وجد في بعض كتب أنبياء بني إسرائيل من صفة خلقة آدم وتكوين جسده أن الله - عز وجل - حين ابتدعه واخترعه قال: إني خلقت آدم وركبت بدنه من أربعة أشياء، ثم جعلتها وراثة في ولده وذريته تنشأ في أجسادهم، وينمون عليها إلى يوم القيامة، ركبت جسده من رطب ويابس وحار وبارد، وذلك أني خلقته من تراب وماء، ثم نفخت فيه نفسا وروحا فيبوسة جسده من قبل التراب، ورطوبته من قبل الماء، وحرارته من النفس، وبرودته من الروح . ثم جعلت في الجسد بعد هذا أربعة أنواع أخر، هن ملاك أمور الجسد لا يقوم الجسد إلا بهن، ولا تقوم واحدة منهن إلا بالأخرى، فمنهن المرة السوداء، والمرة الصفراء، والدم والبلغم، ثم أسكنت بعضها في بعض، فجعلت مسكن اليبوسة في المرة السوداء، والحرارة في المرة الصفراء، والرطوبة في الدم، والبرودة في البلغم، فأيما جسد اعتدلت فيه هذه الأربعة الأخلاط التي جعلتها ملاكه وقوامه، وكانت كل واحدة منهن ربعا لا تزيد ولا تنقص، كملت صحته، واعتدلت بنيته، وإن زادت واحدة منهن على أخواتها وقهرتهن ومالت بهن، دخل السقم على الجسد من ناحيتها بقدر ما زادت، وإذا كانت ناقصة ضعفت طاقتها عن مقاومتهن فغلبنها ودخل السقم على الجسد من نواحيهن بقدر قلتها عنهن وضعف طاقتها عن مقاومتهن.
ثم علمته الطب وكيفية الدواء وكيف يزيد في الناقص أو ينقص في الزائد حتى يعتدل ويستقيم أمر الجسد، فالطبيب الماهر العالم بالداء والدواء هو الذي يعرف من أين دخل السقم على الجسد من الزيادة والنقصان ويعلم الدواء الذي يعالج به، فيزيد في ناقصها وينقص من زائدها حتى يستقيم أمر الجسد على فطرته ويعتدل الشيء بأقرانه.
ثم صيرت هذه الأخلاط التي ركبت عليها الجسد فطرا وأصولا عليها تبنى أخلاق بني آدم وبها توصف، فمن التراب العزم، ومن الماء اللين، ومن الحرارة الحدة، ومن البرودة الأناة، فإن مالت به اليبوسة، وأفرطت كانت عزمته قساوة وفظاظة، وإن مالت به الرطوبة كان لينه توانيا ومهانة، وإن مالت به الحرارة كانت حدته طيشا وسفاهة، وإن مالت به البرودة كانت أناءته ريثا وبلادة، وإن اعتدلت وكن سواء اعتدلت أخلاقه، واستقام أمره، وكان عازما في أناته لينا في عزمه، هادئا في لينه، متأنيا في حدته، لا يغلبه خلق من أخلاقه، ولا تميل به طبيعة من أخلاطه عن المقدار المعتدل من أيها شاء استكثر، ومن أيها شاء قلل وكيف شاء عدل.
ثم نفخت فيه من روحي، وقرنت بجسده نفسا وروحا، فبالنفس يسمع ابن آدم ويبصر ويشم ويذوق ويلمس ويحس ويأكل ويشرب وينام ويقعد ويضحك ويبكي ويفرح ويحزن، وبالروح يعقل ويفهم ويدري ويتعلم ويستحي ويحلم ويحذر ويتقدم ويمنع ويتكرم ويقف ويهجم، فمن النفس تكون حدته وخفته وشهوته ولعبه ولهوه وضحكه وسفهه وخداعه ومكره وعنفه وخرقه، ومن الروح يكون حلمه ووقاره وعفافه وحياؤه وبهاؤه وفهمه وتكرمه وحذقه وصدقه ورفقه وصبره.
فإذا خاف ذو اللب أن يغلب عليه خلق من أخلاق النفس، قابله بضده من أخلاق الروح، وألزمه إياه فيعدله به ويقومه، فيقابل الحدة بالحلم والخفة بالوقار والشهوة بالعفاف واللعب بالحياء، واللهو بالبهاء، والضحك بالهم، والسفه بالكرم، والخداع بالشجاعة، والكذب بالصدق، والعنف بالرفق، والنزق بالصبر، والخرق بالأناة؛ إذ كل مرض يعالج بضده، ومن التراب تكون قساوته وبخله وفظاظته وشحه ويأسه وقنوطه وعزمه وإصراره، ومن الماء يكون لينه وسهولته واسترساله ومعروفه وتكرمه وسماحته وقوته وقربه وقبوله ورجاؤه واستبشاره.
فإذا خاف ذو اللب أن يغلب عليه خلق من أخلاقه الترابية؛ قابله بضده من الأخلاق المائية، وألزمه إياه ليعدله ويقومه، فيقابل القسوة باللين، والبخل بالعطاء، والفظاظة بالبشر، والشح بالكرم، واليأس بالرجاء، والقنوط بالاستبشار، والعزم بالقبول، والإصرار بالعدل.
واعلم يا أخي بأن لكل خلق من الأخلاق أخوات مشاكلات، ولهن أضداد مخالفات، ولهن كلهن أفعال متباينات متضادات تحتاج إلى شرح لتبين وتعرف؛ لأن هذا الباب من العلوم الشريفة والمعارف اللطيفة؛ إذ كان من هذا الفن تعرف أخلاق الكرام من بني آدم، وأخلاق الملائكة الذين هم سكان الجنان كما ذكر الله تعالى، فقال: @QUR02 كراما كاتبين و@QUR02 كرام بررة، ومن هذا الباب تعرف أيضا أخلاق الشياطين الذين هم أهل النيران كما ذكر الله تعالى بقوله: كلما دخلت أمة لعنت أختها وقالوا لا مرحبا بهم إنهم صالو النار؛ وإذ قد تبين بما ذكرنا طرف من الأسباب المؤدية إلى اختلاف أخلاق الإنسان من جهة مزاج أخلاط جسده؛ فنريد أيضا أن نذكر طرفا من الأسباب التي تكون من جهة اختلاف تربة البلاد وتغييرات أهويتها المؤدية إلى اختلاف الأخلاق.
(5) فصل في تأثير طبيعة البلدان في الأخلاق
واعلم يا أخي بأن ترب البلاد والمدن والقرى تختلف وأهويتها تتغير من جهات عدة، فمنها كونها في ناحية الجنوب أو الشمال أو الشرق أو الغرب أو على رءوس الجبال أو في بطون الأودية والأغوار أو على سواحل البحار، أو شطوط الأنهار أو في البراري والقفار أو في الآجام والدحال والأرض ذات الرملة والأرضين السباخ السهلة، أو في البقاع الصخرية والحجارة والحصى والرمال أو في الأرضين السهلة والتربة اللينة بين الأنهار والأشجار والزروع والبساتين والزهر والنور.
وأيضا فإن أهوية البلاد والبقاع تختلف بحسب اختلاف تصاريف الرياح الأربع ونكباواتها، وبحسب مطالع البروج عليها ومطارح شعاعات الكواكب عليها من آفاقها، وهذه كلها تؤدي إلى اختلاف أمزجة الأخلاط، واختلاف أمزجة الأخلاط يؤدي إلى اختلاف أخلاق أهلها وطباعهم وألوانهم ولغتهم وعاداتهم وآرائهم ومذاهبهم وأعمالهم وصنائعهم وتدابيرهم وسياساتهم، لا يشبه بعضها بعضا بل تنفرد كل أمة منها بأشياء من هذه التي تقدم ذكرها لا يشاركها فيها غيرها.
صفحة غير معروفة