إن مثل هذه النظرات، يدلنا على لون " الفكر " الذي كان رائجًا حول الحب في المشرق قبل أبن حزم، ويبين إلى أي مدى التقت مفهوماته عن طريق التجربة، بما وقر في نفسه عن طريق الثقافة. ولكن المشرق قبل أبن حزم عرف آراء ونظرات أخرى في الحب، أطلع عليها أبن حزم من بعد، وكان أهمها ما قرأه في كتاب الزهرة (١) لأبي بكر محمد بن داود الأصبهاني (- ٢٩٧/ ٩١٠) وهو ظاهري أيضًا، فقد جاء في ذلك الكتاب: " وزعم بعض المتفلسفين أن الله - جل ثناؤه - خلق كل روح مدورة الشكل على هيئة الكرة، ثم قطعها أيضًا، فجعل في كل جسد نصفًا، وكل جسد لقي الجسد الذي فيه النصف الذي قطع من النصف الذي معه، كان بينهما عشق للمناسبة القديمة، وتتفاوت أحوال الناس في ذلك على حسب رقة طبائعهم " (٢) . وقد أطلع أبن حزم على هذا القول ونسبه إلى أبن داود ولكنه أورده على النحو الآتي: " الأرواح أكر مقسومة، لكن على سبيل مناسبة قواها في مقر عالمها العلوي، ومجاورتها في هيئة تركيبها ".
وبين النصين اختلاف جوهري، ولكن هذا يجب ألا يستوقفنا أيضًا، إنما الذي يستوقفنا هو فكرة " الأكر " التي انقسمت: من أين تسربت هذه الفكرة إلى أبن داود إن هذه الفكرة تقوي الحجة بأن كتاب " حوار المأدبة " كان معروفًا على نحو ما في القرن الثالث، لأنه -
_________
(١) دخل كتاب الزهرة إلى الأندلس - في أوائل القرن الرابع على أكثر تقدير - وقد عارضه أحمد بن فرج الجياني فألف علة نسقه كتاب " الحدائق " للحكم المستنصر واقتصر فيه على أشعار الأندلسيين، وكانت وفاة أبن فرج في سجن المستنصر (لعله إذن توفي قبل سنة ٣٦٦) . وكان أبن حزم معجبا بالكتابين، وهو يقول في كتاب ابن فرج " أحسن الاختيار فيه ما شاء، وأجاد فيه فبلغ الغاية فأتى الكتاب فردا في معناه " (الجذوة: ٩٧ وأنظر ترجمة ابن فرج في المغرب ٢: ٥٦ والمطمح: ٧٩ ومعجم الأدباء ٤: ٢٣٦ والمطرب: ٤ وفي الجذوة والحلة السيراء نقول كثيرة عن الحدائق) .
(٢) النصف الأول من كتاب الزهرة: (تحقيق لويس نيكل ومساعدة إبراهيم طوقان، بيروت ١٩٣٢) ص: ١٥.
1 / 28