وسافر ابن بطوطة بعد ذلك إلى خوارزم وبخارى. ومن طريف ما شاهده في المدينة الأخيرة أن شواهد القبور الموجودة في مدافن علمائها كانت تتضمن أسماء الكتب التي صنفوها في حياتهم. وقد أعجب الرحالة بهذا الأسلوب في تخليد ذكراهم؛ فنقل بعض نصوص تلك الشواهد، ولكنه أضاعها بعد ذلك. وأشار إلى ذلك بقوله: «وزرت ببخارى قبر الغمام العالم أبي عبد الله البخاري مصنف الجامع الصحيح شيخ المسلمين - رضي الله عنه - وعليه مكتوب: هذا قبر محمد بن إسماعيل البخاري وقد صنف من الكتب كذا وكذا. وكذلك على قبور علماء بخارى أسماؤهم وأسماء تصانيفهم. وكتب قيدت من ذلك كثيرا، وضاع مني في جملة ما ضاع لي لما سلبني كفار الهند في البحر.»
ثم واصل ابن بطوطة أسفاره إلى سمرقند وترمذ وبلح وهراة وطوس ونيسابور وبسطام وغزنة وكابل. ثم دخل بلاد الهندسنة (734ه/1333م) واتصل بسلطانها محمد بن تغلق. وتولى منصب القضاء في دهلي. وأقام فيها حوالي ثماني سنين. وترك في رحلته وصفا حسنا لكثير من مدنها وآثارها ونباتها وحيوانها. كما تحدث عن أمراء المسلمين فيها، ومن كان يفد عليهم من أعلام الغرباء. وأشار إلى كثير من عادات الهنود وأحوالهم الاجتماعية، فذكر مثلا كيف يتشرف نساء الهندوس بإحراق أنفسهن بعد موت أزواجهن. وقال: إن التي لا تفعل ذلك تقيم عند أهلها بائسة ممتهنة لعدم وفائها. كما ذكر الذين يغرقون أنفسهم في نهر الكنج تقربا إلى معبودهم.
وطبيعي أنه أسهب في الكلام على مدينة دهلي وعمائرها وسكانها ومن حكمها من الأمراء المسلمين، ولا سيما السلطان محمد شاه بن تغلق؛ فقد أفاض في وصف بلاطه ومراسيم احتفالاته وفيض كرمه وعطاياه واستقباله للملوك والأمراء، ولكنه وصف إلى جنب ذلك قسوته وشغفه بإراقة الدماء. والحق أن ابن بطوطة أتيح له أن يكتب في وصف هذا السلطان والمتصلين به ما لم يظفر التاريخ الإسلامي بمثله عن بلاط أي أمير آخر. ولم يكن ابن بطوطة مرضيا عنه دائما في بلاط ابن تغلق، فقد كان هذا السلطان يقصيه أحيانا ويقربه أحيانا أخرى. •••
وكان أن غضب عليه السلطان مرة، فاعتزل الخدمة ووهب ماله للفقراء والمساكين، ولازم أحد الزهاد، ولكن السلطان أراد أن يرسل وفدا من قبله إلى ملك الصين يحمل هدية سنية. واختار ابن بطوطة لرياسة هذا الوفد إلى قندهار وركب منها البحر إلى ثغر قاليقوط التي كانت تقصدها سفن أهل الصين وجاوة وسيلان واليمن وإيران وغيرها .
ورأى الرحالة في هذا الثغر ثلاثة عشر مركبا للصين. ووصف في هذه المناسبة أنواع المراكب الصينية وأساليب بنائها. وأشار إلى ضخامة تلك السفن وقال: إن للمركب أربعة ظهور. ويكون فيه البيوت (أي: مجموعة الغرف) والمصاري (أي: مجموعة الغرف وما يتبعها) والغرف للتجار. والمصرية منها يكون فيها البيوت والسنداس (أي: الرحاض) وعليها المفتاح، يسدها صاحبها ويحمل معه الجواري والنساء. وربما كان الرجل في مصريته فلا يعرف به غيره ممن يكون بالمركب حتى يتلاقيا إذا وصلا إلى بعض البلاد»، وأضاف ابن بطوطة أن البحارة كانوا يسكنون مع أسراتهم في السفن، وأنهم كانوا يزرعون الخضر والبقول في أحواض من خشب.
ثم شاء القدر أن هبت على مرسى قاليقوط عاصفة شديدة، قذفت إلى عرض البحر بالمركب الذي كانت فيه الهدية التي يحملها الوفد إلى ملك الصين ولكن ابن بطوطة نفسه كان وقتئذ بالشاطئ. وكان متاعه وغلمانه وجواريه بسفينة أخرى. فلما رأى أهل هذه السفينة ما حل بالسفينة الكبرى التي كانت تحمل الهدية أقلعوا، وبقي ابن بطوطة منفردا على الساحل لا يملك إلا عشرة دنانير وبساطا كان يفترشه. فلم يشأ أن يعود إلى سلطان دهلي؛ بل تنقل بين الساحلين الغربي والشرقي في شبه جزيرة الهند. واشتغل حينا بالغزو والجهاد في خدمة جمال الدين سلطان مدينة هنور.
الجبال في الطريق إلى بلاد التبت: صورة في مخطوط من كتاب «جامع التواريخ» لرشيد الدين مؤرخ بين عامي 707-714ه/1306-1314م.
ثم سافر إلى جزائر ديبة المهل (جزائر الملديف الحالية). وتولى القضاء فيها وأعجب بصلاح أهلها وتقواهم. وكان أكثر نساء هذه الجزائر لا يلبسن سوى «فوطة واحدة تسترهن من السرة إلى أسفل»، وسائر أجسادهن مكشوفة. وكن يمضين كذلك في الأسواق وغيرها. فجهد ابن بطوطة لما ولي القضاء بها أن يقطع تلك العادة ويأمرهن باللباس فلم يوفق. ومما عجب له الرحالة «أنهن يؤجرن أنفسهن للخدمة بالديار، على عدد معلوم من خمسة دنانير فما دونها، وعلى مستأجرهن نفقتهن، ولا يرين ذلك عيبا. ويفعله أكثر بناتهم، فتجد في دار الإنسان الغني منهن العشر والعشرين. وكل ما تكسره من الأواني يحسب عليها قيمته».
وكان حكم هذه الجزائر قد آل إلى السلطانة خديجة بنت جلال الدين البنجالي حين لم يبق من بيت الملك غيرها وأختان لها. وكان ابن بطوطة صارما في منصب القضاء؛ فأبعد عنه قلوب بعض الوزراء والعيان في الجزائر. ولم يشأ البقاء فيها بعد ذلك؛ فغادرها إلى جزيرة سيلان، ثم إلى ساحل الهند الشرقي فإقليم بنجالة فشبه جزيرة الملايو فسومطرة. •••
ووصل ابن بطوطة إلى الصين. وفي رحلته بيانات طيبة عن أحوال الصينيين من المسلمين والوثنيين، وعن إتقانهم الصناعات والفنون، ولا سيما التصوير وصناعة الصيني. كما أن فيها أقدم إشارة إلى استخدام ورق النقد في المعاملات. فقد ذكر الرحالة أن عادة التجار في الصين أن يسبكوا ما يكون عندهم من الذهب والفضة قطعا، تكون القطعة منها من قنطار فما فوقه وما دونه، ويجعل ذلك على باب داره، وأن «أهل الصين لا يتبايعون بدينار ولا درهم. وجميع ما يتحصل ببلادهم من ذلك يسبكونه قطعا كما ذكرنا». وإنما بيعهم وشراؤهم بقطع كاغد. كل قطعة منها بقدر الكف، مطبوعة بطابع السلطان. وإذا تمزقت تلك الكواغد في يد إنسان، حملها إلى دار كدار السكة عندنا؛ فأخذ عوضها جددا ودفع تلك. ولا يعطي على أجرة ولا سواها.»
صفحة غير معروفة