في الفترة الوسيطة من التاريخ، العالم مدان والإنسان مدان، لأنهما شريكان في سر الشر الذي يعمله الشيطان خلال هذا الدهر: «فقال لهم يسوع: إن وقتي لم يحضر بعد، أما وقتكم ففي كل حين حاضر. لا يقدر العالم أن يبغضكم ولكنه يبغضني أنا لأني أشهد عليه أن أعماله شريرة» (يوحنا، 7: 6-7). «العالم كله قد وضع في الشرير (= الشيطان)» (رسالة يوحنا الأولى، 7: 19). ولذلك إنه عالم خداع تثقل عناصره على الإنسان وتستعبده. فالإنسان قبل ظهور المسيح كان مثل الوارث القاصر الذي وضع تحت وصاية وكلاء إلى الوقت المؤجل من أبيه، وكما أن هذا الوارث القاصر هو بمثابة العبد مع كونه صاحب الأرض، كذلك الإنسان المستعبد من قبل قوى الشر رغم أنه وارث هذا العالم (غلاطية، 4: 1-3). وهو في كل خطوة مدعو من قبل الشيطان إلى الخطيئة، وهذه الدعوة إلى الخطيئة هي ما يطلق عليه العهد الجديد اسم التجربة. فلقد سمح الله للشيطان بالتجربة ولكنه ترك للإنسان منفذا منها: «لم تصبكم تجربة إلا بشرية، ولكن الله أمين. الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة أيضا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا» (1 كورنثة، 10: 13). ولهذا يدعو المؤمن ربه عند كل صلاة أن ينجيه من الشيطان ولا يوقعه في التجربة: «لا تدخلنا في تجربة ولكن نجنا من الشرير.» (1-4) ملكوت الرب أو مرحلة الفصل
ميلاد المخلص وافتتاح الملكوت «في الشهر السادس، أرسل جبرائيل، الملاك من الله، إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم، فدخل إليها الملاك وقال: سلام لك أيتها المنعم عليها، الرب معك. مباركة أنت في النساء. فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية. فقال لها الملاك: لا تخافي لأنك قد وجدت نعمة عند الله، وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيما وابن العلي يدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية. قالت مريم للملاك: كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا؟ فأجاب: الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعى ابن الله ... قالت مريم: هو ذا أنا أمة الرب، ليكن لي كقولك. فمضى من عندها الملاك» (لوقا، 1: 26-33). «أما ولادة يسوع فكانت هكذا: لما كانت مريم مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا، وجدت حبلى من الروح القدس. فيوسف رجلها إذ كان بارا ولم يشأ أن يشهرها أراد تخليتها سرا، ولكن فيما هو متفكر في هذه الأمور إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا: يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس، فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم. وهذا كله لكي يتم ما قيل من النبي القائل: هي ذي العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا» (متى، 1: 18-23). «وفي تلك الأيام صدر أمر من أغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة، فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد إلى مدينته. فصعد يوسف أيضا من الجليل من مدينة الناصرة إلى (مقاطعة) اليهودية، إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم، لكونه من بيت داود وعشيرته، ليكتتب مع مريم امرأته ... وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد، فولدت ابنها البكر وقمطته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل (خان المسافرين)» (لوقا، 2: 1-7).
وهكذا عند منتصف الليل، وعند أول الانقلاب الشتوي، حيث تصل الشمس أدنى مدى لها في الانخفاض مستعدة لصعود ذروة السمت مرة أخرى، وقع الحدث الذي هو بؤرة الزمن. لقد ولدت العذراء ابنا فالتقت عنده السرمدية بالزمن، لأنه إله حقيقي وإنسان حقيقي. وهنا تتابع الأدبيات غير الرسمية وصف الحدث بالطريقة الملحمية المعتادة في الأدبيات الدينية الأخرى. فعند ولادة يسوع هدأت الطبيعة وكأنما سكن نبضها لوهلة، وسرى في أرجائها وحي ينبئ كل عناصرها بأن الكلمة قد تجسد في الزمن وفي التاريخ. لقد أوحي إلى كل فصائل الخلق من الأحجار والصخور عند أسفل سلم الموجودات، وإلى الملائكة في أعلاه، وتضعضعت أساسات معبد روما الكبير، وذلك وفقا لنبوءة عرافة دلفي بأن المعبد سيبقى قائما حتى تلد العذراء ابنا. وأوحي إلى المياه وينابيع الأنهار التي فاضت زيتا بدل الماء، وإلى النباتات حتى أن الكرمة أورقت في الشتاء وحملت عناقيدها. وأوحي إلى الحيوانات والطيور فصاح الديك عند منتصف الليل. وأوحي إلى الملائكة فهبطت من عليائها وأحاطت بمكان الميلاد حتى حول ألقها الليل إلى نهار. وما أن عبرت فترة الصمت الشامل في الطبيعة حتى اندفع الملائكة في السماوات وعلى الأرض ينشدون: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة.
4
فيما عدا الإشارات القليلة التي أوردها إنجيل لوقا عن طفولة يسوع، فإن الأناجيل الرسمية تصمت صمتا تاما عن نشأة يسوع الأولى ويفاعته، وتفتتح قصتها بالمشهد الأول الذي نرى فيه يسوع وهو رجل مكتمل في الثلاثين يأتي إلى يوحنا المعمدان، نبي ذلك الوقت، ليتعمد على يديه بماء الأردن، وعند خروجه من الماء يهبط عليه الروح القدس معلنا عن هوية يسوع ومفتتحا رسالته. نقرأ في إنجيل لوقا: «وإذ كان الشعب ينتظر، والجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح، أجاب يوحنا الجميع قائلا: أنا أعمدكم بماء ولكن يأتي من هو أقوى، الذي لست أهلا لأن أحل سيور حذائه، هو سوف يعمدكم بالروح القدس، ونار» (لوقا، 3: 15-16). وبينما يسوع خارج من الماء: «وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلا مثل حمامة وآتيا عليه، وصوت من السماوات قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت» (متى، 3: 16-17).
لقد افتتح هبوط الروح القدس على يسوع المرحلة الثالثة من مراحل التاريخ، وهي مرحلة الفصل بين الخير والشر المتمازجين في المرحلة السابقة، وقد شبه يوحنا المعمدان عملية الفصل هذه بعملية تنقية بيدر القمح من التبن الذي يخالطه. فالمسيح المقبل هو: «الذي رفشه في يده، وسينقي بيدره وبجمع القمح إلى مخزنه، وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ» (لوقا، 3: 17). ويشبه يسوع مهمته بعملية تنقية القمح من الزوان الذي زرعه الشيطان في وسط الحقل لإفساد الزرع: «يشبه ملكوت السماوات إنسانا زرع زرعا جيدا في حقل. وفيما الناس نيام جاء عدوه وزرع زوانا في وسط الحنطة ومضى. فلما طلع النبات وصنع ثمرا، حينئذ ظهر الزوان أيضا فجاء عبيد رب البيت وقالوا له: أتريد أن نذهب ونجمع الزوان؟ قال: لا، لئلا تقتلعوا الحنطة مع الزوان وأنتم تجمعونه، دعوهما ينميان معا إلى وقت الحصاد ، وفي وقت الحصاد أقول للحصادين اجمعوا أولا الزوان واحزموه حزما ليحرق، وأما الحنطة فاجمعوها إلى مخزني» (متى، 13: 24-30). كما يشبه يسوع مهمته أيضا بعملية تمييز الجداء السود عن الخراف البيض: «ومتى جاء ابن الإنسان ... يجتمع أمامه الشعوب، فيميز بعضهم عن بعض كما يميز الراعي الخراف من الجداء، فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن يساره، ثم يقول للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبي لترثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم» (متى، 25: 31-34).
ولكن الشيطان لم يكن ليسمح لعملية الفصل أن تنطلق بهذه السهولة، فما إن طلع يسوع من نهر الأردن حتى أقبل عليه وكشف له عن هويته كأمير لهذا العالم، ثم عرض عليه أن يدفع إلى يديه ما أعطي من سلطان على العالم، لأنه يستطيع التصرف به ووهبه لمن يشاء: «ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس. بعد ما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا، فتقدم إليه المجرب وقال له: إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزا. أجاب وقال: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلمة تخرج من فم الله. ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب، أنه يوصي ملائكته بك ... قال له يسوع: مكتوب أيضا أن لا تجرب الرب إلهك» ... ثم أصعده إبليس إلى جبل عال وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان، وقال له إبليس لك أعطي كل هذا السلطان ومجدهن (أي مجد الممالك) فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع. فأجابه يسوع وقال: اذهب يا شيطان، لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد ... ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين» متى: 4، ولوقا: 4.
ابتدأ يسوع مهمته بأن أعلن عن نفسه باعتباره مسيح الرب، ولكنه كان حذرا على الدوام من أن يفهم من ذلك أنه المسيح السياسي الذي كان اليهود ينتظرونه ليعيد مجد مملكة داود الضائع. فبعد أن رجع من البرية حيث صام واعتكف أربعين يوما: «جاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى، ودخل المجمع حسب عادته السبت وقام ليقرأ. فدفع إليه سفر إشعيا النبي، ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوبا فيه: «روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي منكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق والعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبلة.
5
ثم طوى السفر وسلمه إلى الخادم وجلس، وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة. فابتدأ يقول لهم إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم» (لوقا، 4: 16-21).
صفحة غير معروفة