خاتمة الوصية
فلما رأى سعيد نهاية حديث جده لم يعد يذكر الصك الذي كتبه على نفسه وتعهد فيه بقتل علي لئلا يزيد من غضبه. فظل ساكتا يفكر في حيلة يتخلص بها من وعده بالتي هي أحسن فلم يسعفه ذهنه على التأمل وقد أحس بالتعب الشديد ورأى أبا رحاب قد تعب أيضا. قال له: لقد أتعبت نفسك يا جداه بوصايتي فأشكر عنايتك وإني أرى في قولك الصواب وأطلب إليه تعالى أن يقدرني على العمل به فاسترح الليلة وغدا نصبح إن شاء الله وقد ارتحنا فنستأنف الكلام. قال ذلك واكب على يده فقبلها فرآها قد زادت برودة وجمودا. فقال له جده: «نم هنيئا يا ولدي ولكنني أخشى أن لا أصبح في الغد فلابد من كلمة أقولها وهي خاتمة وصيتي لك» قال: ذلك ومد يده فدنا سعيد إليه فعانقه وبكى ثم قال: والدمع ملء عينيه وشفتاه ترتجفان وذقنه تهتز «إذا شئت يا ولدي أن يفارق جدك هذه الدنيا مرتاحا مطمئنا عاهده بأنك تعمل بوصيته أي أنك لا تبغي سوءا للإمام علي بل إذا رأيت سبيلا للدفاع عنه دافع بكل جهدك.. هل تعاهدني على ذلك؟ ... عاهدني عليه. واجبر قلبي واذكر أني جدك ووالدك ووصيك وإني ربيتك وكفلتك وإني لا أريد بك إلا الخير. هل تعاهدني على ذلك.. قل نعم واجبر قلبي إني قلق عليك ...».
فتأثر سعيد من كلام جده حتى اغرورقت عيناه بالدموع وتذكر حنوه وانعطافه فلم يسعه إلا الإيجاب فعاهده على وصيته.
ولكنه لم يكد يعاهده حتى تذكر عهده لقطام في الضد من ذلك فعظم عليه الأمر على أن البغتة أنسته هول ذلك التضاد. ورأى في جده ميلا إلى الرقاد فدعا الرجل الموكل بخدمته وأمره أن يتولى تعهده في أثناء رقاده وخرج إلى غرفة أخرى نزع فيها ثيابه والتمس الراحة. أما الرقاد فلم يكن له فيه مطمع بعدما انتابه من الهواجس والمشاغل.
على أنه لم يكن يهدأ له بال وإذا فكر في حاله ازداد الأمر خطارة لديه وهاله ما رمى به نفسه من عهدين متناقضين. فكان كلما تصور عدو له عن قتل الإمام علي شعر بارتياح من الخطر الذي كان يخافه على نفسه لو باشر القتل. ولكنه لا يلبث أن يفكر بعهده المكتوب وبقلبه المغلول حتى ترتعد فرائصه ويرتبك في أمره فيهب من فراشه كأنه أصيب بخبل.
الفصل الثامن عشر
طيف قطام
ومازال في مثل ذلك حتى انقضى نصف الليل وهو لم يغمض له جفن ولم يزدد إلا اضطرابا وقلقا. وضاقت الدنيا لديه فنهض من فراشه وتزمل ببرده وعباءته وتعمم وخرج يلتمس الخلاء. وكان الظلام مخيما وقد رقد الناس ولم يبق في شوارع مكة أحد. ففرح لذلك الهدوء وسار لا يدري إلى أين وهو غارق في هواجسه ولم يسر قليلا حتى شعر بالبرد فالتف بالعباءة وظل ماشيا تارة ببطيء وطورا يسرع على غير هدى فما شعر إلا هو بباب المسجد الحرام وأحس لساعته بارتياح. فقال في نفسه لأدخلن المسجد أصلي ركعتين لعل الله يوحي إلي طريقة تخفف اضطرابي. وكان الباب مفتوحا وصحن المسجد خاليا فتأبط نعليه ودخل حتى دنا من الكعبة فصلى وسجد فأحس لساعته براحة فطاف حول الكعبة ثم التمس مكانا وراءها اتكأ فيه وعادت إليه هواجسه. فأرسل بصره يراقب النجوم السابحة في الفضاء وقد اجتذب بصره جمال القبة الزرقاء وأفكاره تائهة في ما أحدق به واشتد البرد عليه فأدخل رأسه في العباءة جعلها خمارا. وكأن التعب والبرد تغلبا عليه فخدر بدنه واستولى عليه النعاس ولكنه لم يكد يغمض جفنيه حتى ابتدرته الأحلام فرأى قطاما بجلباب أسود وقد أسفرت عن محياها فبدت عيناها المكحولتان ورآها تمشي نحوه حافية القدمين على بساط من ريش النعام الأبيض. فخفق قلبه لرؤيتها وهم بالسلام عليها فرآها أعرضت إعراض العاتب وعيناها تتلألآن بالدموع فتفطر قلبه لرؤيتها وساءه إعراضها فهم بالإقبال عليها فلم تسعفه رجلاه لما تولاها من الرعدة فناداها يلتمس قربها فلم تجبه وظلت معرضة وقد تحولت عنه ومشت وهي تنظر إليه شزرا ولسان حالها يقول: «لقد خنت عهدي فما أنت أهل لي».
وحاول سعيد اللحاق بها ليخبرها ببقائه على العزم فلم يستطع ولما ابتعدت عنه هم أن يناديها فأفاق من رقاده فإذا هو وحده بجانب جدار الكعبة والظلام محدق به فمسح عينيه ليتيقن حاله أفي يقظة هو أم في منام ولما تحقق أنه كان في منام حمد الله ولكنه أيقن أنه إذا لقي قطاما لا يرى منها غير الإعراض.
فمكث صامتا تتقاذفه الهواجس وهو لا يهتدي إلى حل مقنع فنهض يلتمس المنزل ليرى ما تم لجده بعد ذلك الحديث. واشتاق للالتحاف بالفراش بعد بضع ساعات قضاها في ذلك الخلاء والبرد قارس. ولم يكد يتلو سورة الفاتحة وهو عائد حتى سمع لغطا خافتا كان أناسا يتسارون. وكان قد وصل إلى مقام إبراهيم أمام الكعبة.
صفحة غير معروفة