أما سعيد فإنه قضى مسافة الطريق بين الكوفة ومكة وهو بين شوق إلى قطام وقلق على أبي رحاب. وكان من شدة فرحه بقطام إنما يود بقاء جده حيا ليبشره برضائها وقبولها لأنه طالما شكى له رغبته فيها. وكان أبو رحاب يتمناها له. وكان سعيد إذا فكر في ذلك فرح ثم يعترض فرحه أمر الصك وقتل الإمام فيضطرب فيعلل نفسه بما يناله من الفخر إذا قتل عليا فضلا عن استرضاء جده لأنه يطفئ ما يجيش في نفسه من نار الانتقام لعثمان فيفرحه قبل موته.
قضى أكثر أيام الطريق في مثل هذه الهواجس لا يبالي بمن حوله من الرفاق كأنه سائر وحده. ولم يكن يشغله عن ذلك ما يلاقيه في سبيله من الجبال والأودية والصحاري ولا ما يمر به من الربوع والأحياء والخيام حتى أشرف على مكة عن أكمة. فإذا هي في منبسط من الأرض تحيط بها الجبال والكعبة قائمة بين أبنيتها قيام الملك بين الأعوان. وكانت الشمس قد مالت نحو الغروب فأسرع في مسيره يلتمس منزل جده وقلبه يخفق خوفا عليه من بأس يصيبه قبل وصوله.
الفصل الحادي عشر
بيت أبي رحاب
ولم يكد يدخل مكة حتى سدل الليل نقابه فساق ناقته يلتمس المنزل قبل اشتداد الظلام وترك رفاقه يهتمون بشؤونهم. وكانت عادته إذا دخل مكة أن يطوف الكعبة قبل الذهاب إلى البيت ولكنه سار في هذه المرة توا إلى المنزل وهو يضطرب خوفا على حياة جده.
فعرج في منعطف يؤدي إلى البيت رأى فيه أناسا عرف أنهم من الأهل والأصدقاء فحياهم وسألهم عن حال أبي رحاب. فلما عرفوه طمأنوه وسبقه بعضهم ليبشر المريض بقدوم حفيده. فلما اطمأن بال سعيد على حياة جده هدأ روعه وترجل عن ناقته وسلمها إلى بعض الخدم ومشى وهو لا يزال بالعباءة والكوفية والسيف. فانتهى إلى باب كبير مقفل دخل من خوخته ولم ينتظر أن يفتحوه له. فمر في فناء لم ير فيه أحدا وسار توا إلى الغرفة التي يقيم فيها جده عادة وفيها مصباح منير دون سائر الغرف. وقبل وصوله الباب استقبله رجل خارج من عنده يمشي الهوينا على رؤوس أصابعه مخافة أن يوقظ المريض من نومه العميق. فعرف سعيد أنه من بعض أهله فسأله عن حال جده.
فقال له: «إنه مستغرق في الرقاد وقد مضى عليه بضعة أيام لا ينام فلما أحس بالنعاس الآن أخرج الناس من غرفته ولم يبق سواي وأوصاني أن لا أوقظه إلا إذا جئت أنت».
قال: دعني أدخل وأراه وهو نائم قال ذلك ونزع حذاءه خارجا ودخل وهو يسترق الخطى. فوطئ العتبة وأطل على الغرفة فإذا هي مضيئة بسراج على مسرجة قصيرة من الخشب الصلب فوق حافة بارزة من الحائط بجانب فراش المريض وكانت فتيلة السراج ثخينة يتصاعد من لهيبها سناج يتطاير فيترك في صعوده آثارا سوداء على الحائط بجانب السراج ولو كان لون الحائط بقي البياض لظهرت آثار السناج أكثر جلاء ولكنه مدهونا بطين أسمر.
وتحول سعيد نحو الفراش وقلبه يخفق لئلا يكون رقاد جده أبديا كما يتفق الكثيرين ممن يهرمون فيموتون وهم نيام. فمشى على حصير من سعف النخل يكسوا أرض الغرفة عليه غطاء من جلد مصقول هو بمنزلة البساط وسار نحو الفراش. وكانوا لما اشتد به الضعف رفعوه عن الأرض إلى مقعد مستطيل ظهره شبكة من نسيج الجلد وهي قدد من جلد يشدونها بين جوانب المقعد كالشبكة يجلسون عليها مباشرة أو يجعلون فوقها الفرش أو نحوها. وكان أبو رحاب قد توسد فراشا رقيقا والتحف ببرد من صوف أسود يغطيه إلى أعلى الصدر وقد توسد على ظهره ويداه مضمومتان تحت اللحاف وعيناه مغمضتان يظللهما شعر حاجبيه فيزيدهما غورا.
وحالما اقترب سعيد من جده رمى ببصره إلى صدره ليرى تنفسه فإذا هو يتنفس تنفسا هادئا فهدأ اضطرابه وسكن باله ولبث واقفا يتأمل في ظواهر الهرم. وتذكر أن جده كان من كبار الهامة طولا وعرضا فرآه قد أصبح هيكلا من عظام مكسوا بالجلد. أما وجهه فلم يكن ظاهرا منه إلا الأنف والجبهة وما بقي منه كان مغطى بالشعر الأبيض الناصع. وازداد ذلك المنظر رهبة حينئذ لضعف النور حتى خيل لسعيد لما أشرف على فراش جده أن رأسه كتلة من القطن المندوف يتخللها ثنيات مظلمة هي الأنف والوجنتان والجبهة وأما ما خلا ذلك فقد غطته اللحية والشاربان والحاجبان. واستطالت لحيته وانبسطت حتى غطت عنقه وصدره ولكنها كانت قليلة الشعر تشف عن عنق دقيق مستطيل بانت عضلاته وفي مقدمها القصبة قد برزت بروزا عظيما. أما الرأس فقد كان حليقا أو لعله أصلع.
صفحة غير معروفة