وهو القرين السماوي للنبي، فأمره أن يعتزل ملته ويطهر نفسه استعدادا للوحي الثاني الذي سيهبط عليه عندما يغدو قادرا على الدعوة والتبشير. في سن الرابعة والعشرين أتاه التوم ونقل إليه وحي الرسالة كاملا غير منقوص، ثم أمره أن يظهر للناس ويبلغهم ما أمره الله تعالى إبلاغهم. نقرأ في كتاب الفهرست للمؤلف العربي ابن النديم: «فلما تم له اثنتا عشر سنة أتاه الوحي، على حد قوله، من ملك جنان النور وهو الله (تعالى عما يقول). وكان الملاك الذي جاءه بالوحي يسمى التوم، وهو بالنبطية ومعناه القرين. فقال له: اعتزل هذه الملة فلست من أهلها، وعليك بالنزاهة وترك الشهوات ولم يئن لك أن تظهر لحداثة سنك. فلما تم له أربع وعشرون سنة ، أتاه التوم فقال: عليك السلام مني ومن الرب الذي أرسلني إليك واختارك لرسالته، وقد أمرك أن تدعو وتبشر ببشرى الحق من قبله وتحتمل في ذلك كل جهدك. فخرج يوم ملك شابور بن أردشير ووضع التاج على رأسه، وهو يوم الأحد أول يوم من نيسان والشمس في برج الحمل، ومعه رجلان قد تبعاه على مذهبه، أحدهما يقال له شمعون والثاني زكوا، ومعه أبوه ينظر ما يكون من أمره ... وقد زعم ماني أنه الفارقليط الذي بشر به عيسى بن مريم. واستخرج ماني مذهبه من المجوسية والنصرانية. والقلم الذي كتب به كتبه مستخرج من السرياني والفارسي.»
ونقرأ في نص قبطي عن لسان ماني نفسه: «في هذه السنة نفسها، عندما كان الملك أردشير على وشك التتويج، نزل الفارقليط
3
الحي وكلمني، وأباح لي معرفة السر المحجوب بخصوص عصور وأجيال بني البشر، السر العميق والعالي، سر النور والظلام، سر الصراع والحرب الماحقة، وعلمني ما هو كائن وما كان وما سيكون.» إن الفارقليط، أو البارقليط، المذكور هنا، هو الذي أشار إليه إنجيل يوحنا في أكثر من موضع، ويرد في الترجمات العربية تحت اسم «المعزي». نقرأ في الإصحاح 14: «إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يراه ولا يعرفه. أما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم.» ونقرأ في الإصحاح 15: «ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معي منذ الابتداء.» وبما أن الفارقليط هو التوءم والصورة العليا لماني، فقد دعا ماني نفسه بالبارقليط أيضا، واعتبر نفسه متمما لرسالة يسوع في صيغتها الأصلية التي لم يفهمها الرسل.
اعترف ماني بقيمة الديانات السابقة، ولكنه اعتبرها مؤقتة وغير كاملة. فلقد كشف كل من بوذا وزرادشت ويسوع عن حقيقة الدين، كل بما يناسب عصره والأرض التي ظهر بها والشعب الذي توجه إليه بلغته. أما ماني الذي دعا نفسه بخاتم الأنبياء، فقد جاء ليكمل رسالة هؤلاء ويطورها، لأنه يتوجه برسالته الجديدة إلى جميع بني البشر أيا كانوا وبأية لغة تحدثوا. وهو يصف هذا الطابع العالمي لتعاليمه فيقول: «كما أن نهرا يرفد آخر لتكوين تيار دافق قوي، كذلك صبت الكتب القديمة في كتبي فشكلت حكمة كبرى لا مثيل لها في الأجيال السابقة.»
ويرد ما يشبه قول ماني هذا في كتب المؤلفين العرب. نقرأ في كتاب المغني للقاضي عبد الجبار: «وعندهم إن أول ما بعث الله تعالى بالعلم آدم، ثم شيتا ثم نوحا وبعث زرادشت إلى أرض فارس، والبدة (= البوذا) إلى أرض الهند، وعيسى المسيح إلى بلاد المغرب، ثم ماني خاتما للنبيين.» ونقرأ في كتاب الملل والنحل للشهرستاني: «واعتقاده - أي ماني - في الشرائع والأنبياء أن أول من بعث الله بالعمل والحكمة آدم أبو البشر، ثم شيتا بعده، ثم نوحا بعده، ثم إبراهيم بعده، ثم بعث بالبدة إلى أرض الهند، وزرادشت إلى أرض فارس، والمسيح كلمة الله وروحه إلى أرض الروم والمغرب، وبولص بعد المسيح إليهم، ثم يأتي خاتم النبيين.» ونقرأ في كتاب الآثار الباقية للبيروني: «وكان ابن ديصان ومرقيون ممن استجابا وسمعا كلام عيسى وأخذا منه طرفا، ومما سمعا من جهة زرادشت طرفا، واستنبط كل واحد من كلا القولين مذهبا يتضمن القول بقدم الأصلين، وأخرج كل منهما إنجيلا نسبه إلى المسيح وكذب ما عداه، ثم جاء من بعدهما ماني، وكان قد عرف مذهب المجوس والنصارى والثنوية، فتنبأ وزعم في أول كتابه الموسوم بالشابورقان أن الحكمة هي التي لم تزل رسل الله تأتي بها في زمن دون زمن، فكان مجيئها - أي الحكمة والأعمال - في بعض القرون على يدي الرسول الذي هو البد (= البوذا) إلى بلاد الهند، وفي بعضها على يدي زرادشت إلى أرض فارس، وفي بعضها على يدي عيسى إلى أرض المغرب، ثم نزل هذا الوحي، وجاءت هذه النبوة في هذا القرن الأخير على يدي أنا ماني رسول الله الحق إلى أرض بابل ... وذكر ماني في إنجيله أنه الفارقليط الذي بشر به المسيح، وأنه خاتم النبيين.»
كتب ماني خلال حياته عددا من المؤلفات يربو على العشرة، إضافة إلى بعض الرسائل القصيرة، وكتاب مصور يشرح فيه عقيدته من خلال رسوم فخمة أعدها بنفسه، وفيما عدا كتاب الشابورقان الذي ألفه بالفارسية وأهداه إلى الملك الساساني شابور، فإن بقية كتبه قد خطت باللغة والقلم الآرامي الشرقي. وكانت الآرامية في ذلك الوقت لغة الكتابة والقراءة بين متعلمي ذلك العصر وأداة التخاطب الديبلوماسي. وهذا ما أمن للمانوية انتشارا واسعا لم يكن لأية لغة أخرى أن تؤمنه. لم يبق من كتب ماني، التي نعرف عناوينها فقط، إلا شذرات عثر عليها بشكل خاص في طورفان بآسيا الوسطى وفي الفيوم بمصر. ولكن مقاطع مطولة من هذه الكتب قد وردت في مؤلفات القديس أوغسطين وابن النديم. هذه الشذرات الأصلية والمقاطع المنقولة، تكشف لنا عن مدى اطلاع ماني على ثقافة عصره. فلقد درس بالتأكيد الأناجيل الأربعة ورسائل بولس الرسول وغيرها من أسفار العهد الجديد، القانونية منها والمنحولة، وكان مطلعا على الأسفار التوراتية المنحولة وعلى رأسها كتاب أخنوخ الأول وكتاب أخنوخ الثاني. ولم يخف إعجابه بتوما الرسول الذي توجه للتبشير في مناطق الهند، فكانت رحلته التبشيرية الأولى تتبع خطا ذلك المبشر العظيم، إضافة إلى هذا التراث المسيحي واليهودي، فقد كان ماني مطلعا على الزرادشتية في شكلها الأصلي وفي أشكالها المتأخرة. وخلال رحلاته التبشيرية المبكرة نحو الشرق احتك بالعديد من الثقافات الشرقية، واطلع بشكل خاص على بوذية المهايانا.
بعد أن تلقى ماني الأمر بالتبشير، دعا إلى دينه أهله الأقربين؛ فاستمال والده وأعضاء بارزين في أسرته، ثم شرع في رحلته التبشيرية الأولى نحو أطراف الهند ومناطق آسيا الوسطى، آملا في استمالة الجيوب المسيحية التي شكلتها بعثة توما الرسول، فوصل إلى إقليم السند ثم إلى إقليم بلوخستان وإقليمي مكران وطورفان. ولعل أهم ما أنجزته حملة ماني التبشيرية الأولى هذه هو استمالة ملك طورفان وحاشيته، فاعتنق الملك المانوية وجعلها دينا للمملكة بدلا عن البوذية. لم يقدر لرحلة ماني الشرقية أن تدوم طويلا، فلقد قرر الرجوع إلى موطنه بعد أن سمع بوفاة الملك أردشير وصعود ابنه شابور إلى العرش، وفي طريق عودته مر بإقليم ميسان الذي يحكمه مهرشاه أخو شابور، فدخل عليه مبشرا بديانته، وهنا تروي الأخبار المانوية أن ماني دخل على مهرشاه وهو في بستانه الذي كان حديث الناس لجماله وكثرة أشجاره ومائه وحسن تنظيمه، فقال له مهرشاه: هل يوجد في الفردوس الذي تتغنى به بستان كبستاني هذا؟ فلما سمع ماني هذا أراه بقوته الخارقة الملأ الأعلى وجعله يشم نسيم الحياة الأبدية، وأراه بقعا من الفردوس السماوي وأشياء أخرى مما يمكن رؤيته هناك، فسقط الرجل على الأرض مغشيا عليه مدة ثلاث ساعات، ثم وضع الرسول يده على رأسه فأفاق وسجد عند قدمي ماني معلنا إيمانه. تبين لنا هذه الحادثة الجانب الآخر من شخصية ماني، فقد كان طبيبا ماهرا يعالج الجسد بالعقاقير والروح بطرد الشياطين منها، وكان صاحب معجزات تتراوح بين شفاء الأمراض المستعصية ورفع الأرواح إلى السماء ساعة يشاء، وقد عرج هو نفسه إلى السماء وفق إحدى الروايات ليتلقى الوحي الإلهي هناك.
أدرك ماني أن دعوته لن يقيض لها النجاح دونما سند سياسي قوي من أعلى سلطة في البلاد، فاتصل بالقصر الملكي وحاور الأمراء والنبلاء فاستمال فريقا منهم، وبينهم أخو الملك المدعو فيروز الذي حصل لماني على الإذن بالدخول على شابور، فمثل أمامه وقدم له كتابه المعروف بالشابورقان، نسبة إلى الاسم الملكي. عن هذه المقابلة الحاسمة في حياة ماني يحدثنا ابن النديم في الفهرست فيقول: «وجول ماني في البلاد قبل أن يلقى شابور، ثم إنه دعا أخا شابور بن أردشير فأوصله إلى أخيه شابور، فدخل إليه وعلى كتفيه مثل السراجين من نور. فلما رآه أعظمه وكبر في عينيه، وكان قد عزم على الفتك به وقتله، فلما لقيه داخلته له هيبة وسر به وسأله عما جاء فيه، فوعده أنه يعود إليه. وسأله ماني عدة حوائج منها أن يعز أصحابه في البلاد وسائر بلاد مملكته، وأن ينفذوا حيث شاءوا، فأجابه شابور إلى جميع ما سأل. وكان ماني قد دعا الهند والصين وأهل خراسان، وخلف في كل ناحية صاحبا له.» ويروي ماني نفسه عن هذه المقابلة قائلا: «مثلت أمام الملك شابور فاستقبلني بحفاوة كبيرة، ووافق على أن أتجول في البلاد وأن أبشر برسالة الحياة. وأمضيت بعد ذلك عاما بين حاشيته.» وقد بلغ من تقريب شابور لماني أنه اصطحبه في حملته الكبرى ضد الروم من أجل استعادة النفوذ الفارسي في آسيا الصغرى، فقاتل ماني إلى جانبه، على ما يذكره المؤلف أليكسندر ليكوبوس «وهو من فلاسفة الأفلاطونية المحدثة» في رده على المانوية.
كانت سنوات العلاقة الطيبة مع شابور بمثابة الفترة الذهبية للدعوة المانوية، فقد تم خلال هذه الفترة تأسيس الكنيسة المانوية، وتنظيمها وفق هيكل مراتبي دقيق يتألف من خمس طبقات. في الطبقة الأولى العليا هناك الحواريون أو الرسل وعددهم اثنا عشر رسولا، وفي الثانية الأساقفة وعددهم اثنان وسبعون، وفي الثالثة الكهنة وعددهم ثلاثمائة وستون، وفي الرابعة المختارون وعددهم غير محدد لأنه يتوقف على عدد المؤمنين الراغبين في التخلي عن الدنيا والالتزام بالقواعد السلوكية والأخلاقية الصارمة الخاصة بالكهنوت المانوي، أما الطبقة الخامسة والأخيرة في السلم فتضم عامة المؤمنين. ومن مقر إقامته في طيسفون بعث ماني بحوارييه ينشرون الدين في الجهات الأربع، ولاقت دعوته نجاحا كبيرا في سورية ومصر وآسيا الصغرى، كما دخلت عقر دار الإمبراطورية الرومانية في أوروبا. وباتجاه الشرق تجاوز المبشرون المانويون آسيا الوسطى إلى أطراف الصين. وتولى ماني بنفسه حملات تبشيرية عديدة مؤسسا جماعات جديدة من الأتباع أني رحل، تاركا بين أيديهم نسخا من كتبه وخصوصا إنجيله المدعو بالإنجيل الحي. وكان يتباهى بالقول بأن كتب من سبقوه من أصحاب الرسالات الروحية دونت بعد وفاتهم وبيد خلفائهم، أما هو فقد دون كتبه بنفسه. وعلى حد وصف أحد المراجع المسيحية المعاصرة له، فقد كان ماني يشاهد بين الناس مرتديا سروالا عريضا لونه أصفر مائل إلى الاخضرار وعباءة خضراء مائلة نحو الزرقة، وبيده عصا من الأبنوس، وتحت إبطه الأيسر كتاب بابلي «أي مكتوب بالآرامية». عن هذا النشاط ونتائجه كتب ماني يقول: «لقد وصل أملي - أي الكنيسة المانوية - إلى مشارق الأرض ومغاربها، شماليها وجنوبها، وهذا ما لم يحدث لأي داعية من قبلي.»
صفحة غير معروفة