176

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

تصانيف

واعلم أن مثل تأثير هذا الحجر الضعيف المهين في هذا الجوهر الشريف القوي كمثل تأثير البقة الضعيفة الصغيرة المهينة في الفيل العظيم الجثة الشديد القوة الذي يقهر الحيوانات بعظيم جثته وشدة قوته، وهذا يغلبه ويؤذيه ويضر به بصغر جثته وخفة حركته، فإن في ذلك عبرة لأولي الأبصار، ودلالة لأولي الألباب على أن المسلط للصغير على الكبير هو خالقهما ومصورهما سبحانه.

وأما السباذج فهو قريب من هاتين الطبيعتين من الماس، ولكن تأثيره دون تأثيره.

وأما حجر المغناطيس فهو أيضا عبرة لأولي الأبصار والتفكر في الأمور الطبيعية وخواص أفعال بعضها في بعض.

وذلك أن بين هذا الحجر والحديد مناسبة ومشاكلة في الطبيعة كالمناسبة والمشاكلة التي بين العاشق والمعشوق، وذلك أن الحديد مع شدة يبسه وصلابة جسمه وقهره للأجسام المعدنية والنباتية والحيوانية يتحرك نحو هذا الحجر ويلتصق به ويلتزمه كالتزام العاشق المحب المعشوق المحبوب المشتاق، فإذا فكر العاقل اللبيب في فعل هذين الحجرين وغيرهما من الأحجار المعدنية والأجسام النباتية علم وتبين له بأن الفاعل المحرك لهما هو غيرهما؛ لأن الجسم لا فعل له من حيث هو جسم ببراهين قد قامت ودلائل قد وضحت، وأن هذه الأجسام كلها مع اختلافها واختلاف طبائعها وفنون أشكالها وخواص طبائعها هي كالأدوات والآلات للفاعل الصانع المحرك، وهو النفس الكلية الفلكية التي هذه التأثيرات كلها من أفعالها، وهي المسماة طبيعة، تظهر وتعمل بإذن باريها - جل ثناؤه - وقد تبين بدلائل عقلية أن الباري - جل ثناؤه - لا يباشر الأجسام بذاته ولا يتولى من الأفعال بنفسه إلا الاختراع والإبداع حسب، وأما التأليف والتركيب والصنائع والأفعال والحركات التي تكون بالآلات والأدوات في الأماكن والأزمان، إنما يأمر ملائكته الموكلين وعباده المؤيدين بأن يفعلوا ما يؤمرون مثل أمر الملوك والرؤساء لعبيدهم وخدمهم وجنودهم.

فصل

وقد تبين مما ذكرنا أن الجواهر المعدنية مع كثرة أنواعها واختلاف طبائعها وفنون خواصها أصلها كلها وهيولاها هي الأركان الأربعة التي تسمى الأمهات، وهي النار والهواء والماء والأرض، وتبين أيضا أن الفاعل فيها والمؤلف لأجزائها والمركب لها هي الطبيعة بإذن الله تعالى ، وتبين بأن الغرض من هذه الجواهر المعدنية هو منافع الناس والحيوان وإصلاح أمر الحياة الدنيا ومعيشة الحيوان إلى وقت معلوم.

واعلم يا أخي بأن الجواهر المعدنية مع اختلاف طبائعها وأنواع أشكالها وفنون جواهرها وخواصها كالأدوات للطبيعة الفاعلة والآلات لها، تفعل بها وفيها ومنها في الأماكن المتباينة والأزمان المختلفة هذه الأفعال والصنائع والأعمال من التركيب والتأليف والجمع والتفريق لأجزاء هذه الأركان الأربعة من الكون والفساد والنشوء والبلى حسب دوران الأفلاك وحركات الكواكب وطوالع البروج على آفاق البلد من البر والبحر والسهل والجبل والعمران والخراب، كل ذلك بإذن الله - تعالى - الذي خلقها ووكلها بالأركان وأيدها بالقوة الإلهية على هذه الأفعال والصنائع من تكوين المعادن والنبات والحيوان.

واعلم أن الطبيعة إنما هي ملك من ملائكة الله المؤيدين وعباده الطائعين، يفعلون ما يؤمرون، لا يعصون الله ما أمرهم وهم من خشيته مشفقون.

واعلم أن الله - تعالى - غير محتاج في أفعاله إلى الأدوات والآلات والأماكن والأزمان والهيولى والحركات، بل فعله الخاص هو الإبداع والاختراع، إذ الاختراع هو الإخراج من العدم إلى الوجود بحسب ما بينا في رسالة المبادئ العقلية والأفعال الروحانية.

واعلم أن طائفة من المجادلة أنكرت أفعال الطبيعة لما جهلت ماهية الطبيعة نفسها، ولم تدر أنها ملك من ملائكة الله - تعالى - الموكلين بتدبير عالمه وإصلاح خلائقه، فنسبت كل أفعال الطبيعة إلى الباري - جل ثناؤه - حسنة كانت أو سيئة، خيرا كانت أو شرا، وفيهم من نسب ما كان حسنا إلى الباري، وما كان قبيحا نسبه إلى غيره، ثم اختلفوا في الغير من هو، فمنهم من نسب تلك الأفعال إلى الطبيعة وإلى التولد، ومنهم من نسبها إلى النجوم، ومنهم من نسبها إلى البخت والاتفاق، ومنهم من نسبها إلى جريان العادة، ومنهم من نسبها إلى الشياطين، ولا يدري ما الشياطين، وكل هذه الأقاويل قالوها لجهلهم ماهية الطبيعة وقلة معرفتهم بأفعالها وأفعال ملائكة الله الموكلين بحفظ عالمه وإدارة أفلاكه وتسيير كواكبه وتوليد حيواناته وتربية نبات أرضه وتكوين معادنها.

صفحة غير معروفة