واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الطبيعة هي خادمة للنفس ومقدمة لها، وأن النفس خادمة للعقل ومقدمة له، وأن العقل خادم للناموس ومقدمة له؛ وذلك أن الطبيعة إذا أصلت خلقا وركزته في الجبلة جاءت النفس بالاختيار فأظهرته وبينته، ثم جاء العقل بالفكر والروية فتممه وكمله ثم جاء الناموس بالأمر والنهي فسواه وقومه وعدله.
وذلك أنه متى ظهرت من الطبيعة هذه الشهوات المركوزة في الجبلة، وكانت على ما ينبغي ، في الوقت الذي ينبغي، من أجل ما ينبغي؛ سميت خيرا. ومتى كانت بخلافه سميت شرا، ومتى فعل ذلك باختياره وإرادته على ما ينبغي بمقدار ما ينبغي من أجل ما ينبغي؛ كان صاحبه محمودا، ومتى كان بخلافه كان مذموما، ومتى كان اختياره وإرادته بفكر وروية على ما وصفنا كان صاحبه حكيما فيلسوفا فاضلا، ومتى كان بخلافه سمي سفيها جاهلا رذلا.
ومتى كان فعله وإرادته واختياره وفكره ورويته مأمورا بها ومنهيا عنها وفعل ما ينبغي كما ينبغي على ما ينبغي كان صاحبه مثابا بها ومجازى عليها، ومتى كان بخلاف ما ذكرناه كان مأخوذا بها ومعاقبا عليها، فقد تبين بما ذكرنا أن الشهوات المركوزة في الجبلة والأخلاق المنتشئة منها والأفعال التابعة لها وجميع المتصرفات من أجلها هي لأن تبقى النفوس على أفضل حالاتها، ويبلغ كل نوع منها إلى أقصى مدى غاياتها.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الباري - جل ثناؤه - لما رتب النفوس مراتبها كمراتب الأعداد المفردات على ما اقتضت حكمته؛ جعل أولها متصلا بآخرها، وآخرها متصلا بأولها، بوسائطها المرتبة بينهما؛ لترتقي بها ما دونها إلى المرتبة التي فوقها؛ ليبلغها إلى مدى غاياتها، وتمام نهاياتها، وذلك أنه رتب النفوس النباتية تحت الحيوانية وجعلها خادمة لها ورتب الحيوانية تحت الناطقة الإنسانية وجعلها خادمة لها، ورتب الناطقة الإنسانية تحت العاقلة الحكمية وجعلها خادمة لها، ورتب العاقلة تحت الناموسية وجعلها خادمة لها، ورتب الناموسية تحت الملكية وجعلها خادمة لها.
فأية نفس منها انقادت لرئيسها وامتثلت أمره في سياستها؛ نقلت إلى مرتبة رئيسها، وصارت مثلها في الفعل، والمثال في ذلك من المشاهد أن أي تلميذ أو متعلم في علم أو صناعة امتثل أمر أستاذه وانقاد لمعلمه ودام عليه، فإنه سيصير يوما ما إلى مرتبة أستاذه ويصير مثل معلمه؛ لا يخفى هذا على كل عاقل متأمل مثل ما وصفنا، فعلى هذا المثال يكون تنقل النفوس في مراتبها.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن أحق النفوس الحيوانية أن تنقل إلى رتبة الإنسانية التي هي الخادمة للإنسان، المستأنسة به، المنقادة لأمره، المتعوبة في طاعته، الشقية في خدمته، وخاصة المذبوحة منها في القرابين، وعلى هذا المثال والقياس حكم النفوس الإنسانية؛ فإن أحقها أن تنتقل إلى رتبة الملائكة التي هي الخادمة في أوامر الناموس ونواهيه، المنقادة لأحكامه، المتعوبة في حفظ أركانه، كما سنبين بعد هذا الفصل.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الناس أصناف وطبقات في متصرفاتهم في أمور الدنيا لا يحصي عددها إلا الله - جل ثناؤه - كما ذكر بقوله تعالى: @QUR03 وقد خلقكم أطوارا، ولكن يجمعهم كلهم هذه السبعة الأقسام؛ وذلك أن منهم أرباب الصنائع والحرف والأعمال، ومنهم أرباب التجارات والمعاملات والأموال، ومنهم أرباب البنايات والعمارات والأملاك، ومنهم الملوك والسلاطين والأجناد وأرباب السياسات، ومنهم المتصرفون والخدامون والمتعيشون يوما بيوم، ومنهم الزمنى والعطل وأهل البطالة والفراغ، ومنهم أهل العلم والدين والمستخدمون في الناموس، وكل طائفة من هذه السبعة تنقسم إلى أصناف كثيرة، ولكل صنف منها أخلاق وطباع وسجايا ومآرب، أكسبتهم إياها أعمالهم، وأوجبتها لهم متصرفاتهم، لا يشبه بعضها بعضا، ولا يحصي عددها إلا الله - عز وجل.
ولكن نريد أن نذكر منها ما يحتاج إليه من الأخلاق والسجايا والخصال والأعمال والآداب والعلوم؛ أهل الدين المتمسكون بأحكام الناموس الحافظون أركانه الذين يرجى لهم النجاة بها والفوز باستعمالها، كما ذكر الله - جل ثناؤه: @QUR011 قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وقوله: @QUR05 وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم، وقال تعالى: @QUR09 ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى إلى آخر الآية، وآيات كثيرة من القرآن في مثل هذه المعاني.
(10) فصل في مراتب الناس في الأخلاق حسب الأعمال
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الناس إذا اعتبرت أحوالهم وتبينت أمورهم وجدتهم كلهم كالآلات والأدوات لواضعي النواميس الإلهية في تأسيسهم بنياتهم، وتتميمهم أحكامها وتكميلهم شرائطها وحفظهم أركانهم، ثم تجدهم خدما وخولا للملوك الذين هم خلفاء الأنبياء من بعدهم في حفظها وحراستها على نظامها وترتيبها، كما رتبها واضعو النواميس وأمروا بمراعاتها، وهم في ذلك أصناف وطبقات ومراتب مرتبات كترتيب الأعداد المفردات؛ وذلك أن واضع الناموس في مبدئه كالواحد في العدد، وأصحابه وأنصاره الذين اتبعوه كالآحاد، ومن تبعهم على مناهجهم كالعشرات، ومن جاء من بعدهم كالمئات، ومن بعدهم كالألوف، ومن جاء من بعدهم كعشرات الألوف ومئات الألوف بالغا ما بلغ إلى يوم القيامة.
صفحة غير معروفة