قلت: وماذا إذا أني لا أرى فيه غير اللمعان.
فقال: إني سقيته السم.
فأظهرت الاستغراب وقلت ولماذا سممته. ومازلت أحاوله وأجادله حتى هان عليه التصريح. فقال لي: «اعلمي يا خولة أني سأقتل بهذا السيف رجلا يزعمون أنه أكبر رجل في الإسلام ويقولون أنه أقرب أقرباء الرسول» قال ذلك والشر باد في عينيه واصفرار الوجل يتخلل ما كان يحاوله من الابتسام. أما أنا فلما سمعت قوله ارتعدت فرائصي واختلج قلبي وأظنه قرأ ذلك على وجهي. كيف لا وقد ظهر لي أنه يريد الإمام عليا. ولكنني أحببت تحقق الظن فقلت: «ومن هو ذلك الرجل».
فقال: «ألا تعلمين من هو ألا تعرفين سبب كل هذه الانقسامات وإذا كنت لم تفهمي بعد فأقول لك إنه علي بن أبي طالب الذي يسميه أشياعه أمير المؤمنين». قال ذلك واحمرت عيناه وتجلى الغدر في وجهه وقال: «احذري أن تبوحي بذلك لأحد وإلا فإنك تنالين جرحا من هذا السيف». قال ذلك وهو يمزح الجد بالهزل أما أنا فتحققت أنه يقتلني ولا يبالي لأنه تجرأ على قتل أمير المؤمنين فكيف لا يقتل فتاة مثلي.
فلم أستطع جوابا وخفت إذا نطقت أن يبدو أمري فصمت وقد عولت في باطن سري على السعي في إبلاغ أمير المؤمنين ذلك على عجل لأن موعد القتل قريب وأظنه في 17 رمضان لأني كثيرا ما كنت أسمعه يذكر هذا التاريخ ويعرض بذكر الكوفة ولم أكن أفهم مراده بذلك. وأما الآن فقد فهمت جيدا أنه عازم على قتل الإمام علي في 17 رمضان ونحن في أواسط شعبان وأخاف أن ينال هذا الرجل بغيته قبل أن يبلغ الخبر عليا ... آه يا ليتني طير أحمل هذا الخبر إليه.
الفصل الأربعون
برح الخفاء
وكان سعيد لما وصلت خولة إلى ذكر اسم الرجل وتصريحه بمقتل الإمام علي قد نهض وجعل يخطر في الغرفة ذهابا وإيابا والحمية ملء رأسه وندم على مجيئه قبل أن يخبر الإمام عليا ولكنه تذكر أنه لم يكن يعرف اسم المؤامر ولم تكن ثمت فائدة من إعلامه أما الآن فإنه يذهب إليه بالخبر الصريح.
وكان مع شدة تأثره من حديث خولة لا يغفل عما يتجلى في وجهها من ملامح الجمال وما في حديثها من صدق اللهجة وقد أعجبه منها بنوع خاص غيرتها على الإمام علي فشعر بانعطاف نحوها. ولكنه تذكر عهده لقطام وما يطنه من حبها له فرأى أن لا يطلق لنفسه العنان في حب سواها. على أنه لم يكد ذهنه ينصرف لحظة إلى هذا الموضوع حتى عاد إلى التفكر بعبد الله ومصيره وسبب وجود خولة في ذلك البيت المنفرد. فقال لها: «لا أدري يا مولاتي ما الذي ساقني إلى منزلك حتى حظيت بك وسمعت هذا الحديث الذي إنما جئت الفسطاط من أجله. ولا أخفي عليك أني كنت عالما بعزم بعضهم على الفتك بالإمام ولكنني لم أكن أعلم اسم العازم ولا من هو فجئت الفسطاط ومعي رفيق من ذوي قرابتي كان قد سبقني في صباح هذا اليوم إلى مجتمع العلويين في عين شمس على أن يعود إلي بخبر مكانهم فلما أبطأ سرت في اثره وأنا لا أعرف الطريق فضللت في الظلام حتى اهتديت بك ونعم الضلال ضلالي. ولكنني في قلق على رفيقي إذ يلوح لي أن الفرسان الذين شاهدناهم الليلة كانوا قادمين من عين شمس ويظهر أنهم قبضوا على أنصار علي هناك ... ألا تظنين ذلك؟»
فقالت خولة: لو صبرت علي لإتمام حديثي لكفيت نفسك مؤونة الظن ويلوح لي أنك تود الإطلاع على سبب وجودي منفردة في ذلك البيت وقد أوصدت الأبواب دوني. فاعلم أني لما سمعت حديث المرادي سكت وكظمت فخرج الرجل وأظنه شخص إلى الكوفة ولبثت أنا في حيرة لا أدري ماذا أعمل فقضيت نهار الأمس في الهواجس والظنون وكلما تصورت عليا مقتولا بسيف هذا الغادر يقشعر بدني وكان والدي يخرج إلى حانوته في كل صباح ولا يعود إلى المساء وعندنا في المنزل عبد رباني منذ حداثتي وهو يحبني ويكرمني وكنت قلما أكلمه فخطر لي أن أغتنم غياب والدي وأكلم العبد عساه أن يطلعني على نبأ جديد أو لعلي أفهم شيئا آخر. لأن حديث ابن ملجم أتعبني وأقلق راحتي وليس لدي من أشكو إليه أمري أو أكاشفه سري فخرجت من غرفتي لأدعو العبد فلم أجده فناديته باسمه فأبطأ ولم يجب فأطللت من الدار فرأيته واقفا مع عبد آخر يظهر أنه غريب وكانا يتحادثان ويتساران. فلما رآني خجل وأسرع إلي فدخلت غرفتي ودخل هو في أثري وعلى وجهه أمارات البغتة كأنه سمع خبرا غريبا يريد قصه علي. فقلت أين كنت وقد دعوتك فلم تجب؟
صفحة غير معروفة