات مصائبها، كلا الفكرين قتل من الطبيعة غير أنها في أحدهما باسمة وفي الآخر عابسة، تقتل الإنسان بما يحب كما تقتله بما يكره، وهما طريقتان لا تسلك غيرهما إذا أرادت أن تنفذ بقدر من الأقدار الماحقة إلى باطن النفس لتترك هذا الإنسان المعذب يحس بغمز القوى الخفية على فؤاده.
الرسالة الحادية عشرة
تقول أيها الصديق: «ألا زدني ثم زدني فإن ليلك الحزين قد تفجر لك بصبح من تلك الشمس، وإن قلمك ليجمع أشعة النجوم ويصور منها ذلك القمر، وإنك لأنت المحب الذي يخرج من جنونه العقل الكامل، ولئن كانت تلك الحبيبة قد اختلجت نفسها
1
من يدك فما ذلك إلا أنها ملك مد إليك جناحه وأمكنك منه، ثم انفلت ليدع في يدك الريشة السماوية التي تصوره بها».
كذلك كانت تقول هي: «أنا لا أخشى غضبك فإن غضبك علي لا يكون إلا السحابة المطرزة بخيوط البرق تهبط في ألوانها مذهبة وتجلجل بأجراسها من بعيد؛ لأنها تحمل إليك ملك الوحي الذي لا ينزل عادة إلا في جو من البرق والرعد». •••
ما كثرت أمراض التأويل في شيء كثرتها في تعرف حقيقة الجمال؛ على أن هذه الحقيقة لا تستخرج إلا من الدم، فلو فتشت عنها السماء والأرض فلسفة لجئت فيها بملء السماء والأرض كلاما كذبا.
الجمال في حقيقته التي لا تختلف إنما هو معنى من المعاني الحبيبة يعلق بالنفس فيحدث فكرا متمكنا تتطاوع له هذه النفس العاشقة حتى ينطبع في أعصابها فيستولي على الإنسان كله بجزء من عقله؛ ومن ثم يتقيد المحب بقيد لا فكاك له؛ إذ لا يجد ما ينتزعه من عقله أو ينتزع عقله منه إلا أن يموت أو يجن، وهو من ذلك المعنى محتبس في قفل لو ضغطت عليه السموات والأرض لما تسنى ولا انكسر، وليس إلا الحبيبة وحدها هي فتحه وإغلاقه.
بهذا يكون الجمال على مقدار ما يحسن الإنسان أن يفهم منه، ثم على مقدار ما يؤثر من هذا الفهم، ثم على مقدار ما يثبت من هذا التأثير، وتلك هي درجاته الثلاث: فجمال تستحسنه، وآخر تعشقه، وجمال تجن به جنونا.
والأول تجود به الطبيعة في أشياء كثيرة، بل هو الأصل في الخلق، ولكنا لا نتنبه منه إلا لما نجد فيه روحا على القلب ورقة للنفس وترفيها لهما؛ وهذا الجمال خاضع للإنسان، ومن ثم فلا سلطان له إلا بعض الميل والرغبة في النفس، ومنه كل مناظر الطبيعة.
والثاني تعلو به الطبيعة عن هذه الطبقة وتنزله منزلة أعلاقها وذخائرها النفيسة، وتتسلط به على بعض النظام الإنساني كما تتسلط بهذا النظام على بعضه فيحب الإنسان ويسلو، ويمرض بالحب ثم يصنع بيده دواء مرضه ويشرب منه السلوان والعافية ... إذ هو بإزاء الجمال الذي يتسلط من ناحية ويخضع من ناحية تقابلها.
والثالث لا يجده من يجده إلا مرة واحدة كما أنه لا يموت إلا مرة واحدة، وهو من خوارق الطبيعة التي كل نظامها أن العقل لا يعرف لها نظاما؛ وما هو إلا أن يصوب الإنسان رأسه فإذا هو عند جنون الحب، وإذا هو بجنونه فوق العقل والمعقول.
فالمرأة في عين محبها المفتون أجمل من مسحت يد الله على وجهها من النساء فتركت الأثر الإلهي يتسلط في سحر عينيها، وطبعت المعنى الناري يتلهب في شعاع خديها، وأودعت روح الجنة أمانة بين شفتيها؛ ووصلت بين الرحمة والنفوس بذلك النور المتلألئ في ثغرها؛ وبين النقمة والقلوب بتلك النار المستعرة من هجرها، وأضافت إلى النواميس النافذة في الكون فتور عينيها وتنهدات صدرها.
ويراها المحب فما يحسب إلا أن قطعة من السماء قد صارت ثوبا لجسمها، وأن قدرا من الأقدار قد نشأ على الأرض وسمي باسمها؛ وإذا نظر إليها علم بدلالة وجهها أنها من القمر، وإذا نظرت هي إليه أعلمته بدلالة لحظها أنها من القدر.
وتسالمه فيحل سلام الدنيا كلها في قلبه، وتغاضبه فيقع في حرب هذه الحياة وتقع الحياة في حربه، وإذا ضاقت الجميلة به ساعة واحدة لم يبق له بالعمر استطاعة، وإذا كان الهرم بالسنين الطويلة هرم في هجرها بالدقيقة والساعة.
ويرى لو أن الجمال نفسه خلق امرأة لكانها، ولو جادل أحد في المحاسن لجعلتها المحاسن برهانها، فهي تقبل بوجهها الفتان كما تقبل السعادة بالأمل الوسيم، وتختال بمعانيها النسائية كما تهب روائح الأزهار في النسيم؛ رفافة على الحب كأنها خلقت في جنة الحب ريحانة، مسكرة للعاشقين كأن نهر الخمر في الجنة جعل فمها لهذا العاشق حانة، صافية يترقرق في حسنها ماء دلالها، وتشرق بالقمر الأزهر من وجهها سماء جمالها، ولا تشبه إلا نفسها كما لا يشبهها إلا ما تبدي المرآة من خيالها.
ويغلو فيفسر النظرة منها تفسير الفقيه المتكلم للآية، ويقف عند الابتسامة وقوف السابق إذا فاز عند الغاية، وينظر إليها في ثوبها ولكن كما ينظر القائد إلى مجد وطنه في الراية، ويسمع صمتها كأنه كلام بين نفسه وبينها، ويعي كلامها فلا تدري أأنطقت به فمها أم أنطقت به عينها؛ فهي بجملتها ليس فيها من الحسن إلا وحي وتنزيل، وهو بجملته ليس فيه من الحب إلا تفسير وتأويل، ثم هي وحدها القاعدة العامة في الجمال وهو وحده البرهان والدليل.
وتراه ينظر إليها ولكنه من سحر جمالها كأنه يتوهمها، ويعرفها ولكنه من سطوة جلالها كأنه لا يفهمها، ثم تعلو فما يشرق حسنها عليه إلا كالمعنى الأزلي من جانب في الغيب، ثم تعظم فلا يدرك ما فيها من الحقيقة السماوية إلا على طريقة أهل الأرض في إدراك الحقائق العظمى بالإيمان والريب. •••
تلك هي الحبيبة الجميلة لا تعرف إن كان الجمال في شخصها أو في الجزء المتصل منك بشخصها، أو في الذي هو متصل بك من شخصها، فهي جميلة من ناحيتك ومن ناحيتها ومما بينهما؛ وهذا هو الذي يجعلها فوق الجمال الإنساني بطبقتين لا تسمو امرأة إلى واحدة منهما؛ ويجعلك ترى ما فيها من الإبهام جمالا لا تفسير له وما فيهما من التفسير جمالا مبهما؛ فكأنها في كل ذلك دائرة مرسومة من الفكر لا يهديك البحث إلى موضع طرفيها، وهي محيطة بروحك من ثلاث جهات فلم يبق لك إلا الجهة التي تتصل روحك منها بيد الله، وهذا هو موضع التأليه في الجمال المعشوق؛ إذ لا يدعك الحب معه إلا بين شيئين اثنين: الحبيبة والخالق.
ألم تر إلى شعراء الدنيا وهم أنبياء الجمال الذي لا تتصل ملائكته بغيرهم ولا يفهم غيرهم ما يفهمون منها؛ كيف يشبهون الحسن الرائع بكل ما في الخليقة من مظاهر الروعة، فيتناولون من الآفاق والسحب والبروق والرعود ومن الشمس والقمر والنجوم والأفلاك، ومن الخلد والجنة والنار؛ ويأخذون من الجبال والبحار والأنهار ومن الرياض والأزهار، ثم من الطير والوحش ثم من المعادن وأفلاذ الأرض، ومن كل ما ختمت عليه يد الله بروعة أو طبعت عليه برهبة؛ ويجمعون ذلك ثم يفيضونه في أوصاف الجميلة وجمالها حتى لكأنها ذلك السر الذي قام به حسن الخليقة، وحتى كأنه الله لم يخلقها إلا ليكون كل شيء فيها تفسيرا لشيء ما في آية من آياته، وما ذلك بمبالغة من الشعراء ولكن أرواحهم الجميلة قد أحيط بها من هذا الجمال النسائي، فأينما أحسوا رأوا له صلة بإحساسهم وضرب في أفئدتهم عرق منه فانقدح له شعاع يطير إلى الفكر؛ لأنه بعض القوة الموجهة إليه من الروح المفكر.
إن الجميلات إنما هن كواكب الأرض يدرن في أفلاك القلوب؛ ولست ترى فلكيا يرصد نجوم السماء إلا ولعينيه منظار تكبر فيه الأشياء
2
أضعافا إلى أضعافها فيدنو بالبعيد ويجهر بالخفي، وعاشق الجميلة حين يهيم بها ويرصد منها نجم خياله في فلك أمانيه لا يلبث أن يرى الجمال قد جسم فيه الحس وبسط له ضوء الفكر، فإذا عينه في تكبير نجمة الأرض كذلك المنظار بعينه في تكبير نجمة السماء، وإذا ملء العين حبيبها.
فيا كبدي مما ألاقي من الهوى ... ... ... ... ...
الرسالة الثانية عشرة
وهنا مغاص الذرة في لجج الحب فألق على نفسك قبل أن تقرأ هذه الرسالة معنى من رقة قلبي حتى تواثقني على أنها لا تخرج من نفسي إلا كما أريد أن تتلقاها فلا أتبسط ولا أتسرح بكلامي هذا إلا في مكان من نفسك.
في موضع من شاطئ النيل ندي
1
فلان اليوناني، وهو رجل في رقة المرأة ينهض في خدمة المحبين بفن من الذوق امتزج فيه ما تقتحمه جرأة العاشق بما يختلج إليه حياء المعشوق؛ فترى من رقعة نديه طرازا أخضر مفوفا
2
على ثوب الماء، وفيه حبك بديع من أغصان الشجر يلوح طرائق طرائق وحبكا حبكا
3
كهذا الانكماش الذي تراه طرازا لأثواب الغانيات، وتجد في أطراف الندي أشجارا متعانقة كل لفيف منها يبني بيتا أخضر ستائره من الأغصان المتدلية، وجدرانه من الفروع المعروشة، وكأنما زخرف وطلي وفضض وذهب بألوان الظل والماء والسماء وما يتسحب فيها.
وترى الناس يستكفون
4
حول هذه البيوت الخضر، ولكنك إذا احتجرت في عريش منها وكنت منفردا أشعرك بكل المعاني أنك وحدك فلا تصلح للجلوس فيه؛ وتساقطت عليك ظلاله أرواحا عنيفة تطردك طردا ونالتك من كل ظل ثقلة
5
لا تحتمل كأنما تناجيك أن هذه الأشجار التي تشبه الضلوع ما غرست إلا لقلب وكبد ... وأن هذا البيت هو بيت الحب لا يتكنن
6
إلا عاشقين ... وهدتني قدماي يوما إلى ذلك الندي بعد أن ضربت ساعة في بياض تلك الأرض وسوادها
7
فملت إليه أريح فيه من الإعياء والحر؛ فإذا هو يهبط على نفسي بمعانيه، وإذا أنا من الطرب كبعض شجرة أميل وأصفر وأتغنى، وأدرت عيني فأبصرت في سرارة المكان
8
شجرات يدعونني فقمت إليهن وما هناك أحد غيري وغير الطير؛ فإذا غرس قد تسطح وآخر قد تفنن،
9
وثالث على ساقه كما تقيم الخيمة وتسدل عليها حجابا من هنا وحجابا من هناك، وإذا رائحة من نفح الحب وبقايا التنهد والتشاكي ما يكذبني الحس فيها أبدا فاستخفتني الأشواق، وجعلت قلبي المتلهف ينتفض في علائقه كما ينزو الفارس في السرج والجواد يخب به ويعدو. •••
ثم تكور النهار على الليل والليل على النهار
10
حتى أتت ساعة موعد لها بعد أن تقدمتها حاشية عريضة من المواعيد المكذوبة والمعاذير الملفقة، والكلام الذي لا تحل معانيه في ألفاظه أبدا ... لأنه لغة شفتيها.
وكنا نمشي وقد انتفخ النهار
11
وبدأت الهاجرة ترتجل «معانيها الذهبية» في مدح الظل والماء والنسيم؛ وقلق بنا ظهر الطريق لأمر ما فقالت وأبصرت الندي: نجوز إلى تلك الواحة، وتحفى بها المكان حين جاءته كأن أرواح الأشجار تعرفها، فهب النسيم الراكد يجري، وجعلت الأشجار يصفق بعضها لبعض حتى خيل إلي أن هذه ملكة الطبيعة دخلت إلى قصرها.
ومشيت إلى تلك العريشة بعينها فلما احتوتنا قلت: هذا مجلس السلام
12
في هذا البيت، قالت: وما باعث هذه الكلمة؟ قلت: إن كل شيء فيك ليتكلم من غير أن يضطرب به صوت، ولقد يكون من بعض خواطري وخواطرك ما أسمع منه في قلبي صوتا كصلصلة الدرع حين يقع عليها السيف، وإنك لا تدرين كيف أفهمك؟ قالت: فكيف؟ قلت: إني أفهمك سعادة أخشى منها وأخافها، فإن السعادة إن لم تتحقق لا تضر إلا في الحب؛ فشر أنواع السعادة فيه تلك التي لا تتحقق، قالت: فإذن أنت تخافني؟ قلت: ولكن ذلك ليس معناه أني أخافك بل معناه أني أرجوك.
قالت: وعلى هذا يكون لقولك إني أرجوك معنى آخر؟ قلت: بل معان عدة منها أني ... قالت: وماذا أفهم من أني؟ قلت: أليس فيها ياء المتكلم؟ فقالت: وأي شيء في ياء المتكلم؟ قلت: بربك لا تتعنتي أليس فيها المتكلم نفسه ...؟ فضحكت وقالت: ولكن ما معنى أنك ترجوني؟ قلت: إن النبات لا ينبت إلا حيث يجد عناصر غذائه، وروحي قد وجدت في جمالك كل عناصر الحب فنبتت فيها نبتة جديدة أخاف أن لا تتعهديها فتذوي؛ ومن هذا الخوف أرجوك.
وقلبي يخشى منك على ما فيه منك فإن لكل شخص ظلا، ولكن هواك نقل ظلك إلى قلبي كما تنقله آلة التصوير؛ فإن غضبت وتحولت مزق ظلك هذا القلب ليغضب ويتحول، ومن خوفي هذا أرجوك.
وكل شيء في عالم الموت يموت وينسى فإذا أنت نسيتني فهذا موتي عندك، وكل من يحب الحياة يخاف الموت فمن هذا الخوف أرجوك.
وكلماتي هذه تخاف أن تحمليها محمل الجرأة عليك فهي كذلك من الخوف ترجوك.
قالت: أفليس في الحب إلا الخوف؟ قلت: فيه الرجاء ولكنه هو الخوف بعينه، وللعرب خرافة جميلة في سلحفاة يسمونها «بنت طبق» فيزعمون أنها تبيض تسعا وتسعين بيضة كلها سلاحف وكلها بناتها وكلها من جنسها؛ ثم تبيض بيضة واحدة تنقف عن حية تأكل التسعة والتسعين كلها ... قالت: آه، قلت: وآه فلو كان لي في حبك تسعة وتسعون رجاء مائة إلا واحدا ثم خوف واحد لمحاها كلها، فاسترسلت في إطراقة جميلة، ثم قالت: لقد جئت معي بالنسخة الإنجليزية، من ديوان «عمر الخيام»؛ إن هذا الشاعر - ونظرت إلي باسمة - حبيب إلى قلبي وهو مني كالسعادة إن لم أطمع في نيلها لم أيأس من قربها ولا من الفكر فيها، كل قصيدة من قصائده تنشئ في حبا جديدا، ففي قلبي له أنواع كثيرة من الحب لا أدري ما هي، ولا ما الفرق بين نوع منها ونوع منها، ولكن كلها حب كلها حب، وهو نجم بعيد عني غير أني أراه ساطعا، وأعلم أن في قلبي دما يحن إليه، وفي هذا الدم ينغمس شعاعه الآتي من السماء؛ هو حيث يكون وحيث يكن فهو في قلبي.
قلت: وإذن فلا ينبغي (للخيام) أن يسلط الخوف على رجائه ...؟ فتلألأ ثغرها ضحكا وقالت: «الخيام» إنما هو هذا الكتاب في هذا الجلد المذهب، قلت: فأنا أستنزل روحه إلينا فإن في هذه القوة فلا بد له من أن يجيء.
ثم أطرقت وجعلت ألمح ابتسامها حين أدوم عيني
13
يمنة ويسرة ثم انتبهت ورميتها بنظرة ارتاعت لها روعا ظاهرا وقلت: إن روح الخيام تجيش في منذ الساعة وهو يسألك هل تحبينه؟ قالت: بلى؛ ولكن على سائلنا أن نسأله، فماذا يرى هو في؟ قلت: إن كل ما احتساه من الخمر فكان لذته في الدنيا يراه الآن قد خلق جسما جميلا رائع الجمال فهو يسكر منه، ولكن سكر أهل الجنة في الجنة، قالت: أفلم ينس الخمر بعد؟ قال «الخيام» ... وهل الكتاب الذي في يدك إلا أسطر من شعاع الكئوس، قالت: والحبيبة الذي يذكرها فيه؟ فقال الخيام لو كانت مثلك لما ساغ لي أن أذكر معها الكأس، ولكني كنت أستجمع بها مناظر الجمال فإن الطبيعة تتزين لعين الشاعر إذا رأت معه امرأة جميلة كأنها تغار، قالت: إذن كان يريد الطبيعة لا الحبيبة، قال الخيام: بل أردت أن يكون موضع تأملي جميلا بالجمال وحبيبا بالحب، وتوخيت أن تكون فيه كل عناصر الهوى، أن المسجد لا يبنى في أي الأمكنة، بل يختار له المكان الذي فيه عنصر الصلاح والمنفعة، والمسجد نبات مغروس في تربة خاصة تجمع عناصر الصلاة والتسبيح والتهليل، والخيام نبات مغروس كذلك ولكن في الورود والرياحين والألحاظ وشعاع الخمر.
قالت: وهل يتقبل الخيام مني إذا سألته أبياتا جديدة، قال الخيام: لقد جئت بي إلى الأرض فإن لم تسوغيني طباع أهل الأرض في الحب والهوى والحنين لا أستطيع شيئا، وإن كان في وسعي أن أجعل كل شجرة في هذا المكان تنشد قصيدة خضراء بلغتها لا بلغتك.
قالت: بل أريد لغتنا فإني لا أفهم منطق الشجر.
قال الخيام: فهاتي الديوان، ثم جعل يزمزم زمزمة العجم
14
وقلب غلاف الديوان وكتب:
صب كأسا على الثرى فتراه
عاد قلبا يطير فيه احتراق
يتلوى بها ويهتز منها
إنه كان أكبدا تشتاق
ويح من أسكرت إذا تسكر الكأ
س ويا ويحهم إذا ما أفاقوا
تنسج النور والشعاع خيوطا
كل خيط للهم منه وثاق
وتريني السماء في سعة الصد
ر وصدري بشمسها
15
آفاق
أحتسيها كالفجر يعقب ليلا
أو كليل للفجر فيه انبثاق
هاتها فهي في فمي قبلات
واصطدام الكؤس منها عناق
وقرأت الأبيات وأنا أترجرج كأن في الكرسي زلزلة أو كأن في روحا يضطرب ويتقلقل؛ فما انتهيت إلى «القبلات والعناق» حتى انقلب الكرسي بي فاصطدمت بها ولم أقع ولكن ... آه ولكن وقع فمي على خدها.
وجعلنا (الخيام) كأسين في يديه فقرع كأسا بكأس ليسمع منهما في صوت القبلة رنة مسكرة ...
الرسالة الثالثة عشرة
تلك ساعة لا تطلع علي ذكراها إلا طلوع الفجر في نور وألوان ونسيم وندى؛ فإذا أطرقت فيها وتمثلتها رأيت ذلك الفجر يمتد ويضطرم، وإذا الشمس قد بزغت منه تطوح بشعاعها من بعيد تحية للأرض وأهلها؛ ثم أمعن فيها فترتفع وينساح
1
ضوءها، وإذا بتلك الفاتنة قد طلعت لي من الشمس؛ وإذا نحن على تلك الطريق، وإذا المكان والزمان والسحر والجمال؛ وإذا نور وجهها قد نبع فيه الضوء الأحمر من لون الحياة؛ وإذا هي واقفة وعلى خدها القبلة الأولى.
لمست روحي روحها؛ ذلك هو معنى القبلة، ولكنها وقفت ذابلة يعرف فيها الحزن، وكان في صدرها التنهد وكان في لحظها معناه؛ أما لون التنهد فبقي على خدها.
يالله ما كانت إلا تمثالا يريني منها صورة الاطمئنان الخائف، وما كنت بإزائها إلا تمثالا آخر يريها مني صورة البراءة المتهمة، وكنت أقول لها منذ هنيهة إن الحب هو الخوف؛ فعلمت أن من الخوف أشياء لا شيئا واحدا كلها من نكد الحب: الخوف نفسه ثم رجاء ذهابه ثم خشية قدومه ثم خوف ليس فيك ولكنه في النفس التي تحبها؛ والإنسان حين يرجو الأقدار يشعر بها بعيدة عنه، ولكنه حين يخافها يراها قد خالطته وكأنما تعتلج في جنبيه وتعركه بكل أثقالها، ليس ما يخيفنا هو ما نخشاه في الحقيقة، إنما هو قوة خفية في الغيب تعتري القلب فتتناول منفذ الحياة منه فترسل فيه ما ترسل من الآلام الحكيمة كما ترى اللافظة من أنثى الطير حين تزق فرخها وعنقه المرن الغض ينتفض في منقارها؛ وهو يكاد يختنق من طريقة إطعامه الحياة؛ وكذلك نتناول من السماء حكمة الألم. •••
ولما تصرمت تلك الوهلة
2
التي اعترتها مزقت بشفتي ذلك الصمت الذي كان يغرز أنفاسي في قلبي كأن في كل نفس إبرة نافذة وأردت الكلام فجعلت أجمجم في عذري،
3
وأرسل ما يحضرني من نفس الشفتين المتهمتين بالذنب ... وهي غافلة أو متغافلة لا تأذن لكلامي أن يمر بها، ثم نظرت فإذا في أجفانها دمعة تترقرق وتهم أن تنحدر، وكأنما لم أكن عرفت ظرفها ومزاحها وميلها إلى النادرة، وأنه لا يسري الهم شيء عندها كالكلمة الشاعرة، وأن الجبل من جبال غيظها وغضبها تنسفه جملة مفرقعة من الضحك، وأسعدني طبعي الجريء الذي أنكرته من يومئذ فلمع لعيني معنى جميل في دمعتها فأمسكت يدها وقلت: إن عذري إليك في اضطراب الكرسي بي وما تعمدت نية، وهذه يدي لك بأن حكمك في نافذ إذا لم تنشر الصحف اليوم أو غدا: «حدثت زلزلة خفيفة لم تلحق ضررا بأحد ...».
فتدافعت تتبسم وغمر وجهها معنى رقيق كالنور الذي يسطع من خلال سحابة كانت مجتمعة ثم تسايرت تجر سوادها، واستتبعت فقلت: ذلك عهدي وأنا مرتهن بكلامي مأخوذ بأقوالي فهذا توقيعي عليها، وأسرعت فقبلت يدها الجميلة، وحلت هذه الجرأة عقدة صمتها فقالت: والعذر ذنب آخر؟ قلت: فإذا كان ذنبا فإن منه عذرا ثانيا ... ولكنها أسرعت فاختلجت يدها وما تتماسك ضحكا. •••
القبلة الأولى هي تلك النظرات الطويلة الحائرة في أعين المحبين وقد ضاقت بالصمت والإبهام وكثرة ما تتردد بين معنى يسأل ومعنى يجيب؛ فانحدرت إلى الشفاه لتخلق حركة وتتمثل صوتا وتستعلن للحب بكل معانيها، فالعواطف المشبوبة والنظرات المتكلمة والابتسامات المترجمة تأخذ كلها في تأليف تاريخ الحب زمنا يقصر أو يطول، ومتى بدأت في تدوين هذا التاريخ كانت الكلمة الأولى هي القبلة الأولى.
واللغات تعجز أحيانا بما نحملها فلا تحسن التعبير إذا كانت العاطفة قوية مهتاجة وقد نشبت في عاطفة أخرى مثلها، فإذا ضاقت الروح بهذا العي عمدت إلى لغتها الأولى فأرسلت العاطفة لونا في الوجه إذا كانت حياء أو خوفا؛ ورعدة في الجسم إذا كانت فزعا أو محقا؛ ودمعا في العين إن كانت حزنا أو قهرا؛ وضحكا وابتساما إن كانت إعجابا وطربا، فإذا كانت العاطفة وجدا ولوعة وقد استفاضت بين روحين؛ دنت إحداهما من الأخرى فمستها بشفتيها فيكون هذا اللمس بأداة النطق هو أبلغ النطق.
إنما تحية الفكر رد كلمة بكلمة؛ وتحية النفس هز يد بيد؛ وتحية القلب لمس شفة بشفة.
الرسالة الرابعة عشرة
كم أسأل الدر عن معناك باسمة
والورد عن لفظة قد أطبقت فاك
لا الدر يدري ولا في الورد لي خبر
أروية عن شفتيك أو ثناياك
يا نجمة أنا في أفلاكها قمر
من جذبها لي قد أضللت أفلاكي
النار بالنار لا تطفا إذا اتصلت
فكيف أصنع في قلبي لينساك؟
آه أيها العزيز إن صدري لينشق لهذه الأبيات، وإن لها لغمزا على فؤادي لا يسكن، وإني لأرتمض بها كأن في كل بيت منها نوعا من أنواع الحمى، هي ألحاظها أول اللقاء بيني وبينها ساعة كانت تنتزع ألفاظها من قلبي فألتوي عليه لأنتزعه من ألفاظها؛ وكنت ساهيا عن القدر وعين القدر ذاكية علي في تلك الساعة ولا أدري.
لقيتها وما أريد الهوى ولا تعمده قلبي ولا أحسب أن فيها أمورا ستئول مآلها؛
1
وكنت أظن أن المستحيل قسمان: ما يستحيل وقوعه فلا تفضي إليه وما يمكن وقوعه فتهمله فلا يفضي إليك، ولكن حين توجد المعجزة تبطل الحيلة، ومتى استطردك
2
القدر الذي لا مفر منه أقبل بك على ما كنت منه تفر.
إن لهذا العقل جمحات ترده أحيانا إلى طبيعته الأولى من الطفولة التي غشيتها الأيام والليالي والأفكار والحواس فيرجع الرجل طفلا صغيرا لا يدري كيف يميز؛ ولقد يكون وما يشبه رأيه رأي ولا يتعلق بصوابه صواب، وإن عقله لكالنجم من أي أقطاره اقتحمته عيناك رأيته نارا وشعاعا، غير أنه متى بلغ تلك السورة فجمح عقله أسرعت منه الفيأة
3
إلى حالته الأولى فانتبهت الطفولة فيه فعاد كالطفل، فإذا فجأه الحب في عين امرأة رأيته لا يبالي إلا ما عرف في عهده الأول من تحني المرأة عليه وانعطافها له، ورجع إلى «عصره النسائي» فترى الدنيا بما وسعت لا تعدل في عينه الصدر الجميل الذي يترامى عليه؛ وتموت المطامع فيه وترجع كلها إلى محصول واحد من ذلك الفم الذي يحبه، وتعود لغة الحياة عنده كلغتها الأولى في إشارة أو كلمة أو ابتسامة أو قبلة.
إن الطفولة تكبر فينا ولا ندري؛ ودع الناس يسمون حماقة الإنسان بما شاءوا فهي هي انتباه الطفولة فيه ومحاجزتها في ساعة من الساعات التي يجمح فيها العقل بين ذات نفسه وبين صفات نفسه. •••
لا يريد الهم منك أكثر من أن تريده فيأتي؛ وحتى لو زويت جلده وجهك
4
حكاية وتمثيلا لطلع مما بين عينيك فهو مقيم في أعصاب كل إنسان؛ لا يبرح الإنسان يؤدي إليه شيئا ويحمل منه شيئا يؤديه، بل هو نصف مكروبات الدم الإنساني ... ولذلك قالوا: إن القلب المبتهج يقتل من المكروبات أكثر مما يقتل أقوى المطهرات، وهم الحب هم على حدة؛ لأنه لا يكون فيك بل يتصل بك من أعصاب أخرى ودم آخر، وما أحسب أن ألحاظ المرأة الجميلة يكون فيها ذلك الفتور وذلك التكسر إلا بما تحمل من الأشعة المسمومة؛ تلك الأشعة التي متى وقعت في الدم الذي يقبلها ويتأثر لها طبعت في كل ذرة منه صورة من صورة تلك المرأة.
هذا هم الحب ولكن مجيئه هم آخر؛ لأنه يتهكم بالناس فلا يأتيهم بكنهه وحقيقته إلا في أسلوب الحظ والسعادة ثم لا يأتي إلا اتفاقا ومصادفة في ساعة ترتجف كأنها وقعت إلى هذا الزمن خطأ، أو كأنها تحس بما فيها من الجور والقتل، أو كأنها خلقت مرتجفة متزلزلة ليتأتى لها أن تزحزح الطبيعة الإنسانية وتطيش بها حتى في جبابرة العقول الذين رسخت طباعهم بجبال من الأخلاق الراسية تمنعها أن تميد أو تتزحزح، السرور والحب كلاهما يأتي اتفاقا؛ ولعلك لا تجد في كل ما عرفوا به السعادة أصح ولا أوفى من أن تقول: إن السعادة هي نفس هذا الاتفاق حين يتفق السرور أو الحب. •••
والجناح الكبير إنما خلق كبيرا ليأكل الأجنحة الصغيرة، ولما لقيتها كانت ألحاظها تقول لي بفصاحة أوضح من نور الصبح: أنت فريستي؛ وكانت ترفرف علي فأتنسم منها هواء يذهلني كما تذهل العصافير الصغيرة للجارح المنقض عليها، وتحولت أسرع مما أرادت بي وكنت ذا عزيمة قوية مضيئة كالنهار الذي يتغذى من دم الشمس؛ فما أسرع ما فتح هذا القمر باب سمائه وطلع علي من سحره بمثل ما يطلع قمر الأرض على الأرض فيبدلها من نهارها ذلك الصبح الرطب المريض الذي تتخايل فيه الظلال والنسمات حتى يأذن الله فتمحى آية الليل الأسود وتطوى آية القمر الأبيض.
كنت كذلك البطل الذي أكدى مرة في قتال خصمه ورجع كما يرجع الجبان فيعيروه فقال: والله ما كنت جبانا ولكني زاولت أمرا مؤجلا،
5
وتالله ما كنت ضعيفا ولكني دفعت قدرا معجلا لا يدفع. •••
وحاولت أيها العزيز أن أكتب إليك وأنا في هذا الموت فصنفت كلمات ثم خشيت أن أرتاد أحدا لسري فحفظته فيها وتركتها بين أوراقي؛ وكان قلبي يحدثني أنه يستروح من هذه الصحيفة رائحة صفحات كثيرة سأكتبها؛ وقلت: إنه حب أبيض لا ينبغي إلا أن يكون منسيا أو سرا مضمرا أو على الأقل شيئا غير ظاهر، أما الآن فإني مرسل إليك ما كتبت؛ ولتجدن هذه الأسطر وما فيها إلا قلب يتمزق ونفس مضعضعة وكأنما هي من بكاء أعصابي المتألمة، وإذا رأيت بلدا سال بها السيل أو مدينة جاش بها البحر فاعلم أن لهما ثالثا في معنى الخراب وهو العاشق الذي يغمره الدمع، وهاهي الرسالة:
أكتب إليك وأنا في حال هي من شدة الوضوح قد صارت في شدة الغموض وأية حال تظنها؟ سيذهب بك الظن إلى الموت فهو أخفى ما ظهر من أسرار الإنسانية، ولكن هناك موتا لا ينقل من الدنيا إلى الآخرة، بل من نصف الدنيا إلى نصفها الآخر ... وهو في أسرار الإنسانية عكس ذلك؛ لأنه أظهر ما خفي، وهو الحب.
علامة هذا الموت الصغير أن يقع كل شيء منك في غير موقعه حتى لو جاءك اليقين لانقلب شكا، ولو لمست الحقيقة لاستحالت شبهة، ثم تجد في أسباب الحياة ما يجد المريض في أصناف الطعام؛ لأن العلة المستقرة فيه تجعل في كل شيء له علة منها، وترى كل ما أنت ناظره يوسوس في نفسك بلغة ما ولمعنى ما حتى لا يترامى أمرك إلا إلى الوساوس والأباطيل كأن جماعة من الشياطين ارتجت في صدرك فلا يهدأ أبدا، وتحسب الأرض قد نبت بك وثقلت عليها كأنها لا تستطيع أن تحملك أنت واعتقادك الجديد ... وما اعتقادك هذا إلا أنك ترى الناس جميعا قد تغيروا فلا تصيب بينهم موضعا تكون نفسك فيه هي نفسك إلا ذلك الموضع الذي يضم من تهواها؛ أما سائر الأمكنة وأما سائر الناس فأنت منهم في رأي نفسك كالمصحف في بيت الزنديق الملحد، يظلم في كل شيء في الوضع وفي الاستعمال وفي الاعتقاد وحتى في النظر إليه ... وتستحيل فيهم بشخصك الواحد إلى اثنين معهما خيال شخص ثالث ... فلا ترى إلا أن نصفك يتحزن للنصف الآخر في كل ما تراه، وهذا النصف الآخر يكون في بلائه كالطائر الذي وقع من الجو بسهم فلما أحس الأرض جعل يهم ويدارك الضرب بجناحيه ويكد ويعنف على نفسه، ولكنه لا يطير؛ وكلما أراد أن يثب إلى السماء وجد آلتها فيه مختلة ترجف وتضطرب، ولكنها لا تعلو؛ وقصر جناحه فلصق بالأرض وجاءه الموت من كل مكان وما هو بميت.
تبغض العيش وتبغض الحياة وتبغض الناس؛ تبغض ثلاث مرات؛ لأنك أحببت مرة واحدة، وهذا كله إذا كانت من تحبها لا تدري بهواك أو كانت تدري ولكنها لا تستطيع أو كانت تستطيع ولكن ... آه يا عزيزي لا بد في لغة الحب من «لكن» إذا كانت المرأة تعرف لغة الحب.
يا ويلتا لقد انتبهت إلى أني أخاطبك كأنك أنت المبتلى ... فلعلك عاذري فإن هذه طبيعة النفس الحزينة تريد أن تكون مصائبها في سواها ولو على ورقة ... لم يبق مني إلا جزء قليل من شخصيتي القديمة أما أكثرها فضاع ضياعه أو أصبحت لا أملكه، ولكن هذا الجزء الباقي يفسح لي مذاهب النفس فأراني كأنما أستقبل السموات وأحويها في صدري، وأرى بعيني مجموعي الإنساني كله واضحا يتسامى، وأشعر أني عقل من هذه العقول التي تشرف على الدنيا وتعمل في نظامها.
ولا أثقل على نفسي من الناس فإن ظلالهم تهبط على قلبي المتألم بأشباح ممسوخة وأراهم على وتيرة واحدة في ثقل الروح وسواد الظل؛ ولا ذنب لهم غير أن وليا من أصفياء الله خرج يتوضأ يوما وقد أقبل الناس على وضوئهم فكشف الله عنه حجاب الحيوانية فنظر؛ فإذا لكل رجل وجه ولكل وجه سحنة حيوان ولكل حيوان معنى، وإذا شهوات أنفسهم قد مسختهم مسخا وفاءت ظلالها على وجوههم بجلود الحمير والبغال والقردة والخنازير وما دب ودرج، فاللهم غواثك لأهل النفوس.
6
وهذا الحب حاسة في الروح فهو ولا ريب يستثقل كل ما ينافره من الطبائع، طبائع هؤلاء الذين يترفقون للعيش
7
بأيديهم وأرجلهم وأبدانهم وقلوبهم وأنفسهم فيثيرون في كل سبيل غبار الحيوانية على كل قلب روحاني فلا يكونون عليه إلا ألما ومضضا وشدة من الشدة؛ وكثيرا ما يخيل إلي فيمن حولي ممن أخالطهم اضطرارا أنهم ثعالب أطلع عليهم برائحة الأسد الضاري.
أن عواطفي تغلي وتستفز في مثل المرجل من إرادتي العنيفة المصبوبة من فولاذ الكبرياء، ولست أخشى في هذا الحب إلا انفجار هذه الإرادة التي هي وعاء النفس فإنها إن تتفجر ذهبت قطعا مبعثرة على كل كسر منها كسر مني، فهل تنفجر يوما؟
ما أشد هذه الأيام الحادة، إنها كسلم نصبت لي درجاتها من سيوف مسنونة؛ في كل يوم جرح ينفجر بالدم، ولكل يوم عذاب وتقطيع في الجرح نفسه؛ لا راحة في الصعود ولا في الوقوف ولا في النزول، وكل يوم يقول لي حبها تعلق بيديك الممزعتين على حد هذا السيف، وضع قدميك الممزقتين على حد ذاك السيف؛ واصعد.
الرسالة الخامسة عشرة
17 فبراير سنة 1924
إن كل ما سطرت في هذه الرسائل قد انعقد همه وسواده فكان عجاجة ثائرة من حرب الهوى؛ ليس تحتها في حومة القلب إلا ألم كضربة سيف أو طعنة رمح أو كية برصاصة ملتهبة حمراء، احتلت نفسي
1
عما كانت فيه من الغيظ والموجدة ودافعتها وغالبتها حتى وقفت بها على صراط النسيان، ولكني في ذلك إنما كنت كناقش الشوكة بالشوكة
2
يعالج وخزة واحدة بوخزات كثيرة، ويكشف عن حمة العقرب النباتية بحمة مثلها؛ وما زلت أنكت بسن هذا القلم في صميم هذا القلب حتى فاض في صفحات هذا الكتاب.
قبضة من هذه الأوراق جعلت بيني وبين تلك الحبيبة ما تجعل قبضة من التراب بين الحي والميت؛ إذ تنثر يد الموت من ذراتها عوالم أبدية بينك وبين من تحب أو من كنت تحب ...
حسوت كأس الحب فدارت في دمي وانحدرت إلى قلبي وصعدت إلى رأسي، وهذه الرسائل هي الحقيقة التي كانت في خمرها قطرت من القلم كلاما ومعاني، ومنذ اليوم سأضع العقل بيني وبين تلك الكأس فلا أراها إلا جنونا ملونا ومرضا مزخرفا، ثم لا أراها إلا حلما خمريا زاهيا إن حسن بالنائم أن يستغرق فيه لا يحسن بالمتيقظ أن يلم به؛ ثم لا أعرفها إلا شيئا يجب اطراحه إن لم تدعه؛ لأنه إثم فلتدعه؛ لأنه ذم.
اضطرمت النار فأكل بعضها بعضا، وهذه الرسائل هي صوت الماء الذي صب عليها ليطفئها فزفرت به الزفرة الأخيرة؛ ومات الهوى لما أصيبت مقاتله. •••
تلك مسألة امتحنتني الحياة بها فما كان أجهلني؛ إذ ركبت فيها الشبهة أصرفها بعنان الحيرة فمضت تتخبط بي، إن إعجابي المجنون أخرج لي من الحقيقة الصغيرة على الأرض خيالا في قدر السماء يتلألأ في عين الشمس على أجنحة الملائكة، وكذلك الجهل في الإنسان يخرج له من كل مسألة سهلة الحل مسألة لا تحل أبدا فلا يبرح الفكر يضرب فيها مقبلا ومدبرا، ولا ينفذ إليها إلا من الجهات المستحيلة التي لا يخرج الصواب لا من واحدة منها ولا منها كلها.
والخطأ ههنا من لا شيء وليكن اسمه بعد ذلك ما يسمى، سمه مسألة فارغة أو مشكلة دقيقة أو رذيلة جميلة أو حبا أو امرأة ... أو ما شئت؛ هو على كل ذلك خطأ من لا شيء. •••
إن مس استقلال دولة من الدول العظمى قد يكون أحيانا أيسر وأهون من مس استقلال نفس من النفوس الكبيرة.
وفي الدم الكريم قانون أزلي يرثه المرء من سلسلة طويلة من أجداد كرام؛ فإذا انتهك هذا القانون الإلهي وخاضت في ذلك الدم مهانة أو مخزاة، انتفض أولئك الأموات العظماء فيه واضطربوا كأمواج البحر في البحر، وتحولت قطرات الدم العريق إلى لمح باصر
3
كأن كل قطرة منه تفور على حد سيف مجرد من غمده؛ وامتلأت عروق الحي أصواتا داوية كصلصلة السلاح في المعركة؛ وترى ذلك الدم الكريم يترقرق ثم يتعقد ثم يلتف على الجرثومة التي دنسته فينفجر بها انفجارة البركان، لا يدع الصخر صخرا ولا الحديد حديدا ولا التراب ترابا، بل يذيبها كلها في حميم
4
واحد يجمع صورها النافعة المختلفة في صورة بغيضة مهلكة تدمر كل شيء.
كذلك حكم قانون الدم؛ وكذلك حكم هذا القانون فقضى في دمي ودمها.
أيها الجميل الذي يحسب كل شيء موطئ قدميه، إن ذل لك الحي بدموعه لم يذل لك الأموات العظماء الذين استودعوا لآلئ كبريائهم الكريمة في الأصداف من عظامه تحت الأمواج الجياشة من دمه الحر، ومن لم تعزه نفسه فلا يصلح إلا أن يكون رجلا لا يصلح. •••
والآن سأدع صمتي يتمم كلامي، وإنه لصمت قاتم الأعماق أسود النواحي؛ لأنه مملوء بفكرة التوبيخ، مظلم شديد الحلك؛ لأن شمس الحب لا تسطع فيه، مبهم مستغلق؛ لأنه صورة الظن السيئ، موحش مقفر؛ لأنه رسم قلب حزين.
خاتمة الكتاب
اجتمعت في هذه الرسائل عواطف الحب تتساوق معانيها دون حوادثها على نسق الشعر والفكرة لا على سرد التاريخ والرواية؛ إذ لم يكن الغرض منها حكاية نفسين، بل صفة نفس صريحة لنفس معقدة ... فلما ضممت ألفتها وهيأتها للطبع أدرت الرأي فيما أرضاه منها وما لا أرضاه، وما زلت بها على ما يختلط فيها من الحب والبغض حتى خرجت كما يخرج الماء الصافي من الماء الكدر، وجاءت كما ترى نقية بيضاء ليلها كنهارها. •••
إن ساعة من ساعات هذا الضعف الإنساني الذي نسميه «الحب» تنشئ للقلب تاريخا طويلا من العذاب إن لم تكن آلامه هي لذاته بعينها فهي أسباب لذاته؛ ومن ثم يشتبه الأمر على المحبين إذا استفزتهم فورة الغضب ممن أحبوا، فلا تجد في البغضاء عندهم أبغض من طريقة إظهارها حتى إن نيران قلوبهم لتخلق منها الشياطين؛ ولقد كان في هذه الرسائل كلام يدوي كهزيز
1
السحابة الحمراء تنطلق من الرصاص في معركة حامية لتمطر مطر الموت والألم والوجع ، فلم أثبت منه إلا كما ترى من ضبابة البخار فوق المرجل الذي يغلي، ومن ألوان البرق تلمح من صواعقها لمحا.
ألا كم في هذا الحب من العجائب المتناقضة حتى إن فضيلة الصبر في العاشق هي نفسها رذيلة الغضب فيه، كلما طال صبره طال غضبه؛ وتراه يبغض بأقوى ما في نفسه فلا يكون ذلك إلا إخفاء لأضعف ما في قلبه، وإذا ترامى في أطراف الأرض لينأى عن حبيبه رأيته من أي عطفيه التفت
2
لا يجد إلا خيال حبيبه؛ ومهما تطرح قلبه في مطارح السلوان فلن يكون إلا كعقرب الساعة تعمل كل قواها في إبعاده عن «الثانية عشرة» ليرجع دائما بنفس هذه القوى إلى الثانية عشرة نفسها.
والعاشق هو وحده المخلوق الغريب الذي ترى الأحلام في عينيه وهو يقظان يعقل ويعي، فليست الحبيبة في عينه امرأة كغيرها من الناس، وإنما تخرجها له جملة من الصفات الغريبة التي فيها لتقابل جملة أخرى من الصفات الغريبة التي فيه؛ ومتى كان الأمر غريبا نادرا من طرفيه في النظر والاعتقاد لم يبق فيه موضع يمكن الحكم عليه بأنه من الأشياء المألوفة التي جرت بها العادة، وتلك هي معضلة الحب التي جعلت من بعض النساء الضعيفات هزلا أروع من الجد، ومن بعض الرجال الأقوياء جدا أسخف من الهزل؛ معضلة لا تحل أبدا ما دامت بين الحبيب ومحبه؛ إذ لا تجيء ولا تكون ولا تستمر إلا كما تجيء وتكون وتستمر؛ وإنما مثلها كذلك الانعكاس الذي لا يستوي له بحال من الأحوال أن يظهر الكتابة على المرآة إلا مقلوبة أبدا. •••
كل معنى إنساني في الحبيب يكون دائما وراءه معنى غير إنساني في وهم المحب؛ فالمعشوق مجتمع من إنسانيتين متباينتين، وهذا هو كل السر في انفراده عند من يهواه ما دام يهواه.
وأظهرني صديقي على رسم صاحبته التي يصفها في هذه الرسائل أوصافا كثغور الحسان لا تفتر إلا عن لؤلؤ؛ فما رأيتها في الجمال خارجة من الجنة ولا سابحة مع الملائكة، إن هي إلا واحدة من خمسين من كل مئة في النساء،
3
ولكني أشهد أن عينيها كأنهما غير إنسانيتين، لو كانتا في أسد ضار لارتمى عليه العاشق من تلقاء نفسه ليفترسه، فيهما بينة صريحة على أن هذه المرأة الشاذة إن أحبت لم يعرف أحد غيرها كيف تظهر حبها؛ فربما آنست منها النفرة أو الإعراض أو البغض ملالة فما فوقها، ومع ذلك يكون هذا هو حبها الذي ابتليت بكتمانه أكثر مما ابتليت به.
وإذا كانت القدرة الأزلية تصطفي من نوابغ العقل والشعور من تكاشفهم ببعض أسرار التعبير في ملكوت السموات والأرض؛ جاعلة وسيلتها إلى ذلك ملكا أو شيطانا أو امرأة كأحدهما ... فتلك التي رأيتها امرأة كأحدهما، ولكن لا تدعك أسرار عينيها تعرف أيهما هي؟ ... •••
ليس ببعيد أن تكون هذه القلوب الإنسانية ينظر بعضها في بعض أحيانا على شعاع الروح كما يتراءى الوجه للوجه في سراج العين، ومن ثم يكون اختلاف كل عاشق مع الناس أجمعين في تقدير الجمال الذي يعشقه واعتباره؛ إذ لا يقدر بعينه ولا بعقله ولكن بقلبه، ولقد حاورت الصديق يوما في جمال صاحبته تلك فقال: إني أرى ما لا ترى، فإن قلبي ينظر في قلبها كما تنظر أنت في وجهها؛ ومتى جادلت محبا في هواه صارت الحبيبة في جدالكما كالفلسفة تراها عند أهلها إيضاحا لشيء معقد، فإذا تناولها غير أهلها انقلبت تعقيدا لشيء واضح ... وإن المرأة الجميلة في رأيي هي تلك التي أرفع روحي إليها؛ إذ لست أفهم من معنى الحب إلا أن الروح اهتدت إلى شيء من سر الإنسانية في إنسان جميل قد استطاع بجمالة أن يهديها إلى هذا السر.
ولما يبس ما بينه وبينها ولج في غضبه منها سألته رأيه في «إيضاح المعقد ...»
4
فقال أيها الرجل! إذا مدحت امرأة جميلة فلا تقل: ما أجملها، بل قل: ما أجمل الشر. •••
آه من الدنيا ومن
قدر على الدنيا حكم
البغض شيء مؤلم
والحب شيء كالألم
تنبيه
هذا الذي أصدرناه من «رسائل الأحزان» إنما هو نصف كتاب الحب، وبقي نصفه الآخر الذي يحتوي رسائله إليها ورسائلها إليه، وسنخرجه إن شاء الله كتابا على حدة إن أذنت هي في نشر رسائلها، فإن لم تأذن طويناه وبقي النهار مشرقا على نصف الأرض والليل مظلما على نصفها الثاني ...
صفحة غير معروفة