وهكذا نجد أن الإله الذي جلس تحت الشجرة قرب خباء إبراهيم وأكل وشرب من طبيخ سارة، والذي صارع يعقوب عند مخاضة يبوق، والذي رآه موسى من قفاه أولا ثم جلس وسبعين من شيوخ إسرائيل ينظرون إليه وهم يأكلون ويشربون على جبل سيناء، قد تمت ترقيته إلى رتبة الإله الأعلى خالق السماوات والأرض في أسفار الأنبياء، لا تأسيسا لأيديولوجيا عالمية وإنما تجميلا لصورته في عين شعبه المختار، وتوكيدا لهذا الشعب بأنه وحده القادر على خلاصهم. من هنا، فإن أي حديث عن توصل هذه الأسفار إلى مفهوم توحيدي صاف، هو لغو لا طائل من ورائه. (2) إشكالية الأخلاق
لقد عملت المسيحية من خلال تبنيها لكتاب التوراة باعتباره العهد القديم، على تحسين صورة الإله اليهودي، كما أضافت تفسيراتها اللاهوتية إلى الأيديولوجيا التوراتية بعدا إنسانيا تفتقده على كل صعيد. ولعل من أخطر ما قدمته هذه التفسيرات إظهارها لإله التوراة في صورة الإله الأخلاقي والمشرع الأخلاقي، وذلك بتركيزها على ما دعته بالوصايا العشر الواردة في الإصحاح 20 من سفر الخروج، وعلى عدد قليل آخر من الوصايا الأخلاقية المبعثرة في خضم آلاف الوصايا الطقسية والتحريمية المبثوثة في الأسفار الخمسة، والمفصلة إلى درجة تثير الملل عند القارئ الحديث الذي لا يستطيع فهم باعثها والهدف منها، تماما مثلما كان اليهودي وما زال لا يفهم ذلك وإنما يطبقه في انصياع تام لشريعة غير إنسانية، تهدف إلى تكبيل الإنسان بطقوس وممارسات وتحريمات لا طاقة لأحد على الالتزام بها. من هنا لا عجب إذا وصف القديس بولس «وهو اليهودي السابق المتحمس» شريعة التوراة بأنها لعنة، ودارت معظم تعاليمه حول بطلان زمنها وافتتاح زمن الفداء بيسوع المسيح.
لم تكن الوصايا العشر أولى الوصايا التي تلقاها موسى، وأول وصية في الشريعة لم تكن وصية أخلاقية بل وصية طقسية محضة أسست للفصح اليهودي، وهو ذكرى الخروج من مصر. ففي اليوم السابق للخروج كلم الرب موسى وهارون، على ما نقرأ في سفر الخروج: «كلم الرب موسى وهارون في أرض مصر قائلا: هذا الشهر يكون لكم رأس الشهور، هو لكم أول شهور السنة. كلما كل جماعة إسرائيل قائلين: في العاشر من هذا الشهر يأخذون لهم كل واحد شاة بحسب بيوت الآباء، تكون لكم شاة صحيحة ذكرا ابن سنة ... ثم يذبحه كل جمهور إسرائيل في العشية ... ويأكلون اللحم تلك الليلة مشويا بالنار مع فطير ... لا تأكلوا منه نيئا أو طبيخا مطبوخا بالماء، بل مشويا بالنار، لا تبقوا منه إلى الصباح والباقي يحرق بالنار. وهكذا تأكلونه: أحقاؤكم مشدودة وأحذيتكم في أرجلكم، وعصيكم في أيديكم. وتأكلونه بعجلة، هو فصح للرب ... سبعة أيام تأكلون فطيرا، اليوم الأول تعزلون الخمير من بيوتكم، فإن كل من أكل خميرا من اليوم الأول إلى اليوم السابع تقطع تلك النفس من إسرائيل» (12: 10-15). أما لماذا تؤخذ الشاة ذكرا وابن سنة فقط، ولماذا يتوجب عليهم أكلها مشوية لا مطبوخة؟ ولماذا يأكلونها بعجلة وهم وقوف وأحقاؤهم مشدودة وأحذيتهم في أرجلهم وعصيهم في أيديهم؟ ولماذا يأكلون خبزا فطيرا لا خميرا مدة سبعة أيام؟ فجميعها أسئلة لا يمكن الإجابة عنها إلا بالمقارنة مع لوائح التابو التي نجدها عند القبائل البدائية، والتي تكمن عند جذور الدين وأصوله البعيدة.
ونلاحظ من المقطع أعلاه، أن الوصية الطقسية الأولى قد وردت مترافقة مع أول وصية تحريمية (= تابو) وهي عدم أكل الخبز الخمير، ثم تم تدعيم هذه الوصية التحريمية بأول عقوبة إعدام في الشريعة ، وهذه العقوبة لا تفرض على من يخل بنظام الجماعة ويهدد أمنها، ولا على من يتعدى حدود قاعدة أخلاقية أساسية للحياة المشتركة، بل على من يأكل خبزا خميرا لا فطيرا. وبذلك تعلن الشريعة الموسوية عن جوهرها منذ البداية، باعتبارها شريعة طقس وتابو لا شريعة أخلاق، ومنذ البداية أيضا يعلن يهوه عن شكل العلاقة التي يقيمها بينه وبين شعبه، وهي علاقة طقسية جوهرها الخوف والخضوع وتأدية الشعائر وعدم تعدي حدود التابو. أما الأخلاق فمسألة ثانوية، ويستطيع من ارتكب أبشع الذنوب الأخلاقية أن يغسل ذنوبه كما يغسل ثوبه. نقرأ في سفر اللاويين (وهو أحد الأسفار التي تابعت تفصيل الشريعة بعد سفر الخروج، إلى جانب سفر العدد وسفر التثنية) التعليمات الآتية حول طقس غسل الذنوب الأخلاقية: «إذا أخطأ أحد وخان خيانة بالرب وجحد صاحبه أمانة أو مسلوبا، أو اغتصب من صاحبه، أو وجد لقطة وجحدها وحلف كاذبا ... يأتي إلى الرب بذبيحة لإثمه كبشا صحيحا من الغنم ذبيحة إثم للكاهن، فيكفر الكاهن أمام الرب فيصفح عنه» (6: 1-7). كما يمكن غسل إثم الجماعة كلها عن طريق طقس يدعى بطقس تيس الخطيئة ... «ومتى فرغ الكاهن من التكفير عن القدس وعن خيمة الاجتماع وعن المذبح يقدم التيس الحي ويضع هارون يده على رأس التيس ويقر عليه بكل ذنوب بني إسرائيل وكل سيئاتهم مع كل خطاياهم، ويجعلها على رأس التيس ويرسله بيد من يلاقيه إلى البرية، ليحمل التيس عليه كل ذنوبهم إلى أرض مقفرة» (16: 20-22).
إن السرقة أو الاغتصاب والسلب وجحد الأمانة واليمين الكاذبة، وما إليها من الذنوب الأخلاقية، يمكن غسلها بأداء طقس تطهيري بسيط، أما تجاوز حدود قاعدة طقسية أو تحريمية فمن شأنه أن يودي بحياة أكثر الناس تقوى، ويطاله عقاب يهوه الفوري، وهذا ما حدث لابني هارون المدعوين ناداب وأبيهو، وكانا على رأس الموكلين بأداء الشعائر أمام خيمة الاجتماع التي تضم تابوت العهد، والتي يقيم فيها يهوه بين شعبه. نقرأ في سفر اللاويين: «وأخذ ابنا هارون ناداب وأبيهو كل مجمرته وجعلا فيها نارا ووضعا عليها بخورا، وقربا أمام الرب نارا غريبة لم يأمرهما بها، فخرجت نار من عند الرب وأكلتهما فماتا أمام الرب» (10: 1-2). وتلقى الرجل الصالح المدعو عزة عقوبة مشابهة عندما انتهك التابو الذي يمنع لمس تابوت العهد، رغم أنه فعل ذلك ليمنع التابوت من السقوط عن المركبة التي كانت تقله. نقرأ في سفر صموئيل الثاني: «فأركبوا تابوت الرب على عجلة جديدة وحملوه ... وكان عزة وأخيو ولدا أبيناداب يسوقان العجلة الجديدة ... ولما انتهوا إلى بيدر ناحون مد عزة يده إلى تابوت الرب وأمسكه لأن الثيران انشمصت. فحمي غضب الرب على عزة وضربه هناك لأجل غفله فمات» (6: 3-8).
إن تجاوزات الوصايا التحريمية التي تقود إلى الموت أكثر من أن تحصى في شريعة موسى، ونكتفي بذكر بعض منها، فعدم غسل الكاهن ليديه ورجليه قبل أداء الطقوس يعرضه للموت (الخروج، 30: 17-20)، وممارسة أي نشاط في يوم السبت يستوجب الإعدام الذي تنفذه الجماعة بالمخطئ (الخروج، 31: 15)، ومثل العمل في يوم السبت كذلك العمل في اليوم العاشر من الشهر السابع، وهو يوم الكفارة أو الغفران (اللاويين، 23: 27-30)، وأكل الدم يستوجب الموت (اللاويين، 17: 10-11)، وكذلك مضاجعة المرأة الحائض (اللاويين، 20: 18). وهنا يحق لنا أن نتساءل: أين مفهوم الله من هذا الكائن الباطش المتعسف، الذي وضع الشريعة لا لخلاص الناس بل لإدانتهم وتجريمهم والانتقام منهم، وأين خصيصتا الأخلاق والعدالة في إله لا يتجلى إلا في الغضب والثأر والثورة الآكلة؟
لقد سبقت الوصايا الطقسية والتحريمية الوصايا العشر بوقت طويل، ثم تتابعت بعدها عبر أسفار الخروج واللاويين والعدد والتثنية، وذلك في سلسلة تبدو لقارئ التوراة بلا نهاية. فبعد الوصية العاشرة مباشرة قال الرب لموسى: «مذبحا من تراب تصنع لي وتذبح عليه محرقاتك وذبائح السلامة من بقرك وغنمك، وإن صنعت لي مذبحا من حجارة فلا تبنها منحوتة، فإنك إن رفعت حديدك عليها دنستها، ولا تصعد إلى مذبحي على درج لئلا تنكشف عورتك عليه» (الخروج ، 20: 18-26). ونحن هنا أمام وصية تحريمية يجب تنفيذها دون مناقشة فحواها غير المفهوم. وهي تشبه وصايا تحريمية سائدة لدى الشعوب البدائية ولدى بعض الثقافات القديمة في مطالع تاريخها. فتابو استخدام الحديد معروف في روما القديمة حيث كان محرما على الكهنة الحلاقة بموسى حديدية. وفي غابة آرفال المقدسة قرب روما كان محرما إدخال الحديد أو أية أداة مصنوعة منه، فإذا تطلب الأمر استعمال أداة حديدية في نقش كتابة ما على الحجر، كان لا بد من تقديم ذبيحة تطهيرية قوامها حمل وخنزير. وإلى وقت قريب كان أهالي جزيرة جاوة يحجمون عن استخدام المحاريث الحديدية في فلاحة أرضهم. ولدى بعض قبائل الهنود الحمر كان محرما استخدام السكاكين الحديدية في الطقوس الدينية. وفي كوريا كان محرما على الملك لمس الحديد أو استخدام أدوات مصنوعة منه. وفي جنوب غربي أفريقيا تجري إلى الآن عملية ختان الصبيان بواسطة سكين صوانية، فإذا تطلب الأمر إجراءها بسكين حديدية يجري التخلص من السكين بدفنها بالتراب.
وتتعزز إشكالية المسألة الأخلاقية في التوراة من خلال سلوك الإله التوراتي نفسه، وهو سلوك متناوس بين الخير والشر، وغالبا ما ينأى عن أبسط القواعد الأخلاقية. ونستطيع متابعة هذه الطبيعة الأخلاقية المتناقضة منذ الإصحاحات الأولى لسفر التكوين وحتى آخر أسفار الكتاب. فبعد أن خلق الإله الإنسان الأول، لم تكن أولى وصاياه إليه وصية أخلاقية ترسم له دوره في الحياة والتاريخ، بل كانت وصية تحريمية غير مفهومة، وعندما يكون التحريم غير مفهوم أو مسوغ فإنه غالبا ما يدفع إلى العصيان، وهذا ما حصل فعلا عند فجر الزمن. فبعد اكتمال أعمال التكوين غرس يهوه بستانا في مكان على الأرض يدعوه الكتاب بشرقي عدن، وفي وسط البستان أنبت شجرة الحياة وشجرة أخرى هي شجرة المعرفة، ثم وضع آدم الذي صنعه من طين الأرض في ذلك البستان ليعمل به ويحفظه. وبعد أن خلق له زوجة من ضلعه أوصاهما قائلا: «من جميع شجر الجنة تأكلان، وأما من شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكلا، لأنكما يوم تأكلان منها موتا تموتان.» هذا التابو غير المفهوم قد سهل على الحية إغواء حواء وتزيين العصيان لها. فبينما هي تتمشى قرب شجرة المعرفة تسللت الحية إلى المكان، وكانت أحيل جميع حيوانات البرية حسب وصف النص، فأطلعت حواء على حقيقة التابو والغاية منه؛ فثمر الشجرة لن يميتهما بل سيجعلهما مثل خالقهما حرين وعارفين الخير والشر: «فقالت الحية للمرأة لن تموتا، بل الرب عارف أنه يوم تأكلان تنفتح أعينكما وتكونان كالرب عارفين الخير والشر. فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون فأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضا معها فأكل.» وعندما يكتشف يهوه عصيان الإنسان ينطق بلعنته المقيمة التي تتجاوز عالم الإنسان إلى عالم الطبيعة بأكملها: «ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكا وحسكا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود.»
لقد كذب يهوه على آدم وحواء بقوله إن شجرة المعرفة ستجلب عليهما الموت. فالإنسان الأول لم يولد خالدا، وخالقه التوراتي لم يكن راغبا في أن يشاركه أحد خلوده، وذلك بدليل قوله بعد ذلك: «هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر، والآن لعله يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة ويأكل فيحيا إلى الأبد. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل في الأرض التي أخذ منها.» وهكذا تم منذ البداية، ومن خلال التابو والكذب، التأسيس لطبيعة العلاقة بين الإله والإنسان، وهي علاقة قائمة على الأمر الإلهي والرضوخ الإنساني، على حرية الإله وعبودية الإنسان.
وبين الأمر والرضوخ تقوم الطقوس والشكلانيات الشعائرية باعتبارها الرابطة الوحيدة بين الطرفين، والمحور الذي يدور حوله دين التوراة.
صفحة غير معروفة