تقع في وسط «ميدو بانك أفنيو» رقعة بيضاوية ضخمة من العشب عرفت باسم «جرين» (الرقعة الخضراء)، يحيط بها جدار من الأحجار القصيرة السميكة، التي يمكن الجلوس عليها. وعند طرف هذا الجدار توجد مجموعة من أشجار الزان والبلوط الطويلة. لا بد أن هذا المكان كان قرية خضراء فيما مضى، حيث كان يسمع صوت أبناء بليك وهم يلعبون. لا يزال الأطفال يلعبون في ذلك المكان في الوقت الحاضر، ولكنه صار حبيسا مع تغول الضاحية السكنية التي أحاطت به من كل جانب.
اعتاد والد الطفلة النحيلة في وقت فراغه، الذي قل مع ازدياد نجاحه، الانشغال بإنشاء حديقة. حيث توجد مرجة صغيرة ومكان للغسيل، خلف منزلهم، وفي نهاية هذه المرجة الصغيرة توجد قنطرة خشبية، تذكرها الطفلة من أيام طفولتها الأولى، قنطرة تقليدية، مغطاة بالأزهار المعتادة، بألوانها الحمراء، والبيضاء، والوردية السكرية. وتنحدر الحديقة انحدارا شديدا تحت تلك القنطرة نحو «نيذر إيدج». نمت الأزهار نموا عشوائيا في فترة الحرب. فانتشرت في أجمات شوكية مثل تلك الموجودة في القصص الخيالية. عمل والد الطفلة النحيلة، وهو يغني، على السيطرة على تلك الزهور وتهذيبها، فربطها بالأعمدة الخشنة للقنطرة، ولعق أصابعه المجروحة وضحك. وطلب أحجارا من الريف، أحجارا رمادية مثل تلك التي بنيت بعناية في شكل جدران تحيط بأغنام المستنقع. بدأ في إعادة ترتيب تلك الحديقة المنحدرة بإقامة مصاطب مدرجة حجرية جافة تحتوي على أحواض بها أزهار الزنبق، وخشخاش شيرلي، وشجيرات الورود، واللافندر، والزعتر، وإكليل الجبل. استخدم حوضا حجريا قديما لصنع بركة تعوم فيها صغار الضفادع وأسماك أبي شوكة، التي أمسكت بها الطفلة النحيلة داخل شبكة في إحدى النزهات، وهي سمكة حمراء غاضبة أطلقت عليها الطفلة «أومسلوبوجاس». كانت حديقة رائعة الجمال في شكلها الجديد، على الرغم من السخام الموجود في الهواء. أحبت الطفلة النحيلة والدها، كما أحبت الحديقة، وكانت تتنفس بصعوبة.
ربما كان من المتوقع من والدة الطفلة النحيلة، التي أظهرت شجاعة شديدة وسعة حيلة في وقت الحرب، أن تجد في عودتها إلى منزلها المريح الذي أبعدت عنه نهاية سعيدة. إلا أنها عانت في الواقع مما أطلقت عليه الطفلة النحيلة فيما بعد الرتابة اليومية. لم تكن في الواقع أما تجيد اللعب مع أطفالها، ولا تستطيع الطفلة النحيلة تذكر أن والدتها كانت تقرأ بصوت مرتفع، على الرغم من الكتب التي لا حصر لها التي كانت تعطيها للطفلة. أما في أثناء الحرب، حين كانت تعمل بالتدريس، فكان لديها أصدقاء. فصديقتها ماريان اعتادت أن ترتدي قبعة خضراء بها ريشة أنيقة من ريش طائر الدراج، وتمثل دور روبن هود فتركض في الغابة وتطلق السهام من الأقواس. كانت والدة الطفلة النحيلة تشاهدها في إحراج شديد، وريبة من هذا السلوك. كانت الطفلة النحيلة تشاهد والدتها وتسجل ملاحظاتها. إلا أن والدة الطفلة قد عاشت في الريف وفي قصصه. ومن الواضح أن الفتيان الذين كانت تدرس لهم قد أحبوها. فقد كانوا يهدونها كائنات حية؛ قنفذا تتساقط منه براغيث على السجادة، وحوضا مليئا بأسماك سمندل الماء الضخمة ذات العرف، التي كانت تحاول الهرب في وقت التكاثر، ولكنها وهنت وماتت تحت موقد الغاز. أطلق سراح القنفذ في الحقل الموجود في نهاية الحديقة، وقيل لمانحه إنه هرب. فأحضر واحدا آخر مليئا بالبراغيث أيضا في اليوم التالي، ولكن أطلق سراحه هو الآخر. حصلت كذلك على كتل لزجة ضخمة من بيض الضفادع، ثم أحواض مليئة بصغار الضفادع السوداء كالحبر التي أكلت بعضها. في تلك الأيام، كانت والدة الطفلة النحيلة تخرج لتتمشى، وتطلق بمحبة أسماء على جميع الأزهار. كانت الطفلة النحيلة لديها مجموعة كاملة من كتب «جنيات الزهور» التي تحتوي على أشعار بارعة النظم وصور رائعة الجمال. أزهار النسرين، واللوف الأبقع، وست الحسن، والبنفسج، وزهور اللبن، وزهور الربيع.
تأكدت الطفلة النحيلة بعد عدة سنوات أن العودة التي طال انتظارها أفقدت والدتها إقبالها على الحياة. إذ تغلبت عليها الرتابة. فجعلت نفسها وحيدة وصارت تنام في فترات بعد الظهيرة، وتقول إنها تعاني من آلام في الأعصاب وصداع مرضي. فصارت الطفلة النحيلة ترى أن كلمة «ربة بيت» هي مرادف لكلمة «سجينة». فطارد شبح الخوف من الحبس الطفلة النحيلة، على الرغم من عدم اعترافها صراحة بهذا.
الصخور في «ريزينجيبيرجا».
لقد صارت المساحات الخارجية في زمن الحرب الذي عاشته؛ من حقل القمح، والمرج، وشجرة المران، ونبات الزعرور، وسياج الأشجار، والبركة الطينية، والضفة المتشابكة، صارت جميعها أشياء في عقل الطفلة النحيلة، تماما مثل اللوح الإردوازي أو البازلتي. كانت جميعها مضغوطة في شكل أجمة كروية بجذور وبراعم ممتدة، يوجد معها أشياء زاحفة وطائرة وعائمة، ورقعة من سماء زرقاء قوية، ورقعة أخرى من عشب أخضر، وأخرى من ذرة ذهبية، وأخرى من أرض داكنة تحت السياج الكثيف. كان عالما صغيرا، نفيت أو أجليت إليه. إنها جنة على الأرض كانت موجودة فيما مضى.
ما زالت تقرأ وهي على سريرها في الليل، فتعود دوما إلى «أسجارد والآلهة» و«رحلة الحاج»، وقد استلقت على بطنها في مدخل غرفة نومها لتلتقط الضوء الساقط على الأوراق، وتزحف إلى الخلف مثل الثعبان إذا سمعت حركات في الأسفل. انتهى زمن تعتيم زجاج النوافذ، وسطع ضوء القمر عبر نافذة غرفتها وظهرت أشكال غريبة تومض وتتحرك في سقف الغرفة، أسواط تضرب، ومكانس، وأفاع منتصبة، وذئاب متسابقة. حين كانت صغيرة للغاية، كانت تخاف تلك الأشكال. إلا أنها الآن صارت تشاهدها في سعادة، وتكون منها قصصا ومخلوقات. لقد كانت تلك الأشكال انعكاسا لحركة أغصان شجرة المران البرية التي تهزها الرياح، والتي ظهرت من تلقاء نفسها، تماما كما تفعل تلك الأشجار في عناد عند عتبة منزل الحديقة.
قال والد الطفلة النحيلة إن هذه الشجرة لا بد من إزالتها. فقد كانت شجرة برية، ولا مكان لها في حديقة منزلية. لقد أحبت الطفلة النحيلة الشجرة، وأحبت والدها، الذي عاد إليها بالرغم من جميع توقعاتها السوداوية. وشاهدته وهو يأخذ فأسا ويتجه نحو الشجرة، ويغني وهو يقطعها، ويقسم الشجرة الحية إلى حطب وجذع وحزم من عصي خشبية. فأغلقت بوابة ما داخل رأسها. فلا بد لها أن تتعلم العيش في رتابة، هذا ما قالته في نفسها، في بيت، في حديقة، في منزل، توجد فيه الزبد والقشدة والعسل مرة أخرى، وكانت جميعها طيبة الطعم. لا بد لها من تذوق طعم زمن السلم.
إلا أنه على الجانب الآخر من البوابة المغلقة، يقع عالم أسود زاه دخلته وعايشته بعد إجلائها. إنه عالم شجرة المران وجسر قوس المطر، الأبديان كما بدوا، واللذان دمرا في طرفة عين. الذئب بشعر رقبته وأسنانه الدامية، والأفعى بلبدتها من الزوائد الجلدية، ولوكي المبتسم بشبكة صيده وألسنة اللهب التي تحيط به، والسفينة الخشنة السطح المصنوعة من أظافر الموتى، والشتاء العظيم، وحريق «سورتر» الهائل، والسطح الأسود غير الواضح المعالم، تحت سماء سوداء غير واضحة المعالم، في نهاية العالم.
أفكار حول الأساطير
صفحة غير معروفة