بزوغ حركة رحلات الفضاء
في ألمانيا والنمسا، عتمت الفوضى والثورة التي أعقبت الهزيمة في الحرب على قصة جودارد. ولكن في عام 1923، نشر هيرمان أوبرث كتابا صغيرا في ميونخ: «وصول الصاروخ إلى فضاء ما بين الكواكب». كان قد تسرب من كلية الطب، وخدم في الحرب طبيبا، ثم كتبه باعتباره رسالة دكتوراه في الفلك ولكن جامعة هايدلبرج رفضت قبولها. تضمن الكتاب أفكارا حول تكنولوجيا رحلات الفضاء اتسمت بأنها أكثر تقدمية من أي شيء نشر من قبل خارج روسيا. وحالف أوبرث الحظ أيضا في وطنه الأم رومانيا؛ فقد تبنى قضيته ماكس فالير، طيار نمساوي كان يدعو لنظرية شبه علمية مشهورة تنص على أن الجليد يشكل معظم الكون. في عام 1924، نشر فالير مقالات في مجلات وكتابا يروج لأفكار أوبرث. وأثار الحماس الوليد للفضاء حركة صغيرة، في المجتمعات المتكونة في النمسا عام 1926 وفي ألمانيا عام 1927.
5
في الاتحاد السوفييتي الجديد، ألقت الحرب المشئومة وبعدها الثورة البلشفية والحرب الأهلية بظلالها القاتمة على كونستانتين تسيولكوفسكي، فتركته في فقر مدقع؛ بل إن الشيوعيين قد ألقوا القبض عليه لفترة قصيرة. وذهبت شهرته في الأعمال العلمية الشهيرة قبل الحرب أدراج الرياح. ولكن في عام 1924، عادت هذه الشهرة إلى الحياة مرة أخرى نتيجة إثارة شائعات عاصفة حول جودارد وأيضا نشر كتاب أوبرث. وتمسك به الروس المتحمسون للفضاء باعتباره بطلهم الوطني، وأعادوا إصدار منشوراته السابقة للحرب، كما كتب هو المزيد من المنشورات. كما ظهر من العدم آخرون كانوا يعملون على فكرة السفر إلى الفضاء منذ ما قبل الحرب، ومن أكثرهم شهرة فريدريك تساندر. بينما انحلت سريعا أول جمعية لرحلات الفضاء في العالم، التي تأسست عام 1924، عزز المناخ اليوتوبي لروسيا الشيوعية الأفكار المتعلقة بالفضاء ربما بدرجة أكبر من وسط أوروبا في انقلاب ما بعد الحرب.
6
في الناحية الأخرى من المحيط الأطلنطي، كان جودارد يلقي خطبا جماهيرية، ويكتب مقالات يرد بها على الصحافة، ولكنه كان في أغلب الوقت يعمل بصمت على الصواريخ في جامعة كلارك، بتمويل من مؤسسة سميثونيان. لم تنجح فكرة تعديل الصاروخ ذي المسحوق الأسود باستخدام الخراطيش، التي راودته قبل الحرب؛ إذ كانت في الأساس بمثابة مدفع آلي يطلق رصاصات فارغة. في عام 1921، تحول إلى استخدام الوقود السائل، الذي ذكره بتحفظ شديد في الملاحظات الختامية لأطروحته «وسيلة للوصول إلى الارتفاعات القصوى». واختار الجازولين والأكسجين السائل اللذين يسهل الحصول عليهما. وبعد إحرازه تقدما بطيئا كاد يحبط أبوت، الذي صار في ذلك الوقت رئيس مؤسسة سميثونيان، أطلق أول صاروخ يعمل بالوقود السائل في العالم في يوم 16 مارس 1926 القارس البرودة، في أوبرن بماساتشوستس. ولم يحلق هذا الشيء الرديء الشكل إلا مسافة 184 قدما فقط، ولكن جودارد لم يخبر أي شخص خارج دائرته الحميمة وأبوت. كان جودارد دائم العمل على تطبيقات جديدة يسجل لها براءات اختراع، وكان يتمنى أن يصل بصاروخه إلى الكمال قبل أن يعلن عنه للعالم. ولم يحالفه الحظ مرة ثانية إلا في صيف 1929 عندما أثار إطلاقه لأحد الصواريخ موجة جديدة من التغطية الصحفية. وتدخل الطيار الشهير تشارلز ليندبرج مع مؤسسة جوجنهايم، بادئا جولة جديدة أكثر تعقيدا من تطوير الصواريخ في نيومكسيكو في الثلاثينيات من القرن العشرين.
تكونت جماعات أوروبية تهتم بالصواريخ نحو عام 1930، جاهلة تماما بأمر عمل جودارد وتجاربه التي استخدم فيها الوقود السائل، آملة في تطوير تكنولوجيا تستطيع التمكين من إجراء رحلات الفضاء في وقت قريب؛ ففي ألمانيا، انتشرت موضة الصواريخ والفضاء في عام 1928 بعد أن انضم ماكس فالير لفترة قصيرة مع وريث السيارات فريتز فون أوبل. وقاما معا وكل على حدة بإجراء سلسلة من التعديلات الثورية المذهلة، وإن لم تكن ذات جدوى تكنولوجية، على صاروخ المسحوق الأسود مع السيارات وعربات السكة الحديد والمزلجات الجليدية والطائرات الشراعية. وأصدر مخرج السينما فريتز لانج، الذي اشتهر بفيلمه «ميتروبوليس» فيلما عن رحلات الفضاء بعنوان «امرأة في القمر» («وومان إن ذا مون») في خريف 1929، مستعينا بأوبرث وكاتب علمي صغير السن يدعى ويلي لي، كمستشارين علميين. أغرى لانج أوبرث بالحضور من رومانيا إلى برلين، ثم موله ليطلق صاروخا يعمل بالوقود السائل من أجل العرض الأول للفيلم.
7
استأجر أوبرث رادولف «نيبل» وكان طيارا مقاتلا ومهندسا سابقا يتسم بالمراوغة، لمساعدته، ولكن أوبرث كان مخترعا يائسا؛ فبعد إصابته بانهيار عصبي، عاد مرة أخرى إلى رومانيا في نهاية عام 1929. وحصل نيبل سرا على 5000 مارك من الجيش الألماني، الذي كان قد بدأ يوجه نظره إلى التكنولوجيا، لإكمال صاروخ أوبرث وإطلاقه. ولم يثمر ذلك عن الكثير بخلاف بعض اختبارات محركات ذات نطاق ضيق شارك فيها أوبرث في يوليو 1930. بيد أن نيبل أنشأ في ذلك الخريف ميناء برلين للصواريخ في مستودع ذخائر مهجور في الجزء الشمالي من المدينة، بمساعدة الجيش. وأصبحت مجموعته التجريبية الضعيفة الإمكانيات هي النشاط الأساسي لرابطة السفر عبر الفضاء، التي كانت تتراجع بسبب مشاكل مالية وبسبب حلول الكساد الكبير. في عام 1931 أطلقوا أول صواريخهم البدائية العاملة بالوقود السائل. وكان أحد المشاركين المؤقتين طالب هندسة أرستقراطيا يدعى فيرنر فون براون، ولد عام 1912، الذي أصبح مهووسا برحلات الفضاء بعد محاولته قراءة كتاب أوبرث الرياضي المعقد باعتباره طالبا في الثالثة عشرة من عمره.
8
صفحة غير معروفة