2
يقف المعتقد الحلولي، أو معتقد وحدة الوجود، على الطرف النقيض من المعتقد الربوبي، ويتميز عنه بتقديمه إرضاء أكثر للنزوع الديني في النفس الإنسانية، لأنه مفهوم صوفي عن العلاقة بين الإله والإنسان يذيب الفوارق بينهما ويجمعها في واحد، فهما من طبيعة واحدة، وما الروح الفردية إلا قبس من روح الله الكلية رغم حجاب الجهل الذي يستر عنها هذه الحقيقة في الحياة الدنيا. وبالمقابل فإن الله ليس شخصية محددة مفارقة للعالم وتمارس تأثيرها عليه عن بعد، بل هو الحقيقة الكلية التي تتمظهر في العالم وتختفي وراءه في آن معا، فكما يظهر الماء تحت أشكال وأسماء متعددة، منها البخار والغيم والجليد والثلج والبرد بينما هو في حقيقة الأمر واحد، كذلك تتحول الألوهة إلى ما لا يحصى من الظواهر المادية والنفوس الحية، مع بقائها في جوهرها واحدة غير مجزأة، وكما صدرت هذه الأجزاء عن الحقيقة الواحدة فإنها تعود إليها وتذوب فيها كما تذوب الأنهار في لجة الغمر العظيم.
إن عدم اتخاذ الألوهة في المعتقد الحلولي قناع إله مشخص يدخل الإنسان معه في علاقة ثنائية من أي نوع، يقود إلى إحلال العرفان الداخلي محل الطقوس والعبادات، حيث العبادة معرفة والطقس انكفاء نحو الداخل في محاولة لتلمس الألوهة في أعماق الذات الفردية، وعندما تفلح النفس، التي تعاين نفسها كذرة مستقلة، في إدراك وهم استقلالها وحقيقة تطابقها مع النفس الكلية، تكون قد حققت الانعتاق وتهيأت للالتحاق بالمطلق العظيم الذي منه قد نشأت. فالخلاص والحالة هذه لا يتم بتدخل قوة علوية مفارقة ولا بنعمة ومنة منها، بل بالكدح الداخلي الذي يؤدي إلى استنارة النفس الغافية.
كما ينجم عن لا شخصانية الألوهة ارتفاعها فوق الخير والشر بمفهومهما الاجتماعي، فالإله ليس الخير المحض ولا يتسم سلوكه بالخير ولا بالشر، من هنا فإن مفهوم العدالة الإلهية غائب عن معتقد الحلول ويجري العقاب والثواب بشكل أوتوماتيكي في الحياة من خلال مبدأ كوني يدعى بمبدأ الكارما، أي: الفعل وجزاؤه، في أبسط أشكاله، ينطوي مبدأ الكارما على أن الوضع الحالي للفرد محكوم بأعماله التي بذلها في حياته السابقة، كما أن أعماله في حياته الراهنة سوف تقرر وضعه في التناسخات المقبلة التي سوف تتتالى إلى ما لا نهاية إذا لم تحقق النفس عرفانها الداخلي وتصل إلى الاستنارة التي تحررها من دورة الميلاد والموت، ورغم أن الأعمال الصالحة هي التي تؤهل صاحبها لتجسد أفضل وأرقى في الحياة التالية، إلا أن هذه الأعمال لا توصل في حد ذاتها إلى التحرر، بل تهيئ النفس لمراحل أعلى وأعلى من العرفان، حتى يحين موعد الإفلات من العالم والالتحاق بالأبدية.
وكما أن الأرواح الفردية أسيرة لدورة التناسخ الحيوية، فإن الكون بكامله أسير أيضا لدورة تناسخ عظمى، كلما ولد كون شاخ وآل إلى الفناء في مياه المطلق العظيم، ليعقبه كون جديد آخر وهكذا إلى ما لا نهاية، وبذلك ينعدم التاريخ ويدور الزمن على نفسه دونما هدف أو غاية. (3) المعتقد الألوهي
يقع المعتقد الألوهي في نقطة الوسط بين المعتقد الربوبي والمعتقد الحلولي، الإله مفارق للعالم من جهة ومتصل به كل الاتصال من جهة ثانية، ذلك أن الحاجات الروحية الدفينة عند الإنسان تتطلب الإحساس بألوهة مشخصة يمكن الدخول معها في علاقة ثنائية، سواء أكانت علاقة الأب بالابن، أو علاقة المحب بالمحبوب أو علاقة السيد بالعبد، وهذه الألوهة رغم مفارقتها واختلافها من حيث الطبيعة مع العالم، إلا أنها حاضرة فيه على الدوام، في كل هبة ريح وفي تفتح كل زهرة وفي تنفس كل كائن حي. يقول محي الدين بن عربي: «وأما أهل الكشف فإنهم يرون أن الله يتجلى في كل نفس ولا يكرر التجلي، ويرون أيضا أن كل تجل يعطي خلقا جديدا ويذهب بخلق.»
3
وأيضا: «فالحق خلاق على الدوام، والعالم مفتقر إليه على الدوام افتقارا ذاتيا.»
4
إن الله في حالة انغماس دائم بمسائل العالم ويبذل عناية لا تني من أجل تطويره في الزمن، وفي التاريخ، نحو غاية منظورة ومشتركة بينه وبين خلقه، رغم كونه خارج التاريخ، فمن خلال فعاليات الآلهة في الزمن وفي التاريخ تتخذ الألوهة وجه الإله المشخص، ومن خلال محافظتها على موقعها المفارق خارج التاريخ تحافظ الألوهة على طبيعتها الغفلة غير المشخصة مما تؤمن به عقيدة الحلول.
صفحة غير معروفة