كل هذه الخصال مركوزة في الجبلة من غير فكر ولا روية، وكل ذلك معاونة من الطبيعة لنفوسها وتأييد لها بإذن باريها - جل ثناؤه - على طلب مشتهياتها والوصول إلى منافعها والفرار من المضرة منها؛ إذ كانت تلك المشتهيات هي غذاء لأجسامها ومادة لقوامها وسببا لبقائها كلها؛ إذ كان في بقائها كلها تتميم لمعارفها وتكميل لفضائلها، وفي تتميم معارفها وتكميل فضائلها ترق لها إلى أفضل حالاتها وأشرف نهاياتها.
وأما المنسوبة إلى النفس الحيوانية المختصة بها من الخصال المركوزة في الجبلة زيادة على ما تقدم فهي شهوة الجماع وشهوة الانتقام وشهوة الرياسة، ولها أيضا الهياكل اللحمية، والأعضاء المختلفة للأغراض العجيبة، والمفاصل اللينة للحركات المكانية والتنقل في الجهات الست لمآرب ومنافع كثيرة، ولها الشعور بالحواس المخصوصة والأصوات المختلفة لدلالات متباينة.
ولها أيضا الوهم والتخيل للمطالب والمنافع والحفظ والذكر لعرفان أبناء الجنس والمخالف، وإمكان الاحتراس من المضار، والنفور والفرار من العدو؛ كل هذه مركوزة في جبلة الحيوانات القريبة النسبة إلى الإنسان، فأما علة شهوة الجماع المركوزة في جبلتها فهي من أجل التناسل، والتناسل هو من أجل بقاء الصورة في الأشخاص المتواترة؛ إذ كانت الهيولى دائمة في السيلان لا تقف طرفة عين، وأما علة شهوة الانتقام المركوزة في جبلتها فهي من أجل دفع المضرات المفسدات لهياكلها المتشخصة.
واعلم يا أخي بأن دفع المضار تارة يكون بالقهر والغلبة، وتارة يكون بالهرب والفرار وتارة بالتحرز والتحصن، وتارة بالمكر والحيلة، كما قد شرحنا ذلك في رسالة الحيوانات، وأما شهوة الرياسة المركوزة في جبلتها فهي من أجل تأكيد السياسة؛ إذ كانت السياسة لا تتم إلا بعد وجدان الرياسة.
واعلم يا أخي بأن المراد من السياسة هو صلاح الموجودات وبقاؤها على أفضل الحالات وأتم الغايات - كما سنبين في فصل آخر.
وأما المنسوبة إلى النفس الناطقة المختصة بها زيادة على ما تقدم ذكره، فهي شهوة العلوم والمعارف والتبحر والاستكثار منها، وشهوة الصنائع والأعمال والحذق فيها والافتخار بها وشهوة العز والرفعة والترقي في غايات نهاياتها والشوق إليها والرغبة فيها، والحرص في طلبها، واحتمال الذل والمشقة من أجلها، والفرح والسرور من وجدانها واللذة والراحة عند الوصول إليها، والغم والحزن من فقدانها.
(8) فصل في اختلاف مناهج النفوس
واعلم يا أخي بأن هذه الخصال مركوزة في جبلة الإنسان، ولكن تختلف اختيارات كل واحد لها حسب ما تيسر له وتتأكد أسبابه، وذلك أن من الناس من تيسر له أسباب الصنائع والحرف، وآخر أسباب العلوم والآداب، وآخر تيسر له أسباب العمل والتصرف، وآخر أسباب التجارات والبيع والشراء، وآخر أسباب الملك والسلطان، وآخر أسباب البطالة والفراغ، وآخر أسباب الحكم والمعارف - كما سنبينه بعد هذا الفصل.
ومما أعطيت النفس الناطقة من نعم الله تعالى وخصت به من إحسانه من بين نفوس سائر الحيوانات ، وأعينت به على البلوغ إلى أقصى مدى غاياتها، وأيدت للوصول إلى تمام نهاياتها؛ هذا الهيكل العجيب البنية المحكم الصورة المتقن الصنعة، الذي قد عجزت الحكماء عن كنه معرفته وتركيب بنيته من غرائب الصنعة، مما قد وصف طرف منه في كتاب منافع الأعضاء وكتاب التشريح من كيفية انتصاب قامته من بين سائر الحيوانات، وما خص به أيضا من فصاحة لسانه وغرائب لغاته وفنون أقاويله وحسن بيانه من بين سائرها، وما خص به أيضا من طريف شكل يديه، وما يتأتى له بهما من الصنائع المحكمة والأعمال المتقنة من بين سائرها، وما خص به أيضا من طرائف أدوات حواسه وغرائب طرقات إدراكها للمحسوسات - كما وصفنا في رسالة الحاس والمحسوس.
ومما خصت به أيضا النفس الناطقة الإنسانية من نعم الله تعالى وإحسانه؛ العقل الغريزي وكثرة أعوانه وجنوده وخصاله المحمودة، كما سنبين بعد، وأما التي تنسب من الخصال المحمودة إلى النفس الحكمية فشهوة العلوم والمعارف وما أعينت به على طلبها وإدراكها والوصول إليها من الخصال المركوزة والقوى المجبولة؛ كالذهن الصافي والفهم الجيد وذكاء النفس وصفاء القلب وحدة الفؤاد، وسرعة الخاطر، وقوة التخيل وجودة التصور، والفكر والروية والتأمل والاعتبار، والنظر والاستبصار والحفظ والتذكار ومعرفة الروايات والأخبار ووضع القياسات واستخراج النتائج بالمقدمات والتكهن والقيافة والفراسة وقبول الوحي والإلهام، ورؤية المنامات والإنذار بالكائنات بعلم النجوم والزجر.
صفحة غير معروفة