رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

Ikhwan Safa ت. 375 هجري
59

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

تصانيف

فنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: إن الحكماء الموسيقاريين إنما اقتصروا من أوتار العود على أربعة لا أقل ولا أكثر؛ لتكون مصنوعاتهم مماثلة للأمور الطبيعية التي دون فلك القمر؛ اقتداء بحكمة الباري - جل ثناؤه - كما بينا في رسالة الأرثماطيقي، فوتر الزير مماثل لركن النار ونغمته مناسبة لحرارتها وحدتها، والمثنى مماثل لركن الهواء ونغمته مناسبة لرطوبة الهواء ولينه، والمثلث مماثل لركن الماء ونغمته مناسبة لرطوبة الماء وبرودته، والبم مماثل لركن الأرض ونغمته مماثلة لثقل الأرض وغلظها.

وهذه الأوصاف لها بحسب مناسبة بعضها إلى بعض وبحسب تأثيرات نغماتها في أمزجة طباع المستمعين لها؛ وذلك أن نغمة الزير تقوي خلط الصفراء، وتزيد في قوتها وتأثيرها وتضاد خلط البلغم وتلطفه، ونغمة المثنى تقوي خلط الدم وتزيد في قوته وتأثيره وتضاد خلط السوداء وترققه وتلينه، ونغمة المثلث تقوي خلط البلغم وتزيد في قوته وتأثيره وتضاد خلط الصفراء، وتكسر حدتها، ونغمة البم تقوي خلط السوداء وتزيد في قوتها وتأثيرها وتضاد خلط الدم وتسكن فورانه.

فإذا ألفت هذه النغمات في الألحان المشاكلة لها، واستعملت تلك الألحان في أوقات الليل والنهار المضادة طبيعتها طبيعة الأمراض الغالبة والعلل العارضة، سكنتها وكسرت سورتها، وخففت على المرضى آلامها؛ لأن الأشياء المتشاكلة في الطباع إذا كثرت واجتمعت قويت أفعالها، وظهرت تأثيراتها، وغلبت أضدادها كما يعرف الناس مثل ذلك في الحروب والخصومات.

فقد تبين بما ذكرنا طرف من حكمة الحكماء الموسيقيين المستعملين لها في المارستانات في الأوقات المضادة لطبيعة الأمراض والأغراض والأعلال، وهم اقتصروا على أربعة أوتار لا أكثر ولا أقل، فأما العلة التي من أجلها جعلوا غلظ كل وتر مثل غلظ الذي تحته ومثل ثلثه؛ فذلك منهم أيضا اقتداء بحكمة الباري - جل ثناؤه - واتباع لآثار صنعه في المصنوعات الطبيعية.

وذلك أن الحكماء الطبيعيين ذكروا أن أقطار أكر الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، كل واحد منها مثل الذي تحته ومثل ثلثه في الكيفية؛ أعني: في اللطافة والغلظ، فقالوا: إن قطر كرة الأثير - أعني: كرة النار التي دون فلك القمر - مثل قطر كرة الزمهرير ومثل ثلثها، وقطر كرة الزمهرير مثل قطر كرة النسيم ومثل ثلثها، وقطر كرة النسيم مثل قطر كرة الماء ومثل ثلثها، وقطر كرة الماء مثل قطر كرة الأرض ومثل ثلثها.

ومعنى هذه النسبة أن جوهر النار في اللطافة مثل جوهر الهواء ومثل ثلثه، وجوهر الماء في اللطافة مثل جوهر الماء ومثل ثلثه، وجوهر الماء في اللطافة مثل جوهر الأرض ومثل ثلثها.

وأما علة شدهم الزير الذي هو مماثل لركن النار ونغمته مماثلة لحرارة النار وحدتها تحت الأوتار كلها، وشدهم البم المماثل لركن الأرض فوقها كلها، والمثنى مما يلي الزير، والمثلث مما يلي البم، فهي أيضا لعلتين اثنتين؛ إحداهما أن نغمة الزير حادة خفيفة تتحرك علوا، ونغمة البم غليظة ثقيلة تتحرك إلى أسفل، فيكون ذلك أمكن لمزاجهما واتحادهما، وكذلك حال المثنى والمثلث.

والعلة الأخرى: أن نسبة غلظ الزير إلى غلظ المثنى، والمثنى إلى المثلث، والمثلث إلى البم؛ كنسبة قطر الأرض إلى قطر كرة النسيم، وكرة النسيم إلى كرة الزمهرير، والزمهرير إلى الأثير، فهذا كان سبب شدهم لها على هذا الترتيب.

وأما استعمالهم نسبة الثمن في نغمة الأوتار دون الخمس والسدس والسبع وتفضيلهم إياها؛ فمن أجل أنها مشتقة من الثمانية، والثمانية هي أول عدد مكعب، وأيضا فإن الستة لما كانت أول عدد تام وكانت الأشكال ذوات السطوح الستة أفضلها، والمقدم عليها هو المكعب لما فيه من التساوي كما بينا في رسالة الجومطريا، وذلك أن طول هذا الشكل وعرضه وعمقه كلها متساوية، وله ستة سطوح مربعات كلها متساويات، وله ثماني زوايا مجسمة كلها متساوية، وله اثنا عشر ضلعا متوازية متساوية، وله أربع وعشرون زاوية قائمة متساوية، وهي من ضرب ثلاثة في ثمانية.

وقد قلنا: إن كل مصنوع كان التساوي فيه أكثر فهو أفضل، وليس بعد الشكل الكري شكل أكثر تساويا من الشكل المكعب، فمن أجل هذا قيل في كتاب إقليدس في المقالة الأخيرة: إن شكل الأرض بالمكعب أشبه، وشكل الفلك بذي اثنتي عشرة قاعدة مخمسات أشبه، وقد بينا في رسالة الأسطرنوميا فضيلة الشكل الكري والعدد الاثني عشر.

صفحة غير معروفة