واعلم يا أخي أن دولة أهل الخير يبدأ أولها من قوم علماء حكماء وخيار فضلاء، يجتمعون على رأي واحد، ويتفقون على مذهب واحد ودين واحد، ويعقدون بينهم عهدا وميثاقا أن لا يتجادلوا ولا يتقاعدوا عن نصرة بعضهم بعضا، ويكونون كرجل واحد في جميع أمورهم وكنفس واحدة في جميع تدبيرهم فيما يقصدون من نصرة الدين وطلب الآخرة لا يبتغون سوى وجه الله ورضوانه جزاء ولا شكورا، فهل لك أيها الأخ البار الحكيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن ترغب في صحبة إخوان لك نصحاء، وأصدقاء لك أخيار فضلاء، هذه صفتهم، بأن تقصد مقصدهم، وتتخلق بأخلاقهم، وتنظر في علومهم لتعرف مناهجهم، وتكون معهم وتنجو بمفازاتهم، لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون، وفقك الله أيها الأخ وجميع إخواننا للصواب بفضله ومنه، حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه محمد وآله.
الرسالة الخامسة في الموسيقى
بسم الله الرحمن الرحيم
وإذ قد فرغنا من ذكر الصنائع العلمية الروحانية التي هي أجناس العلوم، ومن ذكر الصنائع العلمية الجسمانية التي هي أجناس الصنائع، وبينا ماهية كل واحد منهما وكمية أنواعهما وما الأغراض المطلوبة منهما في رسالتين لنا؛ فنريد أن نذكر في هذه الرسالة الملقبة بالموسيقى الصناعة المركبة من الجسمانية والروحانية التي هي صناعة التأليف في معرفة النسب، وليس غرضنا من هذه الرسالة تعليم الغناء وصنعة الملاهي، وإن كان لا بد من ذكرها، بل غرضنا هو معرفة النسب وكيفية التأليف اللذين بهما وبمعرفتهما يكون الحذق في الصنائع كلها.
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن كل صناعة تعمل باليدين، فإن الهيولى الموضوعة فيها إنما هي أجسام طبيعية ومصنوعاتها كلها أشكال جسمانية إلا الصناعة الموسيقية فإن الهيولى الموضوعة فيها كلها جواهر روحانية، وهي نفوس المستمعين وتأثيراتها فيها مظاهر كلها روحانية أيضا، وذلك أن ألحان الموسيقى أصوات ونغمات، ولها في النفوس تأثيرات كتأثيرات صناعات الصناع في الهيوليات الموضوعة في صناعتهم، فمن تلك النغمات والأصوات ما يحرك النفوس نحو الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة وينشطها ويقوي عزماتها على الأفعال الصعبة المتعبة للأبدان التي تبذل فيها مهج النفوس وذخائر الأموال، وهي الألحان المشجعة التي تستعمل في الحروب، وعند القتال في الهيجاء، ولا سيما إذا غني معها بأبيات موزونة في وصف الحروب ومديح الشجعان مثل قول القائل:
لوكنت من مازن لم تستبح إبلي
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
ومثل قول البسوس بنت منقذ:
لعمري لو أصبحت في دار منقذ
لما ضيم سعد وهو جار لأبياتي ولكنني أصبحت في دار غربة
متى يعد فيها الذئب يعد على شاتي فيا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل
فإنك في قوم عن الجار أموات
فإن هذه الأبيات وأخواتها يقال إنها كانت سببا لإثارة أقوام إلى الحرب والقتال بين قبيلتين من قبائل العرب سنين متواترة، ومن الأبيات الموزونة أيضا ما يثير الأحقاد الكامنة ويحرك النفوس الساكنة ويلهب نيران الغضب؛ مثل قول القائل:
واذكروا مصرع الحسين وزيد
وقتيلا بجانب المهراس
صفحة غير معروفة