إن خلو مفهوم التاريخ في الأيديولوجيا التوراتية من صراع الخير والشر، ومن فكرة نهاية الزمن التي يعقبها تحويل كامل للوجود إلى مستوى ماجد وجليل، وافتقاد الإله التوراتي إلى أهم الخصائص والصفات التي تقربه من مفهوم «الله»، وأهمها الخير والعدالة، يستتبع خلو هذه الأيديولوجيا من فكرة خلاص الروح وخلاص الإنسانية جمعاء من سلطان الموت ودخولها في الأبدية. فالإله التوراتي لم يتدخل في تاريخ الإنسانية إلا في بداياته وبشكل سلبي لا إيجابي، وعندما قرر التدخل في التاريخ بشكل فعلي، اقتصرت خطته التاريخية على قيادة بني إسرائيل بنفسه وتحقيق مملكته على الأرض من خلالهم. من هنا فإن هذا الإله غير معني بالإنسان، ومفهوم الإنسانية غائب تماما عن الفكر التوراتي. فإذا أتينا إلى ما تجلبه نهاية التاريخ للشعب المختار، لما وجدنا فيها سوى مملكة أرضية يوتوبية لا عزاء فيها للروح التي تبقى أسيرة لسلطان الموت.
تنسج التصورات التوراتية عن حياة ما بعد الموت على منوال التصورات الرافدينية والسورية القديمة، فأرواح الموتى تذهب إلى العالم الأسفل المدعو بالعبرية شيؤل، والتي ترد في الترجمات العربية على عدة أشكال: فهي الهاوية، والهاوية السفلي، والجب الأسفل، والحفرة السفلى. هذه الهاوية فاغرة فاها لتلتهم كل من دنت ساعته ونفذت أيامه المعدودة، أو كل من حم عليه القضاء وهو في عز شبابه. فعلى حد قول سفر الأمثال: «الهاوية والهلاك لا يشبعان» (27: 20). وأيضا: «ثلاثة لا تشبع، وأربعة لا تقول كفى، الهاوية والرحم العقيم وأرض لا تشبع ماء، والنار لا تقول كفى» (30: 16). وهي أرض ظلمة وديجور لا يرى أهلها نورا: «قد شبعت من المصائب نفسي وحياتي إلى الهاوية دنت ... وضعتني في الجب الأسفل، في ظلمات في أعماق» (أيوب، 10: 21-22). وسكانها ظلال وأخيلة: «الهاوية من أسفل مهتزة لك، لاستقبال قدومك، منهضة لك الأخيلة» (إشعيا، 14: 9). والإقامة فيها أبدية والطريق إليها ذو اتجاه واحد: «هكذا الذي ينزل إلى الهاوية لا يصعد ولا يرجع بعد إلى بيته» (أيوب، 7: 9-10). وإليها تهبط أرواح الأشرار والأخيار معا، وأرواح مختاري الرب وأنبيائه في ذلك مثل الفجار والعصاة. يقول يعقوب عندما نقل إليه أولاده خبر موت يوسف: «فمزق يعقوب ثيابه وناح على ابنه أياما كثيرة. ... وقال إني نازل إلى ابني نائحا إلى الهاوية السفلى» (التكوين، 37: 36).
هذا العالم الأسفل هو مملكة مستقلة لا سلطان لإله التوراة عليها، وأهلها لا يعرفون الرب ولا يسبحون بحمده، وهو من جانبه قد نسيهم ومن يده انقطعوا: «بين الأموات فراشي مثل القتلى المضطجعين في القبر الذين لا تذكرهم بعد وهم من يدك انقطعوا ... أفلعلك يا رب للأموات تصنع عجائب أم الأخيلة تقوم تمجدك؟ هل يحدث في القبر برحمتك أو بحقك في أرض النسيان. أما أنا فإليك يا رب صرخت وفي الغداة صلاتي تتقدمك» (المزمور 88: 5-13). «لأن الهاوية لا تحمدك، الموت لا يسبحك، لا يرجو الهابطون إلى الجب أمانتك. الحي هو الذي يحمدك كما أنا اليوم» (إشعيا، 38: 18-19). «في عز أيامي أذهب إلى أبواب الهاوية، قد أعدمت بقية أعوامي، وقلت لا أرى الرب ، الرب في أرض الأحياء» (إشعيا، 38: 9-10). «ليس الأموات يسبحون الرب، ولا من ينحدر إلى أرض السكون. أما نحن فنبارك الرب من الآن وإلى الدهر» (المزمور 115: 17). «إليك يا رب أصرخ، وإلى السيد أتضرع. ما الفائدة من دمي إذا نزلت إلى الحفرة ؟ هل يحمدك التراب هل يخبر بحقك؟ استمع يا رب وارحمني ... لكي تترنم لك روحي ولا تسكت» (المزمور 30: 10-12).
ونظرا لغياب فكرة البعث والحساب والعالم الآخر، فإن ثواب الرب وعقابه يجري على هذه الأرض وخلال حياة الناس، ويظهر ثواب الرب بشكل رئيسي بطول العمر: «أكرم أباك وأمك لكي يطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك». (الخروج، 20: 12). «مخافة الرب تزيد الأيام وسنو المنافقين تقصر» (الأمثال، 10: 27). «يا بني لا تنس شريعتي ولا ينس قلبك وصاياي، فإنها تزيدك طول أيام وسني حياة وسلاما» (الأمثال، 3: 1-2). ومع ذلك قد نجد الأشرار يكافئون بطول الأيام ورغد العيش والأخيار يموتون بحسرة ولم يذوقوا سعادة قط. نقرأ في سفر أيوب: «لماذا تحيا الأشرار ويشيخون، نعم، ويتجبرون قوة؟ نسلهم قائم أمامهم معهم، وذريتهم في أعينهم، بيوتهم آمنة من الخوف وليس عليهم عصا الله» (21: 7-9). والفريقان يمضيان إلى آخرة واحدة، كما يتابع أيوب فأين العدالة: «هذا يموت في عين كماله كله مطمئن وساكن، أحواضه ملآنة لبنا ومخ عظامه طري، وذاك يموت بنفس مرة ولم يذق خيرا. كلاهما يضطجعان معا في التراب والدود يغشاهما» (21: 23-26). وهذا الاضطجاع هو الهجعة التي لا قيام منها أيضا: «الإنسان يسلم الروح فأين هو؟ قد تنفذ المياه من البحر والنهر يجف و(لكن) الإنسان يضطجع ولا يقوم» (14: 10-12). ويشبه سفر الجامعة موت الإنسان بموت البهيمة لأن الحادثة تودي بهما إلى الفناء: «موت هذا كموت ذاك ونسمة واحدة للكل، فليس للإنسان مزية على البهيمة لأن كليهما باطل، يذهب كلاهما إلى مكان واحد» (3: 19-20).
على أن إشارات قليلة وغامضة عن خلود الروح ترد في أسفار الأنبياء، منها ما نقرؤه في سفر دانيال: «في ذلك الوقت يقوم ميخائيل الرئيس العظيم (رئيس الملائكة) القائم لبني شعبك، ويكون زمان ضيق لم يكن (مثله) منذ كانت أمة إلى ذلك الوقت ... وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي» (12: 1-2). مثل هذه الإشارات القليلة والغامضة لم تؤثر على موقف الأيديولوجيا الرسمية من مسألة خلود الروح، ولكنها فتحت الباب واسعا أمام الأسفار غير القانونية لتعيد النظر بشكل جذري في هذه المسألة، على ضوء المعتقد الزرادشتي الذي نهلت منه بحرية تامة بعيدا عن الرقابة الرسمية.
خلاصة
إن أفضل ما نصف به الأيديولوجيا الدينية التوراتية هو أنها زرادشتية مقلوبة على رأسها. فالإله الواحد الشمولي العالمي للمعتقد الزرادشتي قد صار إلها واحدا لبني إسرائيل. وتاريخ الكون الدينامي الذي يدفعه صراع الخير والشر نحو نهاية الأزمنة، قد تحول إلى تاريخ دينامي ناقص يتوج بسيادة الشعب المختار على كل الأمم وتحقيق ملكوت الرب على الأرض. والشريعة الزرادشتية ببنودها التحريمية جميعها قد صارت شريعة موسى، ولكن بعد إفراغها من بواعثها ومعانيها كسلاح في مقاومة الشيطان وقوى الموت والمرض والفساد، وتحويلها إلى تحريمات مفروضة من قبل الرب، على المؤمن التقيد بها دون تفكير أو مساءلة من أي نوع.
الفصل السادس
على هامش التوراة
الثورة الدينية الصامتة
صفحة غير معروفة