يمزجون أمواههم معا.
وهنا يقول الكاهن البابلي برغوشا الذي ألف كتابا باليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد عن تاريخ البابلين ومعتقداتهم، إن تعامة هي الماء المالح وآبسو هو الماء الحلو، ولكنه يصمت عن ممو، الذي نرجح مع بعض الباحثين الآخرين أن يكون الضباب المنتشر فوقهما. ونلاحظ هنا أن في اختيار النص للماء كجوهر لهذه الآلهة البدئية، توكيدا على الحالة العمائية والشواشية السابقة على الكون المنظم، فالماء هو أكثر العناصر تمثيلا لما لا شكل له ولا نظام، إنه اللاشكل واللانظام بكل امتياز، والهيولى السابقة على ظهور التحديدات والتقسيمات والأبعاد التي تميز الكون. وهكذا تقوم ثنائية: كون-عماء، أو كوزموس-كايوس بالمصطلح الإغريقي عند جذور الزمن، وتستمر عبر تاريخ الكون اللاحق في الفكر الميثولوجي الذي يتصور قوى العماء والفوضى في حالة تأهب دائم للانقضاض على الكون والعودة به إلى المحيط المائي الشواشي الذي نشأ عنه.
بعد ذلك تبدأ إرهاصات الزمن عندما أنجب الآلهة الثلاثة الجيل الأول من الآلهة، وأنجب هذا الجيل بدوره الجيل الثاني، الذي خرج منه الإله مردوخ فقاد الصراع ضد الآلهة البدئية وقهرها، ومن جسد الأم الأولى تعامة صنع السماء والأرض وبقية مظاهر الكون، ثم التفت بعد ذلك إلى تنظيم العالم والحياة الطبيعية، فخلق الغيوم وحملها بالمطر، وفجر عيون الماء وملأ الآبار، وأنبت من الأرض عشبا وشجرا، وأوكل إله الشمس بالأيام ففصل بين تخوم الليل وتخوم النهار، وأخرج القمر فسطع بنوره وأوكله بالليل وجعله حلية له وزينة، ثم توج فعالياته المبدعة هذه بخلق الإنسان.
تتابع بقية أساطير التكوين والأصول البابلية إعطاءنا مزيدا من التفاصيل عن مرحلة الأصول، فلقد ابتدر الآلهة في هذه المرحلة كل أصول التحضر على الأرض، فصنعوا القنوات والسدود، وأجروا المياه في السواقي والأنهار، ورووا الأرض وحولوها إلى مراع وحقول للقمح ومساكب للبستنة، وعمدوا إلى تربية الماشية وحلبوها فصنعوا اللبن والزبدة والجبن، وابتكروا الفأس والمعول وقوالب الآجر فاستخدموها في بناء المدن والمعابد الأولى، وعندما أسلموا ذلك كله للإنسان فيما بعد، عملوا على تأصيل مؤسساته الاجتماعية مثل الأسرة والكهنوت والملوكية، وباختصار فإن الإله لا الإنسان هو صانع الحضارة على الأرض.
وكان الآلهة في زمن الأصول هذا يكدون ويعملون من أجل تحصيل قوتهم، حتى بلغ بهم التعب والإرهاق حدا لا يحتمل، فتنادوا إلى خلق الإنسان ليحمل عنهم عبء العمل ويركنوا هم للراحة. ولدينا عدة نصوص تروي عن خلق الإنسان من أجل خدمة الآلهة. نقرأ في نص سومري أن الآلهة في بداية عهدهم لم يعرفوا أكل الخبز ولا لبس الثياب، بل كانوا يأكلون النباتات بأفواههم مثل الحيوانات، ويشربون الماء من الينابيع والجداول، ثم أوكلوا بعد ذلك مهمة تأمين الغذاء لهم إلى الإله لهار وأخته أشنان، فكان لهار يكثر المواشي ومنتجاتها على الأرض، وأشنان تزيد في غلال الأرض ومحاصيلها، ولكن منتجات هذين الإلهين لم تسد جوع الآلهة، فعمدوا إلى خلق الإنسان ليكفيهم غائلة الجوع والعطش.
5
ولدينا نص بابلي يحكي باختصار شديد عن قصة التكوين وزمن الأصول وخلق الإنسان وهذه قراءته: «بعد أن أخرجت الأرض وشكلت، وحددت مصائر الأرض والسماء، واستقرت شطآن دجلة والفرات، عندها جلس الآلهة الكبار آنو وإنليل وإيا وبقية الآلهة المبجلين، جلسوا جميعا في مجمعهم المقدس واستعادوا ما قاموا به من أعمال، فقال إنليل: أما وقد حددنا مصائر الأرض والسماء، وجرت القنوات في مجاريها وتوضعت الخنادق، واستقرت شطآن دجلة والفرات. ماذا بقي علينا أن نفعل؟ ماذا نستطيع بعد أن نخلق؟ فأجاب الحضور من الآلهة المبجلين، بقسميهما الأنوناكي والإيجيجي، أجابوا إنليل قائلين: لنذبح بعض آلهة اللامجا، ومن دمائهم فلنخلق الإنسان ونوكله بخدمة الآلهة على مر الأزمان، سنضع في يده السلة والمعول، فيبني للآلهة العظام هياكل مقدسة تليق بهم، سيسقي الأرض بأقاليمها الأربعة ويخرج من جوفها الخيرات، جاعلا حقول الأنوناكي تنتج غلالا وفيرة، سينضح الماء العذب ويحتفل بأعياد الآلهة ... إلخ.»
6
وفي ملحمة أتراحاسيس البابلية يتخذ تذمر الآلهة من العمل شكل تمرد وعصيان على الآلهة الكبرى السبعة التي كانت تفرض الكدح على البقية، وتلزم مساكنها في دعة وراحة بال، نقرأ في مطلع النص: «حملوا العبء، عانوا المشقة. تعب الآلهة عظيم، العمل ثقيل، الشقاء شديد. آلهة الأنوناكي العظيمة السبعة، كانت تحمل آلهة الإيجيجي العمل، القنوات حفروا، لاستمرار حياة الأرض، الأنهار حفروا، لاستمرار حياة الأرض، حفروا نهر دجلة، ثم حفروا نهر الفرات، فجروا الينابيع من العمق، لاستمرار حياة البلاد، تحملوا العمل ليل نهار، أحصوا سنوات التعب فزادت عن أربعين عاما، صاحوا من الحفرة: الآن أعلنوا الحرب. لنمزج الحقد بالمعركة ... صبوا على أدواتهم نارا وعلى رفوشهم، سلالهم رموها إلى إله النار، وساروا نحو باب البطل إنليل، حاصروا البيت والإله لم يعلم.»
7
صفحة غير معروفة