على أن الأخلاق الهندوسية بقيت أسيرة معتقد جبري يحرمها من جوهرها كسلوك حر ومسئول. فلقد طورت الهندوسية الكلاسيكية اعتقادا بجبرية شمولية تطال الكائنات الحية مثلما تطال الكون بأكمله. إن الفعل الذي يقوم به الفرد، وما ينجم عنه من كارما، ليس إلا جزءا من كارما الكون بأسره، وكارما الكون هي جزء من كارما الله، فالله في حالة فعل دائم مثلما هو في حالة سكون دائم أيضا، وكارما الله تتم في الزمن، فالزمن يتطابق مع القدر، والله يتحكم بالقدر، والإنسان في حالة عجز تام أمام القدر، ويستتبع ذلك أن الإنسان ليس هو فاعل الخير والشر لأنه ليس كائنا مستقلا، بل الله هو الذي ينجز الخير والشر على يديه، ومع ذلك فإن على الإنسان أن يفعل دوما ما هو صالح في عينيه ثم لا يلتفت إلى نتيجة أو منفعة منه، وأن يمارس كل نشاط بدافع من حبه الله واستسلام كامل لما يتمه الله على يديه. هذا هو مضمون الحرية الإنسانية.
تظهر هذه الأفكار بكل قوة ووضوح في ملحمة الماهبهارتا، التي تعادل مكانتها في الهندوسية الكلاسيكية مكانة الأوبانيشاد في البراهمانية. ففي مشهد تجلي الإله كريشنا للبطل أرجونا قبل المعركة الحاسمة، يطلب الإله من أرجونا ألا يتردد في قتال أبناء عمومته في الفريق الخصم، لأن على البطل أن يفهم أنه ليس هو الذي يقتل وإنما ينجز عملا أراده الله. ومن خطاب كريشنا لأرجونا نقرأ هذه المقتطفات: «إن على الإنسان ألا يتهرب من عمل فرضه عليه منبته الطبقي، حتى لو كان فيه ما يسوء؛ فكل المشروعات مصحوبة بأمور سيئة مثلما هي النار مصحوبة بالدخان» ... «حتى المجرم الكبير إذا بجلني من كل قلبه ولم يفكر إلا بي وحدي، يجب أن يعتبر على صواب فيما فعل لأنه قام بعمله بروح طيبة» ... «حتى لو كنت من بين الخاطئين أكبرهم، فإنك على زورق المعرفة الحقيقية سوف تجتاز محيط الشر» ... «مهما فعلت يا أرجونا، فإن أولئك المحاربين المصطفين للمعركة سيموتون. والحقيقة أنهم قد هلكوا على يدي. أما أنت فكن الأداة فقط. ذلك أن من يولد صائر إلى الموت، ومن يموت صائر إلى الولادة، وأمام ما لا مفر منه لا يجدي التذمر.»
خلاصة
من هذا العرض الموجز والمكثف، نستطيع استخلاص أهم النتائج ذات الصلة بموضوعنا: (1)
رغم تسرب بعض أساطير الخلق والتكوين من الديانة الفيدية القديمة إلى الهندوسية، إلا أن الهندوسية، وعبر جميع أطوارها، لم تأخذ مسألة الأصول والبدايات بشكل جدي. فالعالم لم يخلق مرة واحدة ابتداء، وليس له نهاية منظورة، أو منقلب يرتفع به من مستوى أدنى من الوجود إلى مستوى أعلى. فالزمن يدور على نفسه، ومع كل دورة يفنى الكون القديم ويخلق كون جديد ليسير في الحلقة المفرغة نفسها، فلا بداية ولا نهاية، بل عود أبدي بلا هدف ولا غاية. هذه الرؤية للزمن الدوري المتناوب عند الهندوسية تنطوي على إصرار شديد على رفض التاريخ باعتباره حركة دائبة تهدف إلى تطوير الكون وتطوير الجنس البشري، ولا ترى فيه إلا نسخا يكرر بعضها بعضا إلى ما لا نهاية، وبالتالي لا وجود لخطة إلهية تتجلى في هذا التاريخ بشكل تدريجي، وتهدف إلى تخليص الكون وتخليص الإنسانية. (2)
لم تتوصل الهندوسية إلى مفهوم واضح عن «الإنسانية» ولم تجد لها دورا فاعلا في دفع حركة التاريخ. وما الإنسانية إلا تجمع من الذوات العابرة التي يسعى كل منها بشكل فردي إلى الانعتاق من دورة الحياة والموت. (3)
ترتفع الألوهة فوق الخير والشر، ولا تلعب الأخلاق دورا مهما في علاقة الإنسان بالله. وفي المذاهب التي مزجت بين السلوك الأخلاقي والسلوك الديني، بقي الاعتقاد بالجبرية الكونية حائلا دون تكوين مفهوم ناضج عن حرية الفرد ومسئوليته. (4)
يعمل مبدأ الكارما على تقديم حل بدهي لمسألة وجود الشر في العالم؛ فكل ما يصيب الفرد من نوائب وكوارث وحظ عاثر في حياته، وكل ما يلقاه من نعمة وثروة ورغد عيش، هو نتيجة لكارما سابقة راكمتها روحه في تجسداتها الماضيات. أما ما يراكمه هو من كارما حسنة أو سيئة فإنه لا يجزى بها لا في حياته ولا في حياة أخرى، بل إنه يجيرها للتجسد التالي. وبما أن مبدأ الكارما يعمل بشكل آلي، فإن مفهوم الشر المجرد والخير المجرد هو مفهوم غريب على الفكر الهندوسي، وليست العدالة صفة لكائن إلهي، بها يعاقب ويثيب. (5)
تتصل دورة الحياة والموت في عالم السمسارا بدورة الكون الكبرى؛ فكما يفنى الكون عن نفسه ليعيش في كون آخر جديد، كذلك يفنى الجسد عن نفسه ليعيش في جسد آخر جديد، وعندما تنتهي الدورة الكونية الكبرى إلى الفناء وتعود إلى مياه السرمدية الساكنة، تغفو الأرواح في ليل برهما الطويل. ومع بداية الدورة الجديدة تصحو لتحمل كارماها مجددا إلى ملايين التجسدات المقبلة وملايين الدورات الكونية المقبلة، فلا بعث ونشور، ولا دينونة ولا حساب ولا عقاب. (6)
أمام هذه الأرقام الفلكية لعدد الدورات الكونية والتناسخات الفردية، مما يدير الرأس، لا يوجد أمام الفرد إلا طريق واحد: الإفلات. ولكن من الذي سيفلت ويحقق الانعتاق أخيرا؟ هل هو التجسد الأول للروح في البدايات الضاربة في الأزلية، أم هو هذا التجسد الذي يفكر بالإفلات، أم هو ذلك التجسد الأخير بعد بضعة مليارات من السنين؟ سؤال لا معنى له يلقي على الأيديولوجيا الهندوسية ظلالا من العدمية. (6) الألوهية والتاريخ الدينامي (6-1) الزرادشتية نموذجا
صفحة غير معروفة