في الاتحاد السوفييتي، تكونت جماعة صواريخ جديدة للهواة في موسكو عام 1931، ومنحت مؤسسة صغيرة للوقود الصلب في لنينجراد (سانت بيترسبرج) جدول أعمال موسعا للأبحاث في العام نفسه. وقاد تساندر جماعة موسكو، ولكنه سرعان ما توفي. وبعد وفاته تسلم قيادة الجماعة مهندس طيران أكبر من فون براون بست سنوات، ويدعى سيرجي بافلوفيتش كوروليف. وعلى غرار الألماني فون براون، كان كوروليف سيصبح أحد المنظمين الأساسيين في مستقبل عالم الصواريخ المحكوم من قبل الجيش. في 1933، أطلقت جماعة موسكو صواريخها الأولى، فور اندماجها مع لنينجراد لتشكيل أول مؤسسة بحثية حكومية في العالم لتطوير الصواريخ العاملة بالوقود السائل والصلب . وكانت لها صلة وثيقة مع الجيش الأحمر. وشهدت هذه السنة أيضا تولي النازيين زمام السلطة؛ الأمر الذي أدى إلى سيطرة الجيش الألماني، في غضون سنة، على تطوير الصواريخ ونهاية تجارب الهواة ونهاية العلنية.
استحواذ الجيش على السلطة
أدى تدعيم ستالين وهتلر للسلطة الاستبدادية، وما نتج عن ذلك من انسحاب المتحمسين لرحلات الفضاء سواء من الألمان أو الروس من المشهد الدولي، إلى ثلاثة عقود سيطر خلالها تطوير الصواريخ العسكرية على علم الصواريخ. كما نجم عن ذلك أيضا منع الشبكة العابرة للحدود القومية التي تكونت في أواخر العشرينيات من القرن العشرين من نشر بشارة انطلاق رحلات الفضاء من خلال صواريخ تعمل بالوقود السائل. وكان ثمة كاتبان متعددا اللغات مهمين في هذه الشبكة، وهما: ويلي لي في برلين، ونيكولاي راينين في لنينجراد. ومن خلال المراسلات الدولية وتوزيع المنشورات، ربط لي وراينين المتحمسين الحقيقيين لرحلات الفضاء ومن أجروا تجارب في هذا المجال في أوروبا وفي الولايات المتحدة؛ حيث تأسست جمعية الكواكب الأمريكية في نيويورك عام 1930. وعندما فقد الألمان والروس القدرة على التواصل، انتقل من تبقوا في الشبكة إلى المحور بين نيويورك وإنجلترا، حيث تأسست جمعية الكواكب البريطانية في عام 1933. وقد هرب لي نفسه من ألمانيا النازية في بداية 1935، بمساعدة أصدقاء من جمعية الكواكب البريطانية ونظيرتها الأمريكية. وعاش لي حياة هامشية في السنوات القلائل الأولى باعتباره كاتبا علميا حرا وأجرى تجارب على الصواريخ في منطقة نيويورك. أما راينين فمات في الحصار النازي للنينجراد.
بدأت جمعية الكواكب الأمريكية أعمالها بإجراء تجارب بالوقود السائل تقليدا للألمان. وزار أول قائد لها، وهو كاتب الخيال العلمي ورجل العلاقات العامة جي إدوارد بندراي، برلين في 1931 وراسل لي حتى هبط الأخير على أرض الولايات المتحدة تحت رعاية بندراي. وفي الفترة من منتصف إلى آخر الثلاثينيات، غيرت الجمعية اسمها إلى اسم أقل غرابة «جمعية الصواريخ الأمريكية» وتوقفت عن محاولة إطلاق الصواريخ. وركزت قيادتها الجديدة من المهندسين والتقنيين صغار السن على تطوير المحركات على نطاق ضيق، وهو ما كانوا يستطيعون تحمل تكلفته من جيوبهم الخاصة الفارغة في الغالب.
9
ابتعد روبرت جودارد عن جمعية نيويورك، حرفيا ومجازيا. وانتقل إلى روزويل، بنيومكسيكو، بتمويل من مؤسسة جوجنهايم، في منتصف عام 1930 وبقي هناك حتى عام 1942، باستثناء فترة توقف لمدة عامين في 1932-1934 نتيجة لعواقب الكساد الكبير على استثمارات جوجنهايم. وعلى عكس أسطورة العبقري المنسي التي نسجت فيما بعد حول جودارد، كان جودارد من أفضل العلماء تمويلا في الولايات المتحدة في الثلاثينيات من القرن العشرين، في الوقت الذي كانت فيه الأعمال الخيرية الخاصة لا تزال تسيطر على قطاع البحث العلمي والتكنولوجي الأضيق نطاقا. وحقق جودارد إنجازات مهمة قبل عام 1935، مثل بناء مركبات وصلت إلى ما يقرب من 10 آلاف قدم وسرعات وصلت إلى عدة مئات من الأميال في الساعة. ولكن مرة أخرى أحبط ممولوه عندما لم يستطع قط تحقيق عدة وعود للوصول إلى ارتفاعات عالية باستخدام «صاروخ تجارب» يحمل معدات، كما سيطلق عليه بعد الحرب العالمية الثانية. وحثه أبوت وليندبرج وهاري جوجنهايم على طلب مساعدة خارجية في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين، خصوصا من جماعة جديدة مهتمة بالصواريخ تحت قيادة فرانك مالينا التي بدأت في عام 1936 في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في باسادينا. وقاوم جودارد؛ إذ لم يكن قادرا على الانتقال إلى قيادة فرق هندسة الصواريخ الكبيرة، مثل تلك التي ستنبثق تحت قيادة فون براون وكوروليف. وظل كما هو، وقرر العمل مع حفنة من الرجال الذين وعدوه بالحفاظ على سرية الأمر. ويمكن أن يعتبر صاحب أول صواريخ تعمل بالوقود السائل، ولكن فيما بعد أصبح تأثيره على التطور التكنولوجي شبه منعدم. ولعل تأثيره الأعظم سيظل دائما يتمثل في إلهام الآخرين بالإيمان بالصواريخ باعتبارها وسيلة لرحلات الفضاء.
10
في الوقت الذي كان فيه جودارد يصل إلى طريق تكنولوجي مسدود، كان ثمة فريق في الجيش الألماني يحقق إنجازات جوهرية. في أواخر 1932، وقبل شهرين من تولي هتلر منصب مستشار ألمانيا، عين الجيش فيرنر فون براون البالغ من العمر وقتها عشرين عاما لكتابة رسالة دكتوراه سرية حول الصواريخ التي تعمل بالوقود السائل. كانت بداية بسيطة للغاية، ولكن سرعان ما تضخم المشروع للغاية بفضل أموال إعادة التسليح النازية وموهبة فون براون وافتتان ضباط المدفعية ب «بالصاروخ البعيد المدى» - الذي أطلقنا عليه فيما بعد الصاروخ الباليستي - باعتباره سلاحا حاسما مفاجئا. في عام 1935 تحالف الجيش مع القوات الجوية السريعة البزوغ؛ وفي عام 1936 بدأت القوتان في إنشاء مركز صواريخ مشترك، سري للغاية في بيناموندا، على جزيرة في بحر البلطيق شمال برلين. وتحت القيادة الكاريزمية لفون براون ولقائده العسكري، المقدم (اللواء فيما بعد) فالتر دورنبرجر، سرعان ما عين مشروع الصواريخ في الجيش متخصصين في الجيروسكوب (أداة تستخدم لحفظ التوازن وتحديد الاتجاه) والديناميكا الهوائية، ومهندسين ميكانيكيين وكيميائيين لتحقيق إنجازات كبيرة في تحديد اتجاه الصواريخ والتحكم بها، وفي الديناميكا الهوائية فوق الصوتية، ومحركات الصواريخ.
11
كان هدفهم العسكري الأول صاروخا باليستيا يطلق عليه «إيه-4»، وهو رابع تصميم في سلسلة الصواريخ الخاصة بهم، كان الغرض منه حمل رأس حربي من مادة شديدة الانفجار أو غاز سام يزن طنا متريا واحدا (2200 رطل) لمسافة 175 ميلا على الأقل. ولقب دعاة النازية هذا الصاروخ فيما بعد باسم سلاح الانتقام 2 أو «في-2». بحلول عام 1939، بدأ فريق دورنبرجر وفون براون اختبار محركات الأكسجين السائل/الكحول التي تحتاج إلى قوة دفع 25 طنا متريا (55000 رطل) للارتفاع بها. لم يكن جودارد والسوفييت قد تجاوزوا قط قوة دفع تبلغ بضع مئات من الأرطال. ووفر الثنائي الألماني التمويل لبناء أكبر وأسرع نفق هوائي يتجاوز سرعة الصوت في بيناموندا، لكي يتقنا الديناميكية الهوائية لمركبة تصل سرعتها إلى خمسة أضعاف سرعة الصوت. واتضح أن إنشاء نظم التوجيه اللاسلكي والتحكم هو مهمتهم الأكثر تحديا، مما أثمر توسعا كبيرا في الخبرات داخل المؤسسة وفي الخبرات الجامعية، بالإضافة إلى المزيد من التعاقدات مع شركات صناعية. كانت القيادة العسكرية مقتنعة تمام الاقتناع بأنها ستحظى بسلاح فائق، ولذا كانت على استعداد لأن توجه للمشروع مبالغ طائلة، رغم شكوك هتلر، الذي خفض أولوية إنشائه في عامي 1940-1941. ولكن ليس ثمة دليل واضح على أن هذا الإجراء بطأ تطور التكنولوجيا، على الرغم من محاولة دورنبرجر بعد الحرب إلقاء اللوم على القائد لأنه أخر صاروخ «إيه-4»/«في-2» إلى الحد الذي جعله غير قادر على تغيير مسار الحرب.
صفحة غير معروفة