143

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

تصانيف

بسم الله الرحمن الرحيم

@QUR011 الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون

اعلم أيها الأخ - أيدك الله وإيانا بروح منه - أنا قد فرغنا من الرسائل الرياضية بجملتها حسب ما وعدنا في صدر الكتاب، واستوفينا الكلام في ذلك حسب ما يليق بنا، فعلينا أن نشتغل بذكر القسم الثاني وهو في «الجسمانيات الطبيعيات»، فلنبدأ بالرسالة الأولى منها في «الهيولى والصورة» فنقول: لما كان النظر في علم الطبيعيات جزءا من أجزاء صناعة إخواننا - أيدهم الله - والأصل في هذا العلم هو معرفة خمسة أشياء؛ وهي: الهيولى والصورة والحركة والزمان والمكان، وما فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض، احتجنا أن نذكر في هذه الرسالة طرفا من معاني الهيولى والصورة؛ شبه المدخل والمقدمات؛ ليكون أقرب من فهم المبتدئين عند النظر في الطبيعيات، وأسهل على تعليمهم، فنقول: اعلم - وفقك الله - أن معنى قول الحكماء: «الهيولى» إنما يعنون به كل جوهر قابل للصورة، وقولهم: «الصورة» يعنون به كل شكل ونقش يقبله الجوهر.

واعلم أن اختلاف الموجودات إنما هو بالصورة لا بالهيولى؛ وذلك أنا نجد أشياء كثيرة جوهرها واحد وصورها مختلفة؛ مثال ذلك: السكين والسيف والفأس والمنشار، وكل ما يعمل من الحديد من الآلات والأدوات والأواني، فإن اختلاف أسمائها من أجل اختلاف صورها لا من أجل اختلاف جواهرها؛ لأن كلها بالحديد واحد، وكذلك الباب والكرسي والسرير والسفينة، وكل ما يعمل من الخشب، فإن اختلاف أسمائها إنما هو بحسب اختلاف صورها، فأما هيولاها التي هي الخشب فواحدة، وعلى هذا المثال يعتبر حال الهيولى والصورة في المصنوعات كلها؛ لأن كل مصنوع لا بد له من هيولى وصورة يركب منهما.

واعلم أن الهيولى على أربعة أنواع؛ منها: هيولى الصناعة، وهيولى الطبيعة، وهيولى الكل، والهيولى الأولى، فهيولى الصناعة: هي كل جسم يعمل منه وفيه الصانع صنعته كالخشب للنجارين، والحديد للحدادين، والتراب والماء للبنائين، والغزل للحاكة، والدقيق للخبازين، وعلى هذا القياس كل صانع لا بد له من جسم يعمل صنعته منه وفيه، فذلك الجسم هو هيولى الصناعة، أما الأشكال والنقوش التي يعملها فيها فهي الصورة، فهذا هو معنى الهيولى والصورة في الصنائع، وأما الهيولى الطبيعية فهي الأركان الأربعة؛ وذلك أن كل ما تحت فلك القمر من الكائنات، أعني النبات والحيوان والمعادن، فمنها تتكون، وإليها تستحيل عند الفساد، أما الطبيعة الفاعلة لهذا فهي قوة من قوى النفس الكلية الفلكية، وقد بينا كيفية فعلها في هذه الهيولى في رسالة أخرى، وأما هيولى الكل فهي الجسم المطلق الذي منه جملة العالم، وأعني الأفلاك والكواكب والأركان والكائنات أجمع؛ لأنها كلها أجسام، وإنما اختلافها من أجل صورها المختلفة، وأما الهيولى الأولى فهي جوهر بسيط معقول لا يدركه الحس؛ وذلك أنه صورة الوجود حسب، وهو الهوية، ولما قبلت الهوية الكمية صارت بذلك جسما مطلقا مشارا إليه أنه ذو ثلاثة أبعاد، التي هي الطول والعرض والعمق، ولما قبل الجسم الكيفية وهي الشكل كالتدوير والتثليث والتربيع وغيرها من الأشكال صار بذلك جسما مخصوصا مشارا إليه أي شكل هو، فالكيفية هي كالثلاثة، والكمية كالاثنين والهوية كالواحد، وكما أن الثلاثة متأخرة الوجود عن الاثنين كذلك الكيفية متأخرة الوجود عن الكمية، وكما أن الاثنين متأخرة الوجود عن الواحد، كذلك الكمية متأخرة الوجود عن الهوية، والهوية هي متقدمة الوجود على الكمية والكيفية وغيرهما، كتقدم الواحد على الاثنين، والثلاثة، وجميع العدد.

ثم اعلم أن الهوية والكمية والكيفية كلها صور بسيطة معقولة غير محسوسة، فإذا تركت بعضها على بعض صار بعضها كالهيولى وبعضها كالصورة، فالكيفية هي صورة في الكمية، والكمية هيولى لها، والكمية هي صورة في الهوية، والهوية هيولى لها، والمثال في ذلك من المحسوسات أن القميص صورة في الثوب، والثوب هيولى له، والثوب صورة في الغزل، والغزل هيولى له، والغزل صورة في القطن، والقطن هيولى له، والقطن صورة في النبات، والنبات هيولى له، والنبات صورة في الأركان، وهي هيولى له، والأركان صورة في الجسم، والجسم هيولى لها، والجسم صورة في الجوهر، والجوهر هيولى له، وكذلك الخبز صورة في العجين، والعجين هيولى له، والعجين صورة في الدقيق، والدقيق هيولى له، والدقيق صورة في الحب، والحب هيولى له، والحب صورة في النبات، والنبات هيولى له، والنبات صورة في الأركان، وهي هيولى له، وهي صورة في الجسم، والجسم هيولى لها، والجسم صورة في الجوهر، والجوهر هيولى له.

وعلى هذا المثال يعتبر حال الصورة عند الهيولى، وحال الهيولى عند الصورة، إلى أن تنتهي الأشياء كلها إلى الهيولى الأولى التي هي صورة الوجود حسب، لا كيفية فيها ولا كمية، وهي جوهر بسيط لا تركيب فيه بوجه من الوجوه، قابل للصور كلها، ولكن على الترتيب كما بينا، لا أي صورة كانت تأخرت أو تقدمت، بل الأول فالأول، مثال ذلك أن القطن لا يقبل صورة الثوب إلا بعد قبوله صورة الغزل، والغزل لا يقبل صورة القميص إلا بعد قبوله صورة الثوب، وكذلك الحب لا يقبل صورة العجين إلا بعد قبوله صورة الدقيق، والدقيق لا يقبل صورة الخبز إلا بعد قبوله صورة العجين، وعلى هذا المثال يكون قبول الهيولى للصور واحدة بعد أخرى.

ثم اعلم أن الأجسام كلها جنس واحد من جوهر واحد وهيولى واحدة، وإنما اختلافها بحسب اختلاف صورها، ومن أجلها صار بعضها أصفى من بعض وأشرف، وذلك أن عالم الأفلاك أصفى وأشرف من عالم الأركان، وعالم الأركان بعضها أشرف من بعض، وذلك أن النار أصفى من الهواء وأشرف منه، والهواء أصفى من الماء وألطف منه، والماء أصفى من التراب وأشرف منه، وكلها أجسام طبيعية يستحيل بعضها إلى بعض؛ وذلك أن النار إذا أطفئت صارت هواء، والهواء إذا غلظ صار ماء، والماء إذا غلظ وجمد صار أرضا، وليس للنار أن تلطف، أو للأرض أن تغلظ فتصير شيئا آخر، بل إذا تكونت أجزاؤها يكون منها المولدات، أعني المعادن والنبات والحيوان، لكن يكون بعضها أشرف تركيبا من بعض؛ وذلك أن الياقوت أصفى من البلور وأشرف منه، وأن البلور أصفى من الزجاج وأشرف منه، والزجاج أصفى من الخزف وأشرف منه، وكذلك الذهب أشرف من الفضة وأصفى منها، والفضة أصفى من النحاس وأشرف منه، والنحاس أصفى من الحديد وأشرف منه، والحديد أشرف من الأسرب، وكلها أحجار معدنية أصلها كلها الزئبق والكبريت، والزئبق والكبريت أصلهما التراب والماء والهواء والنار، فهيولاها واحد وصورها مختلفة، وصفاؤها وشرفها بحسب تركيبها واختلاف صورها، وكذلك حكم الحيوان والنبات فإنها بالهيولى واحد، وإن اختلافها وشرف بعضها على بعض بحسب اختلاف صورها.

(1) فصل في الأجسام الجزئية

اعلم أن الأجسام الجزئية منها ما يقبل صورة الكلي إذا صور فيه، فيصير بقبوله تلك الصورة أفضل وأشرف من سائر الأجسام الجزئية الساذجة، والمثال في ذلك قطعة من النحاس إذا صور فيها الفلك مثل الأصطرلاب وذات الحلق والكرة المصورة، فإنها عند ذلك تكون أشرف وأفضل وأحسن من أن تكون ساذجة، وكذلك كل جسم قبل صورة ما فإنه عند ذلك يكون أفضل وأشرف وأحسن من كونه ساذجا، فهكذا الحكم في جواهر النفوس؛ وذلك أنها كلها جنس واحد وجوهر واحد وأن اختلافها بحسب معارفها وأخلاقها آرائها وأعمالها؛ لأن هذه الحالات هي صور في جواهرها وهي كالهيولى، وكذلك النفس الجزئية إذا قبلت علما من العلوم تكون أفضل وأشرف من سائر النفوس التي هي أبناء جنسها.

صفحة غير معروفة